أحمد أبازيد: إذلال السوريين لن يُنتج أمناً أو استقراراً


 

رغم وضوح الملامح الأساسية للثورة السورية سواء لجهة انتقالها من السلميّة إلى العسكرة، أو لجهة العوامل الداخلية والخارجية التي حاولت حرفها عن وجهتها، فإنها ما تزال حقلاً خصباً للبحث والمقاربة والنقد، نظراً لتحولها مع الوقت إلى كاشف للواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه سوريا والعالم.  

كل ذلك جعل من هذه الثورة علامة فارقة لا يمكن اختزالها بوصفها جزءاً من مد هائل ضرب المنطقة عنوانه “الربيع العربي” وحسب، بل إنها باتت حقيقة تدعمها شرعية شعبية تستهدف إحداث تغييرات عميقة في النظامين: الإقليمي والدولي، وهو ما يميزها عن باقي الحركات.

هذه العناصر وسواها فتحت أفقاً رحباً أمام الباحثين لتقديم قراءات تفسّر ما حدث عبر السنوات الماضية، بدءاً من نزول أوائل المتظاهرين إلى الساحات واستشعار نظام الأسد اقتراب رياح التغيير، وصولاً إلى اصطدام تطلعات السوريين التحررية بعوائق عدة، ودخولها في متاهات غير معروفة النهايات.

ومع ذلك تبقى رسالة الثورة السورية، بالرغم من كل ما اعتراها، موجّهة لتحرير الإنسان وإسقاط الاستبداد وطرد المحتلين، كما يقول الكاتب والباحث السوري، أحمد أبازيد.

ويرى أبازيد، أنه بفعل تحول الثورة السورية إلى عقدة في السياسة الدولية، وتعرضها لكل أشكال الثورة المضادة، ووجود التيارات الجهادية، وغيرها من العوامل الأخرى، فقد طفت على السطح مشاكل الفاعلين الثوريين، وصراعاتهم البينية وتشتت الهياكل التنظيمية داخل الجسد الثوري.

ويشير في حواره مع “صدى الشام”، إلى أنه ” بالرغم من أن دعم ثورة السوريين ومهاجمة نظام الأسد كان ثيمة رئيسة في الخطاب السياسي الدولي منذ نهايات 2011، إلا أن الثورة السورية لم تحظ بغطاء سياسي دولي ولا بمرجعية سوريّة موحدة، كما كان نظام الأسد وحلفاؤه”.

وحول طريقة تعاطي النُخَب السورية مع الثورة، يقول أبازيد: “إن مشكلة الثورة السورية تتمثل في نخب غير ثورية، وفي ثوار دون نُخَب”.

 

وفيما يلي نص الحوار:

 

– “قدَرُ الثورات الحروب الطويلة والأعداء الذين لا ينتهون”، إذا كان هذا قدرها فما هي مسؤولية من يقوم بها، لمجابهة هذا القدر؟

بداية أشكر جريدتكم الكريمة على هذا الحوار، لا شك أن الثورة السورية كانت ولم تزل التجربة الأغنى والأكثر تأثيراً وتعقيداً ضمن ثورات الربيع العربي، وأحد أهمّ الثورات الشعبية والحركات التحررية في التاريخ الحديث، وأصبحت عقدة السياسة الدولية وتحالفاتها، وكان الانتشار الاستثنائي للحركة الثورية في الشعب السوري أهم أسباب هذا التعقيد وتعدد أشكال الثورة المضادة التي تعرضت لها، ما بين نظام الأسد والمشروع الإيراني والتوسع الروسي والتنظيمات الجهادية المتطرفة، ومختلف التحديات والتيارات التي حاولت وأد هذا الحراك التحرري العظيم، وكان أهم هذه التحديات هو مشاكل الفاعلين الثوريين أنفسهم وصراعاتهم البينية وضعف وتشتت الهياكل التنظيمية، عدا عن تقويض المرجعيات النظرية والمؤسسية التي كان يفترض التوافق حولها، مثل عَلَم الثورة ومظلة الجيش الحر والمشروع الوطني (…الخ)، وبات من الواضح حالة الاستعصاء والحيرة والشعور بالعجز التي تنتشر بين مجتمعنا الثوري والسوري عامة، وسؤال “المسؤولية” الصعب هنا ينبغي أن يكون حاضراً بشكل ملحّ ودائم، ليس على الأجسام السياسية أو الفصائل المقاتلة وحسب، وإنما على كلّ سوري ومُناصر لقضية السوريين التي لا شكّ بعدالتها وأخلاقيتها مقابل منظومة الشرّ المطلق التي تواجهها.

إن أخطر ما يواجه منظومات القهر والاستبداد بكلّ أشكالها هو الإنسان الفرد الذي يشعر بمسؤوليته عن التغيير ودوره في قضية الحرية، وهذا الإنسان هو ميدان الصراع الأول بين الحرية والاستبداد.

 

 

-إلى أين تتجه الثورة السورية “ثورة المتروكين”، والعالم كله يبدو أنه لم يتركها وحسب، بل قرر طعنها بما استطاع إلى ذلك سبيلاً؟

لا شك أن سوريا أصبحت ميداناً لصراع دولي، وأن هزائم عسكرية متلاحقة مُنيت بها قوى الثورة في حلب وريف حماة والغوطة وغيرها، عدا عن التهجير المستمر، والكلفة الإنسانية الهائلة والمتراكمة، لتتحول الخارطة شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه مناطق نفوذ دولي.

ما ينبغي التذكير به دوماً هو أن قضية الثورة السورية هي لإسقاط نظام القمع والإرهاب وبناء نظام سياسي تعددي يضمن حياة حرة وكريمة للسوريين، قبل أن ترتبط بمناطق وفصائل وتيارات، والرهان الخطير للقوى الدولية حول سوريا، هو أنها تتكلم عن إمكانية إنهاء الفوضى والعنف والتطرف مع إبقاء ودعم القوى والظروف نفسها التي أنتجت كل ذلك، ما زالت أهداف الثورة السورية تمثل الحلّ العملي والواجب الأخلاقي الأول الذي لا يمكن بناء مستقبل للمنطقة وشعوبها من دون تحقيقه.

 

– هل قصّرت النخب السورية تجاهها، وتركتها وشأنها كما تركها غيرهم، وما هو  تقييمكم لأداء “النخب” السياسية والثقافية المنخرطة فيها؟

كتبتُ مرة أن مشكلة الثورة السورية تتمثل في نخب غير ثورية وثوار دون نخب، لا شكّ أن الحكم هنا ليس على إطلاقه، وأن المقصود بالنخب ليس الطبقة المنعزلة القديمة، وإنما بالمعنى الأوسع المتخصصين والمنتجين للمعرفة من كل مؤسسة، ورغم التأييد الشعبي الكبير للثورة السورية، وضمن النخب المختلفة في المؤسسة الثقافية أو الدينية أو العسكرية، إلا أنه أصبح واضحاً بعد التحول للصراع المسلح ظاهرة هجرة النخب وتحولاتها بالنسبة للحراك الثوري، مع الافتقار المتزايد للكوادر على الأرض، سواء المثقفين أو طلبة العلم أو الضباط أو الجامعيين بشكل عام، وانخفض مع الوقت معدل الأعمار بالنسبة للفاعلين الثوريين، هذا الفراغ ساعد على تمدد التنظيمات الجهادية والضعف الهيكلي للمؤسسات الثورية وأزمات الخطاب الثوري المختلفة، ولذلك فإن الروح العظيمة التي فجرتها الثورة الشعبية وأنتجت فنونها وقيمها وبطولاتها المحلية والعفوية، لم تترجم بالقدر الكافي احترافياً على مستوى الإنتاج الرمزي أو المؤسسي الممثل لهذه القضية.

 

– من هي الجهة السورية التي تحملونها المسؤولية الأكبر لما آلت إليه الثورة: السياسية التي تصدّرت المشهد بدون أن تكون على قدر من المسؤولية، أم العسكرية التي فشلت في صنع تشكيل واحد يضمن توحيد الجهود، أم الشعبية التي لم يكن تفاعلها لربما مع الثورة بالمستوى المطلوب؟

ثمة صعوبة وخطورة يتضمنها سؤال المسؤولية الملحّ، وهو ما ينبغي أن يجعلنا حذرين أمام إجابته والتفكير فيه، بقدر ضرورة هذه الإجابة والتفكير، لئلا يكون طريقة لتبرئة الذات ولوم الخصوم، أو تأخذنا مسؤولية الماضي بعيداً عن سؤال العمل للراهن أو المستقبل، أو نختزل هذه الظاهرة المعقدة بعوامل ناقصة، لا شك أن ثمة تحديات موضوعية وعوامل ذاتية أسهمت في مآلات الثورة السورية وواقعها الراهن، على مستوى الصراع الدولي أو التنظيمات الجهادية (التي كانت أعمق طعنة توجه للثورة السورية) والميليشيات الشيعية ومشاكل الفاعلين الثوريين الكثيرة، إن فهم مسيرة الثورة وأداء مؤسساتها وشخصياتها المختلفة هو ضرورة عملية للتأسيس لما هو أفضل ولأن الفهم والتوثيق والتعلم من التجارب هو واجب للتاريخ، ولكن دون أن يكون الهدف الاقتصار على عقد المحاكمات الثورية وتوزيع الاتهامات، وهو ما أصبح لدينا فائض منه طيلة سنوات من الصراع البيني داخل الثورة نفسها.

 

– كيف تقيّمون الاتفاقات السياسية الدولية بشأن سوريا، وخصوصاً اتفاق أستانا، وكيف تنظرون إلى ما يجري من عمليات تهجير من بعض المناطق السورية؟

رغم أن دعم ثورة السوريين ومهاجمة نظام الأسد كان محوراً رئيسًا  للخطاب السياسي الدولي منذ نهايات 2011، إلا أن الثورة السورية لم تحظ بغطاء سياسي دولي ولا بمرجعية سورية موحدة، كما كان نظام الأسد وحلفاؤه، وجرى تدريجياً تغطية الثورة بحرب الإرهاب، ما أعطى متنفساً للمشروع الإيراني الروسي ونظام الأسد، خاصة مع التعريف الرغبوي والطائفي للإرهاب باعتباره صفة مرتبطة بتنظيمات العرب السنة، مع إغفال عنف الدولة وعنف الميليشيات الشيعية، وهذا الخطاب -تغطية الثورة بحرب الإرهاب- هو في الحقيقة خطاب منتِج للإرهاب.

إضافة إلى ذلك، فإن التراجع الميداني لقوى الثورة السورية منذ التدخل الروسي أسهم في انخفاض سقف المطالب والتوقعات في مسار أستانا، والذي كان واضحاً التلاعب الروسي الإيراني بكلّ مراحله واتفاقياته، والذي تقصّد عقد اتفاقيات التهجير المتتالية مع كل جولة من أستانا، مع تسمية روسيا وإيران بالضامنين لوقف إطلاق النار، وكأن المطلوب من هذه المسارات ليس مجرد إجبار قوى الثورة على خفض سقف مطالبها والتوقيع على ما تكرهه تحت ضغط الواقع أو الدول، وإنما إشعار السوريين بطريقة مقصودة بالإذلال، والسخرية من آلامهم ودمائهم ومأساتهم الرهيبة، ضمن أجواء دبلوماسية أنيقة وتوافق دولي.

من الوهم تصوّر، أيٍ كان، أن احتفاليات الإذلال والتهميش للسوريين هذه ستنتج أمناً أو استقراراً من أي نوع.

 

 

– بعد كل ذلك أين خلاصنا كسوريين، وهل ترى أننا سنشهده في القريب، ومتى؟

رغم كثرة الفاعلين الدوليين وتشابك التيارات والمصالح والفصائل حول سوريا، إلا أن علينا أن نبقى مؤمنين بحقّ السوريين بحياة حرة وكريمة، وبالخلاص من نظام القمع والإرهاب الذي قتل قرابة نصف مليون سوري، ونفى وهجّر الملايين، واستجلب ميليشيات الموت الطائفية، ودعمَ تنظيمات التطرف، وتسبب بأكبر كارثة معاصرة وبأضخم مذبحة علنية تحت عين الشمس والفضائيات والدول، وحقّ السوريين البديهي هذا ليس ورقة تفاوض ومساومات، ولا هو مرهون بحسابات الجغرافيا والمعارك، وإنما هو قضية عادلة وثابتة، وأصبح من شبه المحسوم أنه لن يكون ثمة مستقبل لحكم الأسد في سوريا، ولكن ما هو المستقبل القادم، تلك مسؤولية السوريين ودورهم الذي لا ينبغي أن يتخلوا عنه وإن صارعتهم عليه الدول والواقع المظلم، إن طريق الحرية صعب وطويل ولكنه وحده الطريق الصحيح.



صدى الشام