سحابة من غيوم تشارلز سيميك


إبراهيم الزيدي

“كانت السماء مكانًا أوسع وأشدّ عصفًا من أن يلعب فيها ولد” والأرض كذلك؛ فاضطر الطفل اليوغسلافي تشارلز سيميك إلى أن يغادر بلغراد التي مزقتها الحرب العالمية الثانية، إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ ليعلن من هناك أن (هتلر وستالين) كانا وكيلَي سفره، ويستدرج القارئ الأميركي إلى قراءة الخراب الذي لحق بروحه:

“قد لقيَ الملايين حتفَهم، وكلهم أبرياء. مكثتُ في غرفتي.

كان الرئيسُ يخطبُ في موضوع الحرب، وكأنها بلسمُ الحُبّ السحريّ.

كانت عيناي مفتوحتين على اتساعهما دهشةً.

وفي المرآةِ بدا لي وجهي كطابعِ بريدٍ خُتِمَ بالإلغاء مرتين”.

مما حدا بالناقد جيوفري ثورلي أن يقول: إن جوهر شعر سيميك هو مادته الأولية. هذه المادة لم تتعرض للتلف في ذاكرة الشاعر؛ فكانت ملح قصائده كلها.

“أنا آخر جندي نابليوني. وها قد انصرمت مائتا سنة، وأنا لا أزال أتقهقر من موسكو. الطريق محفوفة بأشجار البتولا البيضاء، والوحل يكاد يصل ركبتي، وتلك المرأة العوراء تريد أن تبيعني دجاجة، رغم أني لا أملك ما أكسو به نفسي”.

لقد رفعت تلك النار السريّة التي ما فتئت تتوقد، كلما برز الماضي على السطح، منسوبَ الذهول الذي ينتاب قصائد سيميك، وكأنه ملاكم يلعب مع ظله، مع إدراك مسبق ومعرفة أصيلة بنقاط اتصاله مع العالم. وهذا ما جعل دايانا إنغلمان ترى أنّ شِعر سيميك صوتٌ مزدوج ينطق بالأميركية والمنفى على حد سواء.

“هل أكلة لحوم البشر الروس أسوأ من أقرانهم الإنكليز؟ بالتأكيد. فالإنكليز يأكلون القدم فحسب، بينما الروس يأكلون الروح أيضًا”.

يبدو تشارلز سيميك، في مجموعاته الشعرية، وكأنه لا ينشد أي شيء بصورة متعمدة، فثمة خزان في ذاكرته يروي مساحات شاسعة من البياض، حين ينتابه ظمأ الكتابة: “عشتُ على ما يرام، لكنَّ عيشي كان مليئًا بالتوجّس. في ذلك اليوم كان هناك العديد من الجنود، والكثير من اللاجئين يحتشدون في الطّرقات. بالتأكيد، تلاشى الجميع بلمسة يد. ثم لعقَ التاريخُ زوايا فمه الدامي”.

أما لغته فهي كما يقول هنري ميلر: تنمو اللغة من الحياة، من احتياجاتها، وتجاربها. وقد كانت حياة سيميك، مبثوثة في متون نصوصه الشعرية، وكأنه يسعى لإنقاذ نفسه والقارئ من اللامبالاة: “ألا تسمعني أخبطُ حائطَك برأسي؟ بالتأكيد تسمعني، فلماذا إذًا لا تردُّ عليَّ؟”.

هذا الصربي، بائع القمصان، لم يجد منذ البداية سوى قميص الكلمات، فارتداه شعرًا ونثرًا، وراح يوزع البرد الذي عانت منه روحه على أكثر من عشرين مجموعة شعرية، (قول القليل، بمعان كثيرة)، وكتب مجموعة أخرى تضم مقالاته وبحوثه؛ فحصل على جائزة جريفين الدولية للشعر عام 2004، وجائزة البوليتزر عام 1990 وجائزة والاس ستيفنز عام 2007 وانتُخب ملكًا لشعراء الولايات المتحدة عام 2007.

لقي تشارلز سيميك الترحيبَ الذي يليق بشاعر رفيع المستوى؛ إلا أنه لم يتوقف عن زيارة ذلك المكان المضاء بكوب حليب؛ فثمة عصفورة مجهولة، في حنجرتها حرف من اسمه، دون أن يتنكر لأميركا.

يقول: “الهوية الأميركية هي في الحقيقة حول امتلاك هويّات كثيرة في وقت واحد. جئنا إلى أميركا هاربين من هوياتنا القديمة التي يتمنى الدّاعون إلى تعدد الثقافات أن يعيدوها إلينا”. إلا أن ذلك لا يعني أن موقفه من الحروب التي تشنها أميركا، يمكن مقايضته بتلك الهوية. بسخرية مريرة ووضوح صارخ يعبّر عن موقفه من الحروب التي تشنها الولايات المتحدة: “فكرة أن تكون ثمة أمّة في العالم، هناك، لا تنال ما تستحق، تصيب قاذفي قنابلنا دائمًا بهلع شديد”.

ما فتئ سيميك يحاول استعادة رائحة بلغراد.. شوارعها.. بيوتها التي هدمتها الحرب.. أزقتها المزدحمة بالجائعين.. أطفالها بأسمالهم الرثة، وفي ذلك يقول: “قصص حياتنا مرعبة ومضحكة، كالأقنعة التي يرتديها الأطفال في حفل الهالووين متنقلين من باب إلى باب، ماسكين الصغار من أيديهم، في حَيٍّ تهدّم منذ زمن بعيد”.

وهو يعلم أنها ليست يتيمة، فثمة مدن أخرى من بلدان أخرى، تشاركها هذا الخراب: رواندا، أفغانستان، العراق، البوسنة، وما زال الخراب سمة العصر!!

يقول: “عندما نعجب كثيرًا بالقتلة الجماعيين المتعطشين للدماء، الذين بين ظهرانينا، فمن الواضح أن الأمة تشعر بشدة، بأن البؤس الذي في العالم لم يكن كافيًا، وأنّ المزيد مرغوب فيه، لذا، بالطبع، فإنّ المزيد هو ما سوف نحصل عليه”.

معرفة تشارلز سيميك تستدعي من الذاكرة ما قاله إمرسون لدى تلقيه نسخة من ديوان “أوراق العشب”، كتب آنذاك: بوسع الأميركيين المغتربين أن يعودوا. من المؤسف أن هذا في أميركا، وليس في يوغسلافيا!!




المصدر