on
أعراف القراصنة … والقانون الدولي
حبيب عيسى
1
مما لا شك فيه أننا في طور متقدم عن الأطوار السابقة، في مجال تحديد مفهوم قواعد العلاقات الدولية، لكن من المشكوك فيه أن العالم اليوم محكوم بـ “القانون الدولي”، بما يوحي به من المساواة بين أشخاص القانون الدولي (الدول)، ومن الإلزام العادل.
(فالقانون الدولي) عبر تاريخ البشرية كان تعبيرًا عن الواقع الموضوعي لقوى الأطراف، ومفهومها للعلاقات الإنسانية؛ فالقبائل، والإمبراطوريات وصولًا إلى دول العصر الراهن التي تصوغ (قوانين دولية) للغزو، والقرصنة، والاستعمار، والهيمنة، وفرض إرادتها على الآخرين، لا يُمكن أن تكون -بأي حال من الأحوال- منسجمة ملتزمة متكاملة، متكافلة لبناء مجتمع دولي متوازن يحكمه القانون، بكل إسناداته الشرعية، وتطبيقاته المشروعة.
ولا بد من الاعتراف أن فقهاء القانون الأوروبيين حاولوا إرساء قواعد للقانون الدولي، تعبّر عن رؤيتهم للعالم، بحيث تكون أوروبا هي العالم الأول، وأن شعوب العالم الأخرى تأتي عالمًا ثانيًا، وثالثًا، ورابعًا، تحت الهيمنة الأوروبية؛ مما أدى إلى عوار في ما يسمونه “قانون دولي” بما يتعلق بالمساواة بين “الدول” كأشخاص للقانون الدولي، والصورة الأوروبية كما رسمها الأستاذ “رينه جان دوبوي” في كتابه “القانون الدولي” الذي يؤرخ لتطور ذلك المفهوم الأوروبي للعلاقات الدولية، يقول دوبوي: “لقد ظلت اليونان، حقبة طويلة من الزمن، تُمزّقها الصراعات.. إلى أن فرض عليها (فيليب) الاتحاد بالقوة، وتبعه في ذلك الإسكندر، وذلك قبل أن تندمج شبه الجزيرة اليونانية في دولة أوسع بكثير، وهي الإمبراطورية الرومانية. وتّعّد هذه الإمبراطورية أكمل نجاح لمحاولة استيعاب شعوب مختلفة في كيان عالمي”، ويضيف دوبوي: “في عام 212 م، صدر قانون (كاراكالا) الذي عدّ جميع سكان الإمبراطورية الرومانية مواطنين رومانيين؛ مما ساعد على انتشار الدين المسيحي، حيث كان القديس بولس يقول: (لا يونانيون ولا برابرة، ولا يهود، ولا وثنيون).. ولم يكن بوسع “مدينة الأمير” أن تبقى مغلقة على نفسها، لأنها كانت جزءًا من المدينة المسيحية التي كانت بداية المدينة الإلهية”(4)، وهذا يُفسّر كيف عرفت القرون الوسطى، في مجال الأنظمة، وحدة الحكومة الإلهية؛ وعرفت في مجال العقيدة، عالمية القانون الكنسي. كانت المدينة المسيحية تبدو كأنها هرم من السلطات المتسلسلة: فالأسياد، والبارونات، والدوقيات، والملوك كانوا تابعين مبدئيًا للإمبراطور الذي يخضع بدوره لسلطة البابا.. كان الإمبراطور في القمة، يطالب بالسلطة الزمنية التي كان يدعّي استلامها مباشرة من الله تعالى، في حين أن البابا كان يدعّي أنه تسلم السلطتين الزمنية والروحية، وعهد بالأولى إلى الإمبراطور الذي يظل مرتبطًا به، بشأنها. كانت السلطة البابوية كافية لفرض الحد الأدنى من النظام في العلاقات الدولية، ولا سيما عن طريق وضع حد للجوء إلى القوة، إذ كانت الحرب مُحرّمة في بعض الأماكن، وفي بعض الأزمنة، وفيما يتعلق بالاستعمار فإن البابا كان يزوّد الأمراء بالسلطة اللازمة للسيادة على الأراضي التي تم غزوها في (سبيل نشر الإيمان).
2
المنشور البابوي (الكسندرين) عام 1493 رسم الحد الفاصل بين الأراضي التي سيستعمرها الإسبانيون، والبرتغاليون، فقد كان بوسع الحبر الأعظم أن يفرض على الأمراء عقوبات على جانب من الأهمية، إذ كان يتمكن بواسطة الحرمان، أن يُحرّر رعايا الأمير من واجب الطاعة، وهكذا نلاحظ توافر سلطة عليا ذات طابع كنسي، تستطيع، على ضعفها، فرض مذهب ذي اتجاه عالمي. (الرأي لدوبوي). وخلال القرن الإسباني الذهبي، أضفى علماء اللاهوت قوة فائقة على المذهب الذي يتوخّى تنظيم السلطة، وقد بحث فرانسيس دو فيتوريا 1480- 1546 بشكل خاص عن مُبررات للاستعمار الذي أبرزت أهميته الاكتشافات. وقد نبذ الأسباب المُستمدة من همجية الشعوب المُحتلة، وأسنده إلى حق الاتصال بين الأمم، مؤكدًا بذلك مفهومه العالمي للمجتمع الدولي. وكان يساور فرانسيسكو سواريز 1548- 1617 الرغبة نفسها في الوحدة، حيث يترتب على كل أمير أن يعمل لصالح بلاده، وأن يفرض على غيره من الأمراء احترام الحق الطبيعي. لكن صدف، عندما كتب سواريز ما تقدّم، أن فقد العالم المسيحي وحدته المتداعية، إذ رفضت “حركة الإصلاح الديني” سلطة البابا، كما أن تأليف دولة قوية قضى على سلطان الإمبراطور، فانهار كيان القرون الوسطى، وانتشرت الدول المستقلة بعد أن تحررت من أي سلطات عليا، قال هوغو دوكروت الملقب بـ (غروشيوس) 1583- 1646 مؤسس القانون الدولي الحديث الذي أقصته نظرته للقانون الدولي من زاوية علمانية عن أسلافه من علماء اللاهوت، في كتابه (قانون الحرب والسلم) بالتمييز بين الحق الطبيعي، والحق الإرادي، فالأول يضع قواعد سامية يترتب على الدول احترامها، بحيث أن رعاياها يستطيعون أن يستمدوا، من النظام غير العادل، حق مقاومة الاضطهاد والحق الإرادي يؤلف القانون الوضعي المنبثق عن الأعراف والمعاهدات، ويرى غروشيوس أن الدولة مستقلة، ولكنها لا تستطيع أن تبقى منعزلة. ولدى تحول دولة الأمراء إلى دولة كيانها الأمة، نتيجة لتوسع الأنظمة السياسية الموروثة عن الثورة الفرنسية، استبدلت النزاعات بين الأسر المالكة، بحروب دولية نظامية.
3
إذا نظرنا إلى الفترة الطويلة الممتدة بين القرن التاسع عشر حتى عام 1914 نلاحظ أن العلاقات الدولية تستمد وجودها من قانون ناشئ عن الأواصر القائمة بين الأطراف المعنية، إلى أن نمت فكرة عقد المعاهدات الآيلة إلى إلغاء المنازعات المسلحة، أو وضع حدّ لها، عن طريق دعم التمثيل الدبلوماسي، ولكن هذه الوسائل لم تكن كافية لاستتباب السلم. ثم ظهر مبدآن مُستمدان من التجارب، لا من المذاهب، يتوخيان تأمين نوع من الاستقرار في أوروبا، وهما “مبدأ التوازن” الذي يهدف إلى تجنب النتائج الخطرة لتعديل ميزان القوى الذي قد ينشأ عن توسع دولة على حساب الدول الأخرى. معاهدة “وستغاليا” عام 1648 تُحابي فرنسا على حساب النمسا. أما المبدأ الثاني فهو “مبدأ عدم التدخل” عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهذه القاعدة مُستمدة من مبدأ سيادة الدولة، ولكنها تتعرض لتفسيرات شتى تُعطيها الحكومات المعنية، وعندما أعلنت بلجيكا عام 1830 استقلالها، وانفصالها عن هولندا اعترضت فرنسا على تدخل بروسيا. وفي العام نفسه قضت الحكومة الروسية على الثورة البولونية، ورفضت فرنسا التدخل في قضية اعتبرتها داخلية صرفة. وفي الحقيقة إذا وجدت إحدى الدول العظمى أن وضعًا ما، يتنافى مع مصلحتها؛ فإنها تتدخل باسم مبدأ توازن القوى. أما إذا بدا لها أن هذا الوضع يُحققّ مصالحها، فإنها تعترض على مبادرات الحكومات الأخرى عملًا بمبدأ عدم التدخل، وبذلك فإن كلًا من هذين المبدأين يُتيح للدول العظمى إمكانات سياسية متعددة!
4
لننتبه إلى أنه منذ ذلك الوقت بدأ يُطلق مصطلح “الاستقرار الدولي”، والمقصود به واقعيًا “الاستقرار الأوروبي”، ومصطلح “العلاقات الدولية”، والمقصود “العلاقات بين الدول الأوروبية”، وهكذا.
نعود إلى دوبوي الذي يتابع السرد، فيقول: “عقب الانقلابات التي انبثقت عن الثورة الفرنسية وحروب نابليون، تألفت أحلاف لا تهدف إلى إثارة الحروب، وإنما إلى تجنبها، وإتاحة الفرصة لإنماء التجارة بين الأمم، وهكذا نشأ الحلف المقدس، ثم الاتحاد الأوروبي”.
لقد ضم الحلف المقدس رؤساء دول روسيا، وبروسيا، والنمسا، ثم فرنسا، وانكلترا، ورغم انشغال الحلف بقضايا إقليمية، كضمان مخطط الحدود المرسومة، في مؤتمر فيّنا عام 1815، فقد كان له هدف عقائدي مؤداه الحفاظ في العالم على النظام الملكي، وشرعيته ضد أي فكرة هجومية منبثقة عن عقلية عام 1789غير أن الحلف المقدس أخذ بالتدهور لأنه كان ينادي بعقيدة متداعية، وأصبح يُمثل الأقلية ولا سيما بعد الثورة التي نشبت في فرنسا عام 1830، وانتشار الأفكار التحررية التي كانت تتوخى تحرير الشعوب الأوروبية الواقعة تحت سيطرة دولة أجنبية، وهكذا انتشرت حركة القوميات التي أخذت تطالب بإنشاء دولة حيثما يتواجد سكان تتوافر لديهم خصائص الأمة؛ فتداعت (الدول الكبرى) لتأليف (الاتحاد الأوروبي)، وقد كان هدف هذا الاتحاد مزدوجًا: المحافظة على متابعة الاتصالات بين الدول الأعضاء، ودعم السلم الذي تقتضيه المبادلات التجارية التي أخذت تنمو بسرعة في أوروبا الرأسمالية. وتبعًا لذلك، فقد أنشأ الاتحاد الأوروبي أول الاتحادات الإدارية، وهي منظمات دولية مُتخصصة في تسوية القضايا التي يتطلبّ حلها تجاوز المجال القومي مثل نظام نهر الدانوب الدولي، ونظام المناطق الواقعة وراء البحار بعد التوسع الاستعماري.. يُطلق دوبوي على هذا الاتحاد الأوروبي مصطلح (الحكومة الدولية) التي تستمد سلطتها من تحالف القوى الأوروبية.
5
يعترف دوبوي بشجاعة: “إن هذه الوحدة الفعلية للعالم الغربي كانت تحول دون المنازعات بين دولتين، أو عدد ضئيل من الدول (الأوروبية)، بينما كانت تؤدي إلى امتداد الحرب إلى العالم بأجمعه”. مرة أخرى تصدّع الاتحاد الأوروبي، وتداعت الدول الكبرى من جديد إلى مؤتمرين في لاهاي عام 1889، وعام 1907 في محاولة لإقامة السلم (بين الأوروبيين طبعًا) عن طريق القانون، لكن هذه الدول لم تتمكن من الاتفاق على نزع السلاح، والتحكيم الإلزامي، فاكتفت بتجديد مبادئ قانون الحرب الذي لم تلتزم به عندما نشبت الحرب العالمية الأولى التي امتدت إلى جميع أنحاء المعمورة، فظهرت الحاجة إلى تنظيم جديد، وتخلتّ الولايات المتحدة الأميركية عن عزلتها، وترأسّ الرئيس ويلسون الحملة في سبيل (هيمنة القانون الدولي)، واقترح على الدول إبرام عقد اجتماعي، أصبح في ما بعد “ميثاق عصبة الأمم” الذي وقعّه ولسون في فرساي، ورفض مجلس الشيوخ الأميركي توقيعه، فغابت أميركا عن العصبة، ولم تكن هذه المؤسسة تتسم بصفة عالمية لعدم قبولها في الأصل “الدول الأعداء” كما جمدّت نفوذ (العصبة) شروط الحصول على إجماع الدول الأعضاء في أجهزتها لاتخاذ مجرد توصيات، ليس لها صفة تنفيذية إلى أن داهمتها الحرب (الأوروبية) الثانية التي لم تبق من الدول التي تتمتع بالسيادة الحقة سوى دولة الولايات المتحدة الأميركية، ودولة الاتحاد السوفييتي السابقة. لذلك لا يُستغرب أن تشرف الدول العظمى المنتصرة على إنشاء منظمة جديدة تحمل اسم “هيئة الأمم المتحدة” يترأس شؤونها التنفيذية “مجلس الأمن” الذي وطدّ سيطرة الدول المنتصرة وثبتهّا. ولم تُمنح الجمعية العامة التي تضم جميع الدول الأعضاء أي نفوذ يذكر. فإذا كانت الدول (الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وفرنسا، وتايوان) مُتفقة فيما بينها يُمكنها أن تفرض وجهة نظرها على بقية العالم، وهذا هو أسلوب (الاتحاد الأوروبي) الموضوع على مستوى عالمي، يؤيده ميثاق المنظمة، مما يعني أن هيئة الأمم المتحدة ماهي إلا إحياء جديد لما أراده “الحلف المقدس”.
لقد اتفقت “الدول الخمس” على تأسيس دولة “إسرائيل” 1948، ودول “سايكس – بيكو” في الوطن العربي، ومواجهة الأزمة الكورية، ثم بدأت الحرب الباردة التي ليست حربًا عادية، إذ باستعمالها الوسائل الهدامة، والنفسية، فهي لا ترمي إلى غزو الأراضي بقدر ما تنشد كسب النفوس، دون أن تُهمل الأعمال العسكرية التي عُهد بها إلى بعض الهيئات في أنحاء العالم، واستمرت 40 عامًا، ثم ها هي الحرب الباردة تضع أوزارها، وتعود “دول مجلس الأمن الخمس” لتتفق على اقتسام مناطق النفوذ في العالم، وفي الوطن العربي خاصة، وهكذا نجد أنفسنا أمام ما يسمى “قانون دولي” هو في حقيقة الأمر أقرب إلى أعراف القراصنة، ذلك أن أي تشريع سواء كان قانون خاص، أو قانون عام، أو قانون دولي لا ينطلق من مبدأ المساواة بين المطالبين بالالتزام بمواده إلى غائية تحقيق تلك المساواة بينهم، يفتقد مستنده الشرعي كقانون، وتفتقد كافة النصوص والممارسات التي تنتج عنه مشروعيتها في الإلزام والالتزام.
المصدر