‘مجزرة الحولة: السكاكين ما تزال تقطر دماً’
31 مايو، 2017
ما تزال الصورة ماثلةً في الأذهان، رغم مرور السنين وتعاقب الأحداث منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، فقبل خمسة أعوام وبتاريخ 25/05/2012 وقعت واحدة من أكبر المجازر في تاريخ الثورة السورية، عندما قامت قوات نظام الأسد وشبيحته باقتحام منطقة الحولة في ريف حمص وقتلت المدنيين هناك.
ومع أن المقارنة لا تصحّ عندما يتعلق الأمر بالقتلى وظروف ووسائل القتل، إلا أن رائحة الطائفية المنبعثة من مجزرة الحولة تركت ندبةً مختلفةً في حياة السوريين.
وتعدّ هذه المجزرة الأكثر وحشية منذ دخول المراقبين الدوليين إلى سوريا، ففي ذلك اليوم الدموي تعرضت سهول الحولة لقصف عشوائي، تركز على مدينة تلدو بشكل كبير، والتي تعتبر مدخل الحولة من الجهة الغربية، والمحاطة بقرى موالية للنظام.
وبعد القصف الذي استمر 14 ساعة وخلّف 11 شهيداً وعشرات الجرحى، قام عناصر النظام (الجيش والأمن والميليشيات المحلية والشيعية الأجنبية) مدعومين بعناصر من الشبيحة من قرى فلة والقبو، باقتحامٍ على عدد كبير من المنازل الواقعة على أطراف تلدو، ونفذوا إعدامات ميدانية بحق كل من وجدوه، حيث تم تكبيل أيدي الأطفال وتجميع النساء والرجال ومن ثم الذبح بحراب البنادق والسكاكين ورميهم بالرصاص بعد ذبحهم.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 107 أشخاص في تلك المجزرة بالاسم الثلاثي والصور، ومن بين الضحايا 49 طفلاً دون العاشرة من العمر، و32 امرأة، وما تزال هناك جثث لم تتمكن الشبكة من الوصول إليها وتوثيقها.
ويعتبر الناشط الإعلامي سامر الحمصي، أحد أبرز النشطاء الذين وثّقوا المجزرة واستطاعوا الخروج منها بسلام ليبقى شاهداً على الجريمة بكل تفاصيلها.
من الصباح حتى ساعات الليل
كان كلُّ شيء يسير وفق المعتاد، فمدن الحولة جميعها أقلقت نظام الأسد بالمظاهرات التي كانت تخرج بها في كل يوم جمعة، هكذا جرت العادة في معظم المدن السورية فبعد صلاة الجمعة كان هناك موعد أسبوعي للتظاهر، ولكن لا مانع إطلاقاً في أن تقوم مظاهرات ليلية ضمن الأسبوع بين حينٍ وآخر.
غير أنه كان لمدينة تلدو خصوصيتها في التظاهر يوم الجمعة، فالتحضيرات لهذه المظاهرات كانت تنطلق منذ ليل الخميس، ليكون كل شيءٍ على ما يرام.
لكن تلك الجمعة تحديداً لم تكن كغيرها، لم يعلم الأهالي ما كان يُحضّر لهم، لقد كانت الفاجعة بانتظارهم.
يروي الناشط سامر الحمصي لـ صدى الشام في شهادته عما جرى قائلاً: “في يوم الجمعة الواقع في 25 من شهر أيار بعام 2012، تجمّع معظم الأهالي في ساحة الحرية بعد صلاة الجمعة وانطلقت مظاهرةً كبيرة في جمعة (يا دمشق قادمون)”.
حتى انطلاق هذه المظاهرة كان كلُّ شيء على ما يُرام، لكن بعد حوالي ساعة من التظاهر حدث ما لم يكن متوقّعاً، حيث قامت قوات النظام باستهداف محيط المظاهرة بقذائف الدبابات ما أدّى لتفرّق المظاهرة فوراً، وتبعثر المتظاهرين في كل أنحاء المدينة، وفقاً لما يروي الحمصي.
ويضيف: “كان من المفترض توقّف القصف بعد توقّف المظاهرة لكن هذا ما لم يحدث، حيث وسّعت قوات النظام القصف، ليمتد إلى المنازل المجاورة والشوارع والحارات المكتظة بالمدنيين”، وإثر هذا القصف سقط عدّة جرحى نُقلوا إلى المشافي الميدانية، وتوقّفت أشكال التظاهر، لكن القصف تواصل.
كان حي “السد” الواقع جنوبي غربي مدينة تلدو من أكثر الأحياء التي تضرّرت، فبعد تفريق المظاهرة مباشرةً، انتقل القصف إلى طريق هذا الحي، ما منع المتظاهرين من العودة إلى بيوتهم، حسبما يوضح الحمصي، وأضاف أن القصف استمر حتّى ساعاتٍ الليل ما دفع بالأشخاص الذين لم يتمكّنوا من العودة لبيوتهم إلى النزوح إلى خارج تلدو.
المجزرة
كل من كان خارج منزله وشارك في المظاهرات نزح إلى خارج المدينة، ومع ساعات المساء الأولى ازدادت حركة النزوح إلى القرى المجاورة بشكلٍ كبير نتيجة تصاعد عملية القصف، حتى بدأت تصل أخبار عن ارتكاب مجزرةٍ في المدينة، حيث تواردت الأخبار من خلال الجرحى الذين نجوا.
يقول الحمصي: “هنا وُضع الأهالي أمام خيارين، إما انتظار اليوم التالي لمعرفة ماذا فعلت قوات النظام تحديداً في المدينة، أو المغامرة والعودة إلى الأحياء التي حوصرت بالقصف تحت جنح الليل”.
وفي الليل انطلقت مجموعة من الجيش الحر من أطراف المدينة تجاه الأحياء السكنية، فوجدت أن الفاجعة قد وقعت، حيث كانت قد دخلت عناصر من النظام وميليشيات طائفية إلى القرية وارتكبت المجزرة في بيوت المدنيين وانسحبت، ليُستأنف القصف بعد ذلك للتغطية على المجزرة.
ما بعد الجريمة
لعلَّ كلمة مجزرة لن تعبّر عن تلك المشاهد التي وجدتها القوة التابعة إلى الجيش الحر والتي دخلت القرية للاطمئنان على من كانوا في المدينة.
وبحسب الناشط سامر الحمصي، فإنه عندما دخل مقاتلو الجيش الحر إلى المدينة وجدوا أسراً بكاملها أبيدت، ما أصابهم بجمودٍ استمر للحظات، لكنهم سرعان ما تحركوا تحت وطأة الحاجة إلى نقل من بقي حيّاً إلى المشافي الميدانية، لعلّهم ينقذون من تسلبه سكاكين الغدر حياته.
“كُنّا نضع الجثث في سجّاداتٍ ونقوم بسحبها بالحبال تحت وابل القذائف التي لم تتوقّف في تلك الليلة، فقد كان القصف يستهدف الطريق بشكلٍ مباشر ما جعل مهمّة إسعاف من لم يموتوا بالمجزرة أمراً غاية في الصعوبة”.
ثم جاء دور المشافي، التي باتت تستقبل الجثث التي خلّفتها المجزرة، بعد رحلةٍ صعبةٍ مع محاولةِ سحبهم، يقول الحمصي: “في كل لحظةٍ كانت تصل جثّة جديدة، كُنّا نقول إن حصيلة الضحايا توقفت عند هذا الحد، حتّى تكدّس أمامنا أكثر من 100 جثّة، كان المشهد مروعاً”.
ويُضيف أنه بدأ مع زملائه الإعلاميين بتوثيق المجزرة والضحايا، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فمشهد الأطفال المذبوحين بالسواطير والفؤوس قبل إطلاق النار عليهم كان كارثياً، ويتابع: “كانت جثث الأطفال ممزّقة وجماجمهم مهشّمة لشدّة الضرب على رؤوسهم بالأدوات الحادة”.
لا مزيدًا من الصور
فيما بعد توالى نشر صور المجزرة في وسائل الإعلام، وكان من بينها صورة أظهرت طفلة، وصَفتها صحيفة تايمز البريطانية آنذاك بالملائكية البريئة، فتلك الطفلة “كان يضمها كفن أبيض، بعد أن فقدت نصف جمجمتها، وما بقي من رأسها سوى بعض العظام البارزة من الجرح النازف”.
وعرضت الصحيفة تفاصيل مؤثرة لصور أخرى، مثل تلك التي أظهرت صبياً في السادسة أو السابعة من العمر وقد انزاح عن كتفه الغطاء ليكشف عن جسد أبيض، وهو يبدو وكأنه نائم، لكن الجزء الخلفي من رأسه كان مهشماً.
وصورة ثالثة لفتاة في مقتبل العمر، وقد بدا فمها فاغراً قليلاً كما لو أنها كانت تبتسم، ولكن فتحة نازفة هي أثر رصاصة بدت فوق عينها اليمنى، وقد تركت الرصاصة خلفها كتلة متناثرة من لحم وعظام رأس الصبية.
ومضت تايمز بالقول إن الصور المروعة لمجزرة أطفال الحولة تسبب الصدمة، مما اضطر الصحيفة للامتناع عن ذكر تفاصيلها، رغم معرفتها أن عدم نشرها المزيد من شأنه أن يصب في صالح حماية نظام الأسد، حسب قولها.
المراقبون الدوليون
استمرّت الليلة المرعبة مع الجثث التي خلّفتها المجزرة حينذاك، والتي تم وضعها في برّادات الخضار والأجبان بانتظار الصباح لتتم عملية الدفن.
يشرح سامر الحمصي لـ صدى الشام ما حدث لاحقاً بالقول: “قمنا بالتواصل مع الناشطين والمراقبين الدوليين وكل من تمكّنا من التواصل معه للمطالبة بدخول وفد الأمم المتحدة، الذي كان يقوده حينها مجموعة المراقبين العرب، وهو ما حدث فعلاً حيث دخل وفد الامم المتحدة ووثّق الجثث وأخذ شهاداتٍ من شهود العيان، وحتّى اليوم لم تتم معاقبة النظام”.
واليوم وبعد أكثر من مجزرة تلت ما جرى في الحولة ما يزال النظام يمارس القتل بحق المدنيين مستخدماً مختلف الوسائل، وكحال العديد من عمليات التوثيق أو حتى الإدانة بقي النظام بعدها دون محاسبة.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]