الائتلاف والامتحان الأكبر


عقاب يحيى

حين كنت أنظر إلى “الحشد” الكبير الذي حضر الدورة الـ 33 للهيئة العامة للائتلاف، وأتأمل الوجوه، والأعمار، والخلفيات السياسية، والتنوّع الإثني والسياسي، وتجارب عديدهم السياسية والعملية، والموعد الانتخابي الذي غالبًا ما يدفع البعض للحضور بعد غياب، واعتذار البعض بسبب وضعه المادي، وعجز الائتلاف عن تغطية نفقات السفر والإقامة، والاجتماع داخل قاعة صغيرة في الائتلاف، برزت كتلة من الأسئلة:
ـ لماذا لم نستطع النهوض بالمهمات الرئيسة، وهذا الحشد يجمع فيه عددًا من الخبرات والتنوع، ولماذا راوَحنا سنوات في مقولات الإصلاح والتطوير وإعادة الهيكلة ولم ننجز عددًا من التقارير والمشروعات؟ وتراجع دور الائتلاف، وشعبيته أيضًا على الرغم من الزخم الكبير الذي رافق قيامه، ووجود شيء من وفرة مالية في سنواته الأولى، واعتراف أكثر من 122 دولة به، فضلًا عن الجامعة العربية.
ـ أهي إشكالية السوري الذي انفجر خزينه؛ فتشظى ولم يقدر على لمّ نفسه، والتوافق على المشتركات، والأهداف التي لخصتها الثورة وبلورتها؟ أو كما يقال: لا يعجبه العجب، ويرى في نفسه الأحق والأجدر في الأمكنة والقدرات والعطاء؛ فيكثر النقد إلى درجة الشتائم لدى البعض، والتجريح الذي لا يقوم على معلومات دقيقة في أغلب الحالات؟
ــ أم هي طبيعة السوري بميوله الفردية، وضعف الروح الجماعية، والمأسسة فيه؟ وانهماره المتزاحم على العمل السياسي، وإنشاء أحزاب وتشكيلات وتيارات، لا يختلف معظمها سوى بالاسم، بل بعضها يتنازع اسمًا بعينه؟
ـ أم هي عوامل عقود الاستبداد وما فعلته، بتناوب وتفاوت، عند الجميع، وكأننا صناعة نظام، نحمل كثير إرثه على الرغم من أننا ثرنا عليه، ونعمل على إنهائه وبناء بديل مختلف؟
ـ أم هي تعقيدات الثورة السورية والسنوات الطويلة التي أضعفت الآمال بنصر قريب، وفتحت الشهية لكل أنواع الانتقاد بواقع تدويل المسألة السورية، وغياب القرار الوطني المستقل؟
ـ أم هي مناهج المحاصصة، و”التكويش”، والاستئثار، ورؤية الأمور من ثقب صغير؟
ـ أم هي تركيبة الائتلاف التي رسّخت نوعًا من الكتل التي ترفض التغيير لأنها ترى فيه مساسًا بموقعها ودورها؟ ودور النظام الأساسي، وقصة وجوب توفر الثلثين لاتخاذ القرار، بواقع وجود ثلث معطل يمكن تجميعه عند اللزوم؟
ـ أم هي واقع المعارضة “التقليدية” ودورها، وما تتصف به من ضعف حضور وفاعلية، وصعوبات متعددة على التطور واستيعاب المتغيّرات، ومد الجسور مع الأجيال الجديدة التي يعود الفضل لها أساسًا في قيام الثورة واستمرارها؟
ـ أم هي طبيعة الثورة التي لم تكن نتيجة وجود قيادة مسبقة لها، وفشلها اللاحق في توليد، وإيجاد قيادة من صلبها؟
ـ أم هي طغيان العًسكرة وسحقها للسياسي، وما رافقها من تدخلات قوية للدول الإقليمية والخارجية، همّشت واقعيًا دور الائتلاف، والمجلس الوطني، قبله، وأجبرته على التعامل مع الأمر الواقع من دون أن يملك إرادة بلورة واستقلالية القرار الوطني، وإيجاد مصادر تمويل غير مرتهنة لهذه الجهة أو تلك، ودور الرهان على الخارج وأوهام فعله الساحق، وترتيباته، أو الخشية من ردات فعله؟
يمكن القول بموضوعية إن عوامل متداخلة أسهمت في واقع الحال، ومنعت تنفيذ المشاريع والمقترحات التي غالبًا ما كانت تُرحّل إلى اجتماع لاحق ثم يجري إهمالها.
لقد ضيّع الائتلاف فرصًا عديدة للقيام بعملية إصلاح وهيكلة، تليق بمكانته التي حصل عليها، خاصة على الصعيد الخارجي، وتحوّله إلى ممثل حقيقي للثورة، يرتكز على تأييد الشعب له وليس الاعتراف الخارجي فحسب، واصطدمت جلّ المحاولات والجهود بتركيبة بدت، وكأنها عصيّة على الإصلاح والتطوير؛ نتيجة حسابات خاصة كانت تبرز فاقعة في حساب الأصوات ونتائج الانتخابات.
نعم، واعترافًا بالحقيقة، نجح الائتلاف في القيام ببعض الإصلاحات على نظامه الأساسي الذي شكّل العقبة المباشرة، وتعديل بعض مواده لصالح نوع من المأسسة والتوازن في الصلاحيات خاصة للرئاسة، والهيئة السياسية التي استحدثت بعد قيام الائتلاف، وتخويلها صلاحيات الهيئة العامة ما بين دورتي انعقادها، وفي مشاركة المجلس الوطني الكردي، والمجلس التركماني السوري، وتوسعة نسائية كان يمكن أن تكون أكثر عددًا وفاعلية، وفي إنجاز مهمّات عديدة، والإسهام بجولات المفاوضات، وتشكيل حكومة مؤقتة، ثم إعادة تشكيلها لتكون في الداخل، والإشراف على وحدة تنسيق الدعم، والتواصل مع عشرات القوى السياسية، ومع الفصائل العسكرية، وهيئات المجتمع المدني، وتدعيم شبكة علاقاته الخارجية، على الرغم من أن قيام “الهيئة العليا للمفاوضات” سلبت منه جزءًا مهمًا من الحراك السياسي الخارجي، ومن وحدانية تمثيله في مفاوضات جنيف.
لكن ما زالت الفجوة كبيرة بين الائتلاف وبين تجسيده الحقيقي ممثلًا سياسيًا للثورة. ففي داخله ترهل وفوضى، وضعف التزام، ونوعيات متعددة صدقية التمثيل، والوعي، وبعضها مضى عليه نحو خمس سنوات، وهناك نزيف في استقالة عدد من إطاراته المهمة، وضعف في آلية اتخاذ القرار، أو تنفيذه، وفشل في توحيد العمل العسكري بقيادة سياسية، وابتعاد جليّ بينه وبين عدد من القوى والفاعليات السياسية والشعبية والمدنية، ومسائل كثيرة حيوية، لم يعرها الاهتمام المطلوب، أو لم يقترب منها بسبب انهماكه في أنشطة أخرى يبدو عديدها أقل شأنًا، وأهمية.
اليوم لا مجال للهروب من استحقاقات ثقيلة، تمثل تحديات جاثمة على صدر الائتلاف بمستوى الفرصة الأخيرة التي يمكن أن تمنحه جدارة تمثيل الائتلاف، أو إعلان حقيقة الفشل والبحث عن جسم أكثر جدارة، ولعل أهم المحاور المطروحة عليه:
1 ـ القيام بعملية إصلاح شاملة تتناول النظام الأساسي ليكون متوائمًا مع حصيلة التجربة، ومرنًا، وترشيقه، وفي الوقت نفسه القيام بتوسعة نوعية بإشراك بعض الفاعليات السياسية، والمكونات، والنساء والشخصيات المستقلة التي لها وزنها وحضورها، والتركيز على العمل الجماعي، وروح الفريق، والمأسسة، ومشاركة الجميع بالمهام، وفق الاختصاص والقابلية.
2 ـ بناء علاقات مستمرة مع القوى والفاعليات السياسية والمدنية.
3 ـ العمل الحثيث لبناء جيش وطني حر مهني، وبعيد عن الحزبية، يتبع للقيادة السياسية.
4 ـ إنجاز المشروع الوطني كإسهام من الائتلاف لطرحه على مختلف قوى وفاعليات الشعب السوري، وصولًا إلى توافقات حوله؛ تمهد الطريق لعقد مؤتمر وطني جامع.
5 ـ إعادة نظر بتشكيل الحكومة المؤقتة بما يتناسب وتطورات الأوضاع واحتمال طرد (داعش) من المنطقة الشرقية.
6 ـ العمل وفق خطة واقعية على استعادة القرار الوطني، والاعتماد على الذات، خاصة الرأسمال الوطني السوري، وبناء علاقات قوية مع الأشقاء والأصدقاء تقوم على الندّية والمصالح المشتركة.
قد تبدو المهمات كبيرة، صعبة التحقيق.. لكن لا خيار أمام الائتلاف سوى الشروع فيها، ووضع نفسه على سكة الإنجاز، وهو يملك إمكانات معتبرة يمكن أن تكون وسيلة العمل إذا ما أحسن استخدامها، وإذا ما نجح في تعزيز الروح الجماعية، والعمل كفريق واحد.




المصدر