“مناطق تخفيف التوتر” والهرطقة السياسية


بهنان يامين

أعطت المسألة السورية القاموسَ السياسي العربي العديدَ من المصطلحات، بعضها واقعي وبعضها هرطقة سياسية، ومن هذه الهرطقات آخر المصطلحات التي تفتقت عنها عبقرية الروس، والإيرانيين، والأتراك، وهو مصطلح “مناطق تخفيف التوتر” أو “مناطق تخفيف التصعيد” وهما مصطلحان لمدلول واحد.

جاء مصطلح “مناطق تخفيف التصعيد” أو “التوتر”، ليُلغي إلغاءً قمعيًا مفهومَ “المناطق الآمنة” الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هذه المناطق التي كانت مطلبًا للشعب السوري، لإيجاد مناطق آمنة أشبه بتلك المناطق التي عرفها العراق، بعد حرب الخليج الثالثة، أو ما سُمّي بحرب تحرير الكويت، ألا وهي المناطق التي سميت بمناطق منع تحليق الطيران (NON FLIGHT ZONE)، والتي أدت إلى تقسيم العراق إلى منطقة شيعية جنوبًا، ومنطقة كردية شمالًا، ومنطقة سنية وسطًا، وفي خضم هذه المناطق الثلاث، غرقت الأقليات الدينية، والمذهبية، والإثنية، في هذه الأوساط واستخدمها القيّمون على هذه المناطق كسلاح ضد المناطق الأخرى.

نتيجة ذلك حدث في العراق تقسيم، بسبب المناطق الآمنة، ولكنها كانت مناطق أدت من الناحية الإنسانية، إلى إنقاذ حياة ملايين المواطنين العراقيين الذين أراد طاغية العراق البعثي الآخر، صدام حسين، أن يجتثهم ويغرق هذه المناطق بالدم، وبالنسبة للمسألة السورية فإن مطلب المناطق الآمنة لم يتم التوافق عليه، ولا بعد شلال الدم الذي عرفته سورية، وأصبح ضرورة إنسانية، كان يمكن أن تُوفّر على الشعب السوري مأساة التشرد في دول الاغتراب، والغرق في البحور، والقتل على يد الطاغية، ولو تحققت هذه المناطق لكانت جنّبت الشعب السوري حرب الإبادة هذه.

رفض الجميع بلا استثناء المناطقَ الآمنة، أميركيًا، وروسيًا، وإيرانيًا، وإسرائيليًا، وبالطبع النظام المستبد، لا لشيء إلا لأنه لا يحقق مصالح هذه الدول في سورية، فمن مصلحة الجميع أن يُعاقب الشعب السوري على مطالبته بالحرية والكرامة، ولعدم إمكانية تقسيم سورية إلا بعد إجراء تغييرات ديموغرافية، نفّذتها الهرطقة السياسية الأخرى التي تسمى المصالحات، وهي في الحقيقة تجميع المقاتلين في بقع جغرافية يسهل تصفيتها، وبالطبع جرى كل ذلك لصالح النظام المستبد في دمشق والفاقد لشرعيته.

تغيّرت الإدارة الأميركية لصالح إدارة جمهورية بقيادة الرئيس ترامب، واعتقد كثيرون بأنه سيجلب الترياق لسورية عن طريق المناطق الآمنة التي تحدث عنها، وصفق العديد من “الثورجيين” له، عندما ضرب مطار الشعيرات، بعد أن أبلغ الروس، ليُبلغوا النظام بالضربة ليحتاط منها، وتكون خسائره أقل ما يمكن، والبنتاغون، والإدارة الأميركية الجديدة، يعرفون بأن هذه الضربة ستكون يتيمة.

ذهب الجميع إلى أستانا، والحقيقة لم نعد نعرف أرقامها، هي وزميلتها جنيف، ولا إلى أين وصل العدد، وإلى أين يمكن أن يصل. وتفتق عن آخر الأستانات، هرطقة سياسية لم يكن أحد يتوقعها، سَوّق لها الروس، ووافق عليها حليفهم الإيراني، حامي حقوق التغيير الديموغرافي، والنظام الديكتاتوري، والأتراك، بما سمي بـ “مناطق تخفيف التوتر” أو “التصعيد” التي في الحقيقة لا تفيد الشعب السوري بشيء، بل على العكس لأن “تخفيف التوتر” أو “التصعيد” لا يلغيه، فالتوتر قد يخف وقد يتصاعد حسب مصالح الدول الراعية الثلاث، والتي كانت سببًا بالسقوط المريع لجوهرة سورية حلب الشهباء، وباركت إدارة ترامب هذه المناطق “الهرطوقية”، كونها تُنقذها من الوعود المتسرعة بالمناطق الآمنة التي لم يقبلها الرئيس السابق باراك أوباما.

عمليًا “مناطق تخيف التوتر” أو “التصعيد” ليست إلا مناطق لزيادة التصعيد والتوتر، فهي ليست بمناطق وقف إطلاق نار يضمنها الرعاة الثلاث، بل هي مناطق “تخفيف”، فهذه المناطق لم توقف لا الروس، ولا الإيرانيون، ولا ميليشياتهم، ولا النظام من القصف والقتل فيها، وبالطبع الحجج الكاذبة متوافرة دائمًا، ألا وهي محاربة الإرهاب.

أطلق الجميع الكذبة وصدّقها، ألا وهي الإرهاب ومحاربته، فمن اخترع الإرهاب ليس الشعب السوري، بل النظام، ومن حماه، هم من خلق هذا “البعبع” المسمى الإرهاب. وأثناء دراستي لتاريخ الإرهاب في أحد المعاهد الأميركية، كان من أهم بنود تاريخ الإرهاب هو إرهاب الدولة، حيث يُحدد مؤلف الكتاب جيرار شاليان دولَ الإرهاب بليبيا وسورية وكوبا وفنزويلا؛ وبإرهابهم لمواطنيهم خلقوا الإرهاب الذي دمّر ويدمر المنطقة.

علينا ألا ننخدع بالمصطلحات الرنانة التي تحمل هرطقة سياسية كالمناطق الآنفة الذكر، والتي يجب رفضها، فالمسألة السورية لن يحلها إلا الشعب السوري، وليس الرعاة الثلاث، وراعيهم الأكبر الولايات المتحدة، وذلك بتحقيق حريته وكرامته مهما طال الزمن.




المصدر