أمين معلوف.. وهويات ما تزال تقتل


مصطفى عباس

“إذا قارنا تاريخ العالم المسيحي مع العالم المسلم اكتشفنا من جهة ديانةً متعصبةً لفترة طويلة وتحمل إغراء توتاليتاريًا واضحًا، ولكنها تحولت شيئًا فشيئًا إلى ديانة انفتاح. ومن جهة ثانية ديانةً تحمل رسالة انفتاح تحولت شيئًا فشيئًا إلى سلوكيات تعصبية وتوتاليتارية”.

هذا مقتطف من كتاب الهويات القاتلة للكاتب اللبناني الفرنكفوني أمين معلوف، فالدين هو أحد أهم ركائز الهوية إضافة إلى العرق والوطن، وهذا الاقتباس يوضح أن المشكلة في تأخرنا الكبير عن ركب الأمم لا تعود إلى الدين فحسب -كما يحاول البعض الترويج- بل إلى جملة معطيات، تشكل مجتمعةً حالة التخلف، وما يستلزمه من جمود فكري، وتوقف للاجتهاد الديني. من هنا أعتقد أنه ينبغي علينا أن نقرأ ماضينا جيدًا، حتى نفهم حاضرنا وننطلق منه إلى مستقبلنا بثقة، كما يوضح معلوف، في كتابه، أن الأمم الناهضة الواثقة بنفسها، لا تخشى الآخر المختلف، ويضرب مثالًا على ذلك إسطنبول، عندما كانت عاصمة الدولة العثمانية في أوجها، حيث كان يتعايش فيها أغلبية يونانية وأرمنية ويهودية، من دون الخوف من الآخر “لست بصدد تصوير العالم الإسلامي على أنه جنة التسامح.. ولكن تقييم التصرفات يتم وفقًا لقرنها”.

ومثلما هو واضح من العنوان، فالكتاب يبحث في واحدة من أهم مشكلات واقعنا المعاصر، إنها الهوية التي منها يستمد الوقود لكل الحروب، والحماسة لإشعال الثورات، وكل الفلاسفة الكبار أمضوا ردحًا من أعمارهم في دراستها، وتبيان أنواعها، وتوضيح تفاصيلها.

لو كان السوريون أو جزء منهم يستطيعون أن يعبروا عن رأيهم وهويتهم، لما قاموا بثورة كلفتهم كل غالٍ ونفيس، وتشرد الملايين منهم في أصقاع الأرض، ومخيماتها، ونتيجة حالة الاستقطاب الحاد التي كان النظام سببها، ظهر التعصب بكل أنواعه الديني والعرقي، بل وحتى المناطقي “مع مرور الزمن يتبدى أن الديكتاتوريات التي تدعي العلمانية هي مناجم التعصب الديني. إن العلمانية دون ديمقراطية هي كارثة على الديمقراطية والعلمانية معًا”.

بكل الأحوال الحديث عن الهوية طويل ومعقد ويحتاج مختصين، كيف لا، ومشكلة العالم العربي الأساسية، هي أزمة هوية.

يرى الباحثون أن عملية تكوين الهوية تختلف من فرد الى فرد، من مجتمع الى مجتمع، ومن ثقافة الى ثقافة، فلن تتكوّن هوية متماسكة إلاّ نتيجة تفاعل توافقي للفرد مع ماضيه وجذوره العائلية وخبرات الطفولة في شتّى المجالات من جهة، وتطلّعاته المستقبلية ضمن الفرص المتاحة له والحدود الواقعية لطموحاته الشخصية من جهة أخرى.

الكتاب صدر باللغة الفرنسية، وترجمه نبيل محسن، ونشرته دار (ورد) عام 99 من القرن المنصرم، وهو مؤلف من خمسة فصول: الأول يتكلم عن هوية وانتماء الكاتب المسيحي الذي ولد في لبنان ولغته الأم اللغة العربية التي يصفها بلغة الإسلام المقدسة، وهو في الوقت نفسه فرنسي، وكل هذه العناصر مجتمعة تشكل هويته “إن الهوية تتشكل من عشرات العناصر التي قد تجمع الإنسان مع أفراد وجماعات أخرى. إلا أنه ينفرد كائنًا بما يميزه، حاله حال كل فرد منا، وكل فرد على سطح هذا الكوكب لا مثيل له”.

وكلما كان الإنسان مهددًا بعنصر من عناصر هويته كلما زاد انتماؤه إليه وتشدده به، ويضرب مثلًا المواطن البوسني الذي كان قبل مجازر الصرب وتفكك الاتحاد اليوغسلافي يعدّ نفسه يوغسلافيًا، ولكنه رجع إلى انتمائه الأولي كمسلم، وهذا الانتماء قد يتغير مع تغير الظروف والعناصر.

الفصل الثاني المسمى “عندما تأتي الحداثة من الآخر” يتكلم فيه عن الركود والتخلف الذي أصاب منطقتنا، وهو يحاول -كما هو واضح في مقدمة المقال- أن يبرهن على أن المشكلة ليست في الدين الإسلامي، إنما في أتباعه.

في ظل الثورة المعلوماتية من الطبيعي أن ينفتح العالم على بعضه، وفي هذا الفصل يتكلم عن العولمة من ناحيتها الإيجابية، حيث يمكن للإنسان أن يستفيد منها ويسخرها لمصلحته إذا تعامل معها بطريقة إيجابية، والمؤلف يتكلم كثيرًا عن العولمة والأمركة والفرق بينهما.

والهوية في معناها الثقافي -كما يرى بعض الباحثين- هي مرحلة من مراحل التفكير الإنساني في العالم المعاصر، بدأت بالحداثة، وما بعد الحداثة، والعالمية، ثم العولمة، ونحن الآن في مرحلة الأمركة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الكوكبة (من كوكب الأرض) ثم يتطلعون بعد ذلك إلى مرحلة الكونية.

في الفصل الأخير، يشبه الهويات القاتلة بترويض الفهود، لأن الأخيرة تقتل إذا بقيت مطلقة وتقتل إذا طوردت، وتقتل إذا جُرحت، ولكن بالإمكان ترويضها، فالهوية -كما يقول صاحب سمرقند- يجب ألا تعالج بالاضطهاد والتواطؤ، بل يجب دراستها بهدوء وفهمها، ثم السيطرة عليها وترويضها، إذا كنا نريد أن يتجنب أطفالنا ما رأينا من مآسٍ.

وعليه، في نهاية الكتاب، يتمنى عضو أكاديمية اللغة الفرنسية أن يتناول أحد أحفاده الكتاب وينفض الغبار عنه، ويبدأ القراءة مستغربًا أن في عصر جده كان هناك ضرورة للتكلم في موضوع كهذا، أي أن تكون كل مشكلات الهوية في العالم قد حلت.. ونحن -بدورنا- نتمنى ذلك.




المصدر