من ريف دمشق إلى تركيا .. رحلة عذاب على أمل اللقاء


عاشت تحت وطأة الحصار لمدة عامين، في إحدى بلدات ريف دمشق، اختبرت الجوع والقصف والقنص، لكنّ همّها الأكبر بقي لقاءها لأبنائها، الذين نجحت بإخراجهم من البلاد قبل أن يطبق الحصار عليهم.

كانت تنتظر أن ينتهي الحصار بانتصار الثورة التي خرجت مع بداياتها تنشد الحرية والكرامة، لكنها “طُعنت عميقاً” كما تقول عندما تم إبلاغها بالتوصل إلى اتفاق التهجير نحو إدلب في شمالي سوريا.

 

هاجس اللقاء

عقب خروج أم محمد من الزبداني، إلى إدلب عادت رغبتها بلقاء أبنائها تقضّ مضجعها، ولم تعُد تفكر سوى بالخروج إلى تركيا، علّها تتمكن من متابعة رحلتها إلى لبنان وتلتقي بهم هناك.

تقول أم محمد لـ صدى الشام: “تواصلنا مع العديد من الجهات والمهربين بحثاً عن الطريق الأكثر أماناً، إلى أن أتى زوجي قبل أيام مستعجلاً، وأيقظني عند الساعة السابعة صباحاً، لم أستوعب ما حدّثني به، كان قد أحيا ذكريات أحاول نسيانها، فقد كان يوقظني بالطريقة ذاتها حين كان يحدث قصفٌ جوي أو مدفعي، لكن هذه المرة قال لي: اليوم سنتوجه إلى تركيا، لم نستغرق أكثر من عشر دقائق لجمع بعض حاجياتنا ومغادرة المنزل”.

وتابعت “ركبنا حافلة إلى منطقة تدعى تلول، ومنها أقلّتنا سيارة (فان) مغلقة، وبحدود الساعة العاشرة والنصف وصلنا لكراجات النصرة في بلدة خربة الجوز، ومنه قطعنا تذكرة وركبنا في حافلة، لم أسأل زوجي حينها عن اسم المنطقة التي نتوجه إليها، وبعد نحو الساعة من الزمن مضت وأنا أفكر، هل سأرى أبنائي.. ماذا سأقول لهم؟.. كم سأُقَبلهم، وقفت الحافلة ونزلنا منها، كان ينتظرنا شخص رافقَنا إلى منزل قديم وصغير مُكوّن من غرفتين مفتوحتين على بعضهما؛ الغرفة الأولى فيها نحو 15 رجلاً يغطون أنفسهم ببطانيات، والغرفة الثانية بها نحو 10 نساء، وعدد من الأطفال”.

 

 

سيراً على الأقدام

“لم يكن هناك كهرباء في ذلك المنزل، وكانت الشمس تميل للغياب، ورائحة المكان مقرفة للغاية، الحمد الله لم يطل جلوسنا به، يبدو أننا كنا آخر الواصلين، حيث جاءت شاحنة صغيرة وركبنا فيها مع 13 شخصًا آخرين بينهم نساء وأطفال إضافة إلى اثنين من الأدلاء”.

تصِفْ أم محمد هذه المرحلة التي شهدت انتظار اكتمال المجموعة بهدف التوجه نحو تركيا، وتضيف: “كان البرد شديداً والرياح قوية، أذكر أن الساعة حينها كانت 11.12 دقيقة، انطلقت السيارة دون أن تشعل الأضواء نحو الحدود السورية التركية، لنحو ثلاثة أرباع الساعة، حيث توقفت الشاحنة وبدأت رحلة السير على الأقدام نحو الجبال التي تحول بيننا وبين تركيا”.

وأوضحت أنها “لم تستطع أن تميّز ملامح وجوه من معها”، قائلة “كنت مع زوجي نسير في آخر المجموعة، على ضوء قمر لا يزيد عمره عن 11 يوماً، في طريق شديد الوعورة نزولاً وصعوداً، لم يكن أحد منا قادراً على التحدث ولا الهمس خوفاً من أن يُكشَف أمرنا، جزء من تلك الطرقات كنا نقطعها حبواً عل أيدينا وأرجلنا، ورغم ذلك كنت مستمتعة بأني أقطع طريقاً لطالما شغل تفكيري، غير أني بدأت أتعب وأتعرق بشدة، لكن لم يكن لي خيار سوى متابعة السير”.

 

في الجانب السوري

 تصمُت المرأة الأربعينية عن الحديث وكأنها تعود بذاكرتها إلى ذلك المكان، وتتابع قائلة “قطعنا نهراً لم يكن شديد الغزارة، لكنه كان شديد الوعورة، وأثناء تجاوزنا النهر سقطت امرأة حلبية في السبعين من العمر في الماء، وكان البرد شديداً، وبعد  وقت قصير وصلنا إلى سفح جبل قليل الانحدار، جَلسنا للاستراحة وإشعال النار لتجفيف الملابس والحصول على بعض الدفء، كانت المنطقة جميلة ورائحة الزعتر البري تفوح. افترشتُ الأرض لأريح نفسي قليلاً، عقب ساعتين من السير المتواصل، وبعد الاستراحة تابعنا المسير لساعتين إضافيتين ضمن الأراضي السورية شديدة الوعورة، فيما كان المُرشد يعِدُنا أن رحلتنا في الأراضي التركية ستكون أسهل عبر بساتين الزيتون، بعد ذلك بدأت الأشجار والشجيرات تعلو وتكبر، نسير عبرها ولا نرى سوى مواضع خطواتنا، ليظهر أمامنا طريق لونه أبيض، كان فيه حاجز من الشباك الحديدية، طُلب منا أن نتسلل من تحته بسرعة وألا تُصدر خطواتنا صوتاً، كان المرشد ينبهنا بلهجة قاسية من إصدار أي صوت”.

 

إلى المخفر

“ما إن قطعنا الشبك، حتى بدأنا بالركض، لما بعد أذان الفجر، لقد كنا في الأراضي التركية، التي كانت أرضها وعرة أيضاً وموحلة، ومع اقتراب شروق الشمس قال المرشد لنا إنه لا يمكننا مواصلة المسير، وبعد ربع ساعة تقريباً وصلنا إلى غابة، ولجأنا فيها إلى مكان، بقينا جالسين فيه لمدة 12 ساعة من الفجر إلى مغيب الشمس، كنا نتبادل القليل من الكلمات، ولم نستطع الوقوف خوفاً من أن يشاهدنا أحد”.

تُواصل أم محمد في حديثها لنا لنقل الأجواء التي عايشتها في رحلتها الشاقة، والتي لم تبدُ أقل قسوة بعد العبور إلى الجانب التركي، وتقول: “تابعنا المسير بعد الغروب ونزلنا بوادٍ سحيق جداً، كنت أسحب نفسي على الأرض، وعندما وصلنا إلى قعر الوادي، كان يجري فيه نهر، ما جعلنا نبتل بالماء من جديد، ولم يكن معنا أي طعام أو شراب، ومع وصولنا إلى قعر الوادي استمرينا بين الركض والمشي السريع ليمضي نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، تجاوزنا خلالها العديد من الأنهار، ولم يغب عنا تهديد المرشد أننا إن لم نستعجل سنقع بيد الجنود الأتراك، كنت حينها قد أُنهكت من التعب، ولم أعد استطيع أن ألتقط أنفاسي لكن لم يكن لي خيار إلا المتابعة، أو أن يتركونا وحيدين في تلك الأرض”.

وبين أوامر بالركض أو التسلل، فجأة سمعتْ المجموعة صوت نباح كلاب، فركض الجميع رغم أنهم منهكون، ووصلوا إلى مكان بعد قليل، وأصبح صوت الكلاب بعيداً نوعا ما، لكن ما هي إلا دقائق حتى تم تسليط ضوء قوي عليهم.

في هذه اللحظة جاء رجلٌ تحدث إليهم بالتركية، في وقت كانوا يعيشون فيه برعب شديد، فقام بضرب الشباب بعصا كان يحملها، ثم جاء معه شخص آخر، وأخذوا المجموعة إلى المخفر الموجود على تل قريب.

 

عودة إلى نقطة البداية

 في المخفر حيث اقتيد العابرون، عاشت أم محمد مواقف لم تألفها من قبل، فقد اقترب منها أحد المرشدين وطلب أن تدّعي أنه ابنها، وسألها عن اسمها واسم زوجها، موضحاً أنهم إذا عرفوا أنه مهرب فسوف يقتلونه، وقد قبلت أم محمد بذلك. لكنهم لاحقاً لم يضطروا للدخول بهذه التفاصيل، وتضيف: “لم نفهم عليهم ولم يفهموا علينا، وزعوا علينا الماء وفتشوا ما كنا نحمله من أغراض وجعلونا ننتظر، وبحدود الساعة 2 بعد منتصف الليل جاءت سيارة وأخذتنا إلى المعبر لتتم إعادتنا الى سوريا”.

لو نجحت تلك الرحلة كانت ستكلف أم محمد 500 دولار أمريكي، تلك تفاصيل لا تهتمّ لها فهي بالمقابل ورغم كل ما عانته في محاولة الهروب تلك إلا أنها تؤكد تصميمها على بلوغ ما تريد، وتقول “سأعيد المحاولة مرة أخرى فلا شيء أنتظره هنا، وأريد أن أجتمع مع أبنائي”.



صدى الشام