“الجميلة والوحش”


معاذ اللحام

كانَ مقهى مليئًا بالضجيج، بالنباتات الاصطناعية المتسلقة، بالعشاق المرحليين، بالمثقفين والباحثين عن فرصة، بمدمني الخروج والدخان والموسيقا المكررة. ولنصف ساعة، بقيتْ تحدثني عن الجنس كعلاج للمسافة، كانعتاق جوانيّ، ورحيل في عوالم أخرى. ولنصف ساعة لم أفتح فمي بحرف، وكنتُ كلما أوغلتْ في عرض طرحها الفرويديّ، أكاد أحتضن الطاولة. وبين لحظة وأخرى تخرج من صدري آهة تكون شاهدًا على اندماجي الكامل، مع حديثها المندلق على سرير البحث. وكانت تبصر تشوّقي بزاوية عينها الحادة. وتقول: متى سنتجاوز تلك النظرة الضيقة للجنس على أنه لقاءٌ سريع بين ذكر وأنثى، همّه الوحيد التفريغ والتفريخ؟. وأقولُ مدفوعًا بحرارة سؤالها: مَن؟ نحنُ؟ أقصد أنا وأنتِ؟ وترمقني بنظرة مسيطرة، عجزتُ إلا أن أعطيها تفسيرًا يصب في صالحي، وأضافت دون أن تعلق على جوابي الاستفهامي: كيف نفهم أنه من طبيعة ناعمة جدًا، يكاد يكون فوق بشريّ، ويتم ببطء، ببطء كبطء ميلان كونديرا!. وبعد أن ضمنتْ صمتي سألتني: هل تعرف نساء ألبرتو مورافيا؟. ودون انتظار جوابي تابعتْ: إنهنَّ حميمات جدًا، مملوءات بالرغبة، ناعمات رغم السرد الشبِق للأحداث، إلا أن هذا ما يريده خالقهنَّ مورافيا العجوز الذي، على ما أعتقد، كان يعالج نفسه بالكتابة. قلتُ: تقصدين يضاجع نفسه بالكتابة؟. أجابت: آه. إن كلمة مضاجعة تثير اشمئزازي، متى سنفتح قاموسنا الحبّيّ من جديد. إنه فعل حب.

كنتُ مع كل كلمة تسيل على شفتيها، أزداد انصبابًا وتماهيًا مع الطاولة وشرشفها، مع الكرسي والأكواب وفنجان القهوة الذي تابعت لحسه، ولم أنتبه إلى انتهائه منذ العصر الجليديّ. قلتُ لنفسي: “هذي هي. أين كنتِ؟ وتذكرت غرفتي ووضعها، والجيران وساعة مبيتهم، وما لديَّ: نصف زجاجة نبيذ، جيد، رغم خوفي من تخلّلها. لكن وجوه المخدات لم أغسلها من فترة، لا بأس. لديَّ قهوة وبضع كتب شعرية، جيد جدًا. كتاب أسرار ليلة الدخلة لمؤلف مجهول وبلا غلاف، ممتاز. تمنيت أن تكون الكهرباء غير مقطوعة، لا يهم، الشموع هي الحل. ماذا لديَّ أيضًا: قرص مضغوط لموسيقا هادئة، رائع. ها هي الحفلة بدأت تكتمل”. قاطعتْ شرودي المبتسم وسألتْ: هل تعرف مونا؟. لا جواب.. وتابعت: إنها زوجة هنري ميللر! كانت رقيقة بلباسها الفارسيّ، وكان يحبها على الرغم من كل شيء، كان حبًا مضطربًا جدًا، لكنها أثارتني بعلاقاتها المشبوهة، إن كل إيماءة، ولو كانت بسيطة، سوف تكون شديدة التأثير بالفعل الحبيّ، وكل حركة مقصودة لذاتها، تفتح عوالم مجهولة ودافئة أمام الأصابع. خذ مثلًا نساء نزار قباني. وهنا انفرجت سرائري لأننا سنتحدث على الأقل عن رجل أعرفه، لاحظتْ هي ذلك دون أدنى تعاطف ثقافي. وتابعتْ: إنهنَّ حادّات، مكسورات، وهو متطلّب شهوانيّ. وخرج حرف الهاء من صدرها كريح تلفح، فبتُّ أكثر اندماجًا مع حافة الطاولة وكليّ عيون وآذان. وأكدتْ: لكنه حسيّ، غريزيّ ورجوليّ بشكل مفرط رغم كلماته الناعمة. وصاحتْ: متى سنفهم أن الحب هو تكامل روحيّ جسديّ، هو اتحاد عام وكليّ. قلتُ لأطرّي الجو: كالاتحاد العام للفلاحين. وضحكتُ.

رمقتني بنظرة حادة. كتمتُ ضحكتي، وقلتُ لنفسي لقد أخطأتُ، ليس هذا وقت الضحك، وخرجتْ من فمي كلمة “نعم” قاطعة، وبصوت خشن كإشارة لاعتذاري والعودة إلى حديثنا الجادّ. وسألتني: ماذا تعرف عن المداعبة؟ أممممم… وتابعتْ: المداعبة! رواية برومبللي. إنها سمفونية الأصابع والجلد، عزف منفرد على فروة الرأس، انزلاق الموسيقا مع الشَعر، حول الأذنين، إنها كتابة الأصابع فوق لوح الكتف، ألف باء اللمسات.. يا رجل.

صمتتْ لفترة لتقيس مدى تأثير كلماتها عليَّ. وأخيرًا قالت: ما رأيك؟ قلتُ: أنا جاهز. وهممتُ بالنهوض، إلا أن نظرة زاجرة من عينيها أوقفتني، وأضفتُ مرتبكًا: أقصد.. أعني.. أعتقد أن ما هو أفضل من الحديث عن الحب هو ممارستهُ. كيف أتتْ هذه الجملة إلى لساني، لا أعرف. ومن أي شاعر قصيدة نثر، من التسعينيات، أُلهمتها! لا أعرف. فجأةً. صمتتْ، تقوقعتْ، انزوتْ، ضمتْ حقيبتها إلى صدرها بحركة دفاعية، وأُصيبتْ بالبرد تمامًا. نهضتْ وقالتْ: من الواضح أننا لن نلتقي أبدًا، يا عديم المعرفة… وغادرتْ.




المصدر