بهير البهّار


عقاب يحيى

كان بهير البهار سياسيًا من طراز نادر -كما يطلق على نفسه- شعبيًا، وشعبويًا، وشعيبيًا.. أي أنه يحب التفاصيل كثيرًا، ويدخلك في شعاب وشُعيبات تتفرع إلى غيرها؛ حتى تصبح متاهة! وهو فخور يهتزّ اصطهاجًا لقدراته العبقرية.

لم يكن يحب الثقافة وقراءة الكتب، أو التحليل والتركيب، ويقول دومًا: ربي خلقني هكذا بهذه الموهبة الشعبوية الخارقة. مع ذلك لا ينقصه التنظير إن فُتح المجال له، حيث إن ثقافته الالتقاطية -شأن العديدين- تندمج مع خبراته الشعبية “الهائلة”، فيمزج تلك العبارات الكبيرة المفخّمة؛ على غرار المصطلحات الضخمة التي تحتاج عدة دقائق حتى تخرج من الفم، مع الكلمات السوقية. يقول إنه ينتشلها من قاع المجتمع، كمن ينتشل دلو الماء من قعر بئر ضحل، اختلطت فيه البقايا بالرواسب، ثم يميل إلى عشقه لتلك الكلمات التي حفظها عن ظهر قلب: الفقر والتعتير والفقراء ملح الأرض، والكادحين، والشغيلة، والأجراء والمعترين والشحاذين والبطالين والعمال وأصحاب الدخل المحدود.. وغير ذلك من كلمات غالبًا ما يسوقها في إطار يشبه القصّ الشعبي، مع تركيز واضح على دوره البارز في تلك الحكايا، وإبداء الإعجاب بالحكواتي، والتراث الشعبي، بفارق؛ أنه غالبًا ما يكون هو البطل، أو المحور الرئيس، أو المشاهد، والفاعل، والناصح، والموجه..

معارف بهير كثرٌ، لا يحصون، ويحمد الرب أن عالم (الموبايل والسكايب والفيسبوك والأنترنيت والويتس أب) وكل الأنواع والتفرعات، فتح له مصاريع الدنيا.. حتى إنه بالكاد يتوقف عن الكلام والاتصالات، لدرجة أن لسانه يصاب بالجفاف، وتراه مبحوح الصوت غالبًا، لكنه فخور ومنتش بما يفعل. وحين يستعرض معارفه يحتاج إلى ساعات! فهو يتواصل مع جميع النماذج والأشكال، وتلقى المرأة اهتمامًا خاصًا، وإن عبر نوع من دهاليزية مرعوبة.. تعدّل “موقفه” من بهيرة زوجته، بتلك الهيبة التي يغلفها بالاحترام والمساواة، والديمقراطية..

ربما عقدة نقصه الوحيدة، أو عقدته الباطنية.. تعود إلى علاقته بزوجته، وشعوره الدوني إزاءها. على الرغم من أنه لا يُظهر ذلك أبدًا، بل على العكس! فهو كثير المدح والإشادة بها، وبقدراتها، وملكاتها التحليلية المعمقة، والأدبية التي تقترب من تعاطي الشعر وفنون الأدب.. بينما هو لم تنحُ موهبته تلك الوجهة.

بهيرة مثل بهير مثقفة.. ليس لأنها معلمة ثانوي بشهادة عليا، لم يحصل عليها؛ بل لكونها “مبدعة” من طراز خارق، مع أنها عند الكثيرين عادية، ومجرد واحدة رغوية.. أما بهار فقد فشلت محاولاته تقديم امتحان الشهادة الثانوية، لنحو سبع مرات (لا يعترف بأنه دون شهادة عليا).. وعديدًا ما صرّح عندما تتخمّر شعبيته، أنه، وإن حُسب في عداد المثقفين؛ إلا أنه يمقتهم، ولا ينتمي لعجرفتهم وفوقيتهم، لكن مع بهيرة شيء آخر.. فهو يقرّ علنًا، وفي زواياه الحادة أنها مثقفة نوعية، وأنها على الرغم من عبقريتها البارزة إلا أنها متواضعة.

تتولى بهيرة في جلساته العامة -إذا ما حضرت- التحليل الفلسفي والفكري والاقتصادي والسياسي -أيضًا- بينما يختصر دوره على هزّ الرأس، وتأييدها بغمر شعبي يؤيد ما تكتب وتقول.

لكن بهار الذي اشتهر بالتبهير -وهو نوع من المبالغة التي تصل إلى حدّ الكذب- يمقتها في داخله، ويلعن الساعة التي اقترن بها، ويعتبر أن إيمانه بالثورة حالة شمولية. قد تكون هي باعثها، وموضوعها؛ وإن رفض الإقرار بذلك علنًا. لهذا يحاول التعويض خلسة، وتراه يقيم شبكة علاقات واسعة كالعنكبوت، لكن خيوطه تسجنه حتى الاختناق، ولهذا يرتجف عندما يقترب من الجَدّ، وتحضر بهيرة كابوسًا مانعًا، وسيفًا يطارد رقبته الثقافية بالالتواء، وربما الدخول في قعر النكوص.

بهير الشعبي، الشعبوي جدًا، الوطني، الثوري… قرر في لحظة تجلٍ الانتقال إلى الداخل وحمل السلاح، والقتال في الميدان، والنزول إلى العمق. وبالوقت نفسه، قرر أثناء خلواته، و”استراحة المحارب” أن يضاهي بهيرة، بل يبزّها ثقافة؛ فراح ينهل من معين سائد، وجده أقصر الطرق وأسهلها لمقارعتها.

يقال إن بهير بهرته الأسلحة، فربط كثيرها بهواتفه النقالة التي كثرت وتنوّعت -دلالة الهيبة والمكانة- وأنها كانت السبب في إصابته ببعض الشظايا التي اختطفت شيئًا من لسانه، فبات يلثغ ولا يستطيع إخراج الكلمات بشكل مفهوم، وكانت تلك خسارته، بل نكبته الكبرى التي هي أعظم من فقدان يده وقدمه، لأن اللسان عدّته ووسيلته.. لهذا قرر أن يبدل اختصاصه من اللسان إلى الأصابع! وبات مدمنًا على لعبة الأصابع، بينما بهيرة طلقته بالثلاث بعد أن فقد خاصيته اللسانية.




المصدر