الإسلام أو الجزية أو السيف!


محمد حبش

قبل أقل من أسبوع من جريمة المنيا وقتل ركاب الحافلة، أعلنت التنظيمات الجهادية السريّة في مصر أن النصارى أمامَ خيار واحد من ثلاثة: الإسلام أو الجزية أو السيف!

بدت هذه التصريحات سخرية مستفزة في المجتمع المصري، مناقضة لقيم العيش المشترك في الشريعة والقانون، وبدا أصحابها خارج التاريخ، ولم يسأل أحد من سيأخذ الجزية منهم، فالحكومة كافرة، ودولة الخلافة ليس لها عنوان يصل إليه النصراني، ولا توجد جهة تتفاوض عن أمير المؤمنين لإنجاز عقد الجزية المطلوب.

ولكن الكارثة أن القتلة لا يعنيهم هذا التخبط في شيء، فهم أعذروا وأنذروا ولم يبقَ إلا تنفيذ حكم الله! وبالفعل يصل الأشرار الملثمون إلى باصين عاثرين يضمّان أطفالًا ونساء في طريق المنية الصحراوي، لينفذوا ما يسمونه حكم الله في النصارى بإطلاق الرصاص عليهم وقتل 35 نفسًا بريئة، وإصابة عدد مماثل سقطوا جرحى الجنونِ الطائفي الغادر.

الحادثة باتت جزءًا من سلسلة متتالية من الجرائم التي ترتكب بمنهجية سوداء ضد المسيحيين الأقباط، وبعد ذبح المسيحيين في ليبيا، واستهداف الكنائس في سيناء والإسكندرية، تأتي هذه الجريمة المروّعة استكمالًا لسلسة الجرائم المروعة التي ترتكب بحق الإنسان في هذا الجزء المنكوب من الأرض.

لا أكتب هنا تقريرًا إخباريًا، وقد تكشف الساعات القادمة معلومات أخرى، ولكن ما يعنيني هو معالجة هذا الواقع الأسود في إطار التفكير والتكفير الذي صار ديدن كل نشاط عنيف في هذا الشرق المنكوب.

لا أعتقد ان أحدًا سيؤيد هذه الجريمة السوداء، ولست متأكدًا إن كان (داعش) سيصدر -كالعادة- بيانه في تأييد هذا اللون من الجهاد الإجرامي، كما عودنا في مواقف مشابهة.

ولكن في الوقت نفسه يجب الاعتراف بأن هذا الخيار المثلث: الإسلام أو الجزية أو السيف!! هو بالضبط ما نتعلمه اليوم على مقاعد الدرس في معظم المعاهد الدينية الأزهرية والسلفية وغيرها، من دون أن يمتلك واضع المنهاج الجرأة ليقول: إن ذلك ورد في سياق لغة الحرب في الماضي، وإن الماضي للماضي، وهو لا يصلح اليوم، وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون.

ليس القاتل فقط من أطلق الرصاص. بل أولئك الذين باتوا يمارسون، باطراد، سياسة ازدراء الأديان واحتقار المختلف دينيًا، وتشويه اعتقاده وتفكيره، وهي سياسة سوء لا بد أن تقود في النهاية الانفعاليين والغرائزيين إلى سلوكيات عنيفة، يستكملون بها ما يسببه الازدراء والاحتقار ضد الآخر.

ليس القاتل فقط هو من يطلق الرصاص. بل أولئك الذين يحتقرون الضحية ويقررون مصيرها في جهنم، ويرفضون أن تسمى باسم يليق بها كروح بريئة، قُتلت ظلمًا وبغيًا وعدوانًا.

ليس القاتل فقط من يطلق الرصاص. بل أولئك الذين يحشدون في دم الجيل الناشئ ثقافةَ الاستعلاء والكراهية ضد كل مختلف في الدين، ويتقاسمون مقاعد الجنة ويبيعون صكوك غفرانها وحورياتها، ويحددون مقاعد الآخرين في الجحيم.

ليس القاتل فقط من أطلق الرصاص. بل أولئك الذين أخبروه أن الإسلام أو الجزية أو السيف هو حكم الله في الأديان، وأن الأمة لا تزال كافرة حتى تحكم بما أنزل الله، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.

الأديان رسالات السماء للأرض، والأصل في الأديان احترامها وتقدير أهلها، وهذا أمر بدهي، وهو مقتضى العقل والعدل والمساواة التي هي الجوهر العميق للأديان، ولكن الكارثة أنك ستُواجَه بسيل من الأدلة أن الازدراء والاحتقار للمشركين هو منهج قرآني أصيل، فالقرآن هو من قرر كفر النصارى بقوله: “لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وإن الله هو المسيح ابن مريم”، ثم نص بوضوح في المشركين أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، وإنما المشركون نجس، وأنهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا، وأنهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت…. إلى آخر هذه القائمة الطويلة.

وفي مقابل ذلك تنطلق قنوات تلفزيونية شريرة، يقدمها كهنة ينتسبون للقبط تبث من قبرص وتتخصص في إهانة الإسلام واحتقار قيمه، وهي قنوات سوء وشر، وتشكل مع قنوات التحريض ضد النصارى سلسلة ظلمات بعضها فوق بعض.

يبدو الدفاع عن مساواة الأديان واحترامها عملًا عابثًا، فكيف يمكنك أن تحول ظواهر هذه النصوص وهي في متن القرآن ولا ينفع معها أي وجه من توهين الإسناد أو اتهام الرواة أو القول بضعف الرواية أو نكارتها ووهائها.

إن المواجهة هنا في جوهر النص، وهي منازلة لا يمكن تأجيلها على الإطلاق، بعد أن صارت جوهر ما يقدمه التكفيريون ليس فقط في حوارات بلهاء، بل في ممارسات مباشرة، يسقط فيها عشرات الضحايا، ومن الواضح أنهم جاهزون لارتكاب المزيد.

لا يمكن تبرير هذه المواجهة الساخنة بالقفز فوق الكارثة، والاكتفاء باختيار نصوص الرحمة والاحسان، ثم دفن الرؤوس بالرمل بعد ذلك، وتجاهل ما يحمله التكفيريون من براهين مقابلة تعزز خطاب الكراهية والتمييز.

من المؤكد أن نصوص التسامح والغفران تعادل نصوص القسوة والشدة والتمييز، وربما تزيد عليها، وفي القرآن الكريم ذكرت معابد الأمم باحترام بالغ، وخص منها الصوامع والبيع واعتبر احترامها وحمايتها واجب الدولة المسلمة، “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع وبِيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا..”

وفي القرآن الكريم أيضًا ذُكر القسيسون والرهبان والأحبار والربانيون باحترام بالغ: “ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله…”

وفي القرآن الكريم ذكرت باحترام رسالات الأديان الأخرى التوراة والزبور والإنجيل: “إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، وآتينا داود زبورا، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أتزل الله فأولئك هم الفاسقون….”

من المؤلم أن نعترف بأن النص يقدم قراءات غير متطابقة في الآخر، وفيه الاحترام وفيه الازدراء، وفيه الاعتراف والجحود، وفيه الأمر بالبطش والأمر بالإحسان. ولا يمكن الهرب من هذه الحقيقة إلا عبر اللجوء إلى النص القرآني المحوري الذي كرس حقيقة وجود المتشابه في القرآن الكريم، وهي آية خطيرة ومركزية، في صدر سورة آل عمران ونصها: “هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله.

والصراحة القرآنية الواضحة بوجود المتشابه توجب القول بوضوح أن ما ورد في القرآن الكريم، من تحقير وازدراء، لا يشمل الأديان في جوهرها، وإنما يتصل بسلوكيات خاصة في أفراد مخصوصين، وأنه لا يجوز ان يكون حكمًا عامًا على كل مختلف في الدين.

لا أجهل أنني لا أستطيع الحسم في هذه القراءة المتعجلة، ولكنها تكفي لفتح طريق الانتقاء من النص المقدس، والاعتراف بأننا جميعًا انتقائيون، فالمسألة ليست مواجهة العقل والنقل، ولا مواجهة النص والاجتهاد، ولا مواجهة التفويض والفقه، إنها في العمق والحقيقة مواجهة النص للنص، والآية للآية، والحديث للحديث، ويجب الاعتراف دون تردد بأننا جميعًا انتقائيون.

وفي نص صريح ومباشر يدعو القرآن إلى انتقائية عاقلة: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب”. الانتقائية هي السبيل الوحيد للاختيار من هذا التاريخ، والعقول الرشيدة هي التي تتخير من هذا التاريخ ما يناسب الحاضر ويضيئه ويغنيه، أما تلك النصوص التي لا تخدم مقاصدَ الإسلام الكبرى من العدل والمساواة والرحمة والمحبة، فهي سياق تاريخي له ظروفه وتعقيداته، يحتمل النسخ أو التقييد أو التخصيص أو التأويل أو التشابه، وهي أمم قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون.




المصدر