المتشائم العبقري


غسان الجباعي

“مين خلق علق”! مثل دمشقي شعبي، هو أقدم -بالتأكيد- من مقولة تشيخوف الشهيرة: “الحياة فخ محزن”! وربما أقدم من قنوط أبي العتاهية “الزاهد” الذي قال في إحدى قصائده: “لدوا للموت وابنوا للخراب…”، ومن تهويمات أبي العلاء المعري، الفلسفية والوجودية، ومن تطيّر ابن الرومي الذي قارب السوداوية في التشاؤم، لدرجة أنه كان إذا خرج من منزله، ورأى امرأة غير محجبة؛ عاد أدراجه حالًا. ومثلهم الكثير ممن قضوا حياتهم يائسين مضطربين، مستسلمين للأوهام والمخاوف؛ بسبب ما أصابهم من صدمات ونكبات وويلات وحوادث مأسوية في حياتهم؛ جعلتهم يهابون المواجهة ويتوقعون السوء دومًا، ويعتقدون بأن الحياة خاطئة، لا تستحق أن تعاش؛ ومع ذلك عاشوها وعبّروا عنها.

ومن يدري! قد نكون –نحن البشر- محكومين بالتشاؤم وليس بالأمل؛ فهو فلسفة بشرية وظاهرة عقلية أصيلة، لا تصدر إلا عن إنسان مرهف تتحكم به مشاعر القلق والحزن والألم واليأس، وربما النقص! كيف لا، ونحن كائنات ضعيفة أمام الطبيعة والكون وتقلبات الزمن وصروفه، تنخرنا الأمراض الجسدية والنفسية، ونخوض صراعات شرسة من أجل البقاء؛ معرَّضين بشكل دائب للعذاب والتردد والمعاناة، بسبب هواجسنا وظروفنا الشخصية، وبسبب الظلم والذل والاضطهاد السياسي والاجتماعية الذي يُمارس علينا؛ ناهيك عن العجز الفيزيولوجي المتمثل بالوهن والشيخوخة، والهلاك المؤكد المتربص بكل كائن حي؛ ما يجعله يقف حائرًا أمام أسئلة الزمن والوجود والموت الذي يحوّل التشاؤم إلى فطرة، هي أقرب إلى الإنسان من الأمل والتفاؤل. فالمتفائل يحتاج إلى إيمان قوي، وعمل دائب، وإرادة لا تقهر، وقدرة عجيبة على الصمود، ومواجهة العقبات، والكفاح من أجل السعادة؛ وقد تمثل كل ذلك في عظمة الطبيعة، وتعاقب الفصول وولادة الحياة من الحياة والموت! وانعكس في أساطير الأولين (تموز وإيزيس وجلجامش وبرومثيوس وسيزيف وإيكاروس…الخ) التي عبرت عن عظمة الحياة وتوق البشر إلى الأفضل. ولو لم يكونوا كذلك لما كانت الحضارة!

والتشاؤم –بدوره- قديم قدم العقل والفلسفة، بدأ قبل ديوجين الكلبي، ولم ينته مع جياكومو ليوباردي وشوبنهاور وكافكا وإميل سيوران وسارتر، وغيرهم الكثير من الفلاسفة والكتاب الذين سطروا أفكارًا وتحليلات عن الحياة، تدفعنا الى القلق واليأس، وتحول حياتنا إلى كابوس مرعب، إن لم تدفعنا إلى الهلس والجنون! يقول ليوباردي: إن السعادة وهم، لا يمكن الوصول إليها وإدراكها، ولا يوجد شيء في العالم يمكنه تغيير الشقاء والبؤس!

حسنًا، لكن إذا كنا –نحن البشر- قادرين على تحمل شؤم بعض الفلاسفة، فهل نتحمل سوداوية الفنانين والأدباء الذين بات التشاؤم موضة لديهم، وأداةً من أدوات الوحي والإبداع! وهل يستطيع المبدع أن يكون متشائمًا؟ وكيف يمكن أن يتوافق الإبداع مع اليأس!؟ ثم، هل يملك المتشائم –كائنًا من كان- أن يحتكر مستقبل أطفاله أيضًا، ويقرر، نيابة عنهم، بأن مستقبلهم سيكون مظلمًا وبائسًا!؟ أليس من حق هؤلاء القادمين الجدد إلى الحياة، أن يقرروا ذلك بأنفسهم؟

المحزن، أن المتشائمين –وهم يجلسون في أبراجهم- يضعون المتفائلين في خانة المغفلين والسذج، ويظنون أن العباقرة وحدهم-ببصيرتهم النافذة- من يرى السوادَ الذي يخيم على الماضي والحاضر والمستقبل، والعماءَ الذي يلف الكون؛ وليس أولئك الذين “يشعلون الشموع” و”يحاربون طواحين الهواء بسيوف خشبية”!

الشك والقلق الوجودي، والحزن والشكوى والتذمر والعزلة، وحتى الكآبة؛ كانت -وما تزال- أرضًا خصبة للإبداع والتمرد على السائد والراكد والبشع في حياتنا، والتطلع إلى فضاء أرحب وأجمل. فـ “ذو العقل يشقى…” لكنه لا يستسلم أبدًا، هذا على المستوى الشخصي والنفسي، فما بالك إذا تحدثنا عن قضية شعب يطالب بالحرية!؟

قال العميد مؤيد الدين الطُّغْرائيّ، في “لامية العجم”، منذ أكثر من ألف عام:

أعلل النفسَ بالآمال أرقبها …. ما أضيقَ العيشَ لولا فسحة الأمل!




المصدر