‘“رونيه”.. شر الإنسان الحديث’
1 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
عبد الهادي صالحة
في عام 1797 نشر شاتوبريان مقالة حول “الثورات” أفضت إلى نتيجة مخيبة للآمال: العالم عبثي، وكل جهد لتحسينه مصيره العدم، ويبقى الإنسان دائمًا كائنًا منعزلًا وسجينَ وحدته. وفي عام 1802 تكلم شاتوبريان عن غموض الأهواء في “عبقرية المسيحية” التي وجدت تعبيرها أيضًا في رونيه (1805). وصف شاتوبريان هذا الأمر قائلًا: ” كلما تقدمت الشعوب في مضمار الحضارة، زادت حالة غموض هذه الأهواء”، وأضاف: “الخيال غني وسخي ورائع، بينما الوجود جاف زري ومنزوع عنه السحر. نعيش بقلب مليء في عالم خاوٍ، لم ننتفع بشيء وحرمنا من كل شيء”.
ابتكر شاتوبريان شخصية أساسية في الكتابة الرومانسية تلك هي شخصية البطل العاطفي الذي لا يجد من الناس مَن يفهمه، ولا يجد له أنيسًا في وحدته. شخصية (رونيه-René) الشاب الذي كان مرتعًا لليأس ولـ “مرض العصر”، متأرجحًا بين مشاعر وأحاسيس متناقضة. لقد حملت هذه الرواية شرّ العصر، وكوّنت الكآبة الرومانسية التي غزت الأدب الفرنسي بأكمله، على مدى عقود، على غرار كآبة غوته وبيرون التي تجاوزتهما، على الأقل في فرنسا. بيد أن شاتوبريان لم يكن المخترع بكل دقة لمرض العصر الذي كان سيصبح، بفضله، الموضوع الرومانسي بامتياز. فقد سبق في القرن الثامن عشر تجديد عميق للأفكار والحساسية.
حسب كاتب العبقرية، إن “غموض الأهواء” هذا هو شرّ الإنسان الحديث: ابن عصر تفحص كل شيء، وشفي من كل الأوهام، وفقد حس الفعل. لقد خلق شاتوبريان المغامر المتغطرس المتقلب “رونيه” بأصالة شعرية وأسطورة شخصية في مواجهة الحداثة. وحاول النكوص نحو الحالة المتوحشة والابتعاد عن الحالة المدنية الأوروبية. ستكشف (رونيه) المزودة بقوة معارضة لا تقبل الشهادات أو الشك، ستكشف عن نفسها عما قريب كميثاق أدبي لمرض العصر: (رونيه)، كتب بيير باربيريس، ستشكل الشباب والمراهقة في قوة الواقع والقطيعة. هذه الرواية هي رواية المفارقة المقلقة للغاية، وهي لا تهدف إلى عرض مغامرة روائية متخيلة، بل إلى عرض أسرار قلب كائن بشري قلق وغريب غارق في عالم مضطرب. تصور لنا هذه الرواية نفسًا قلقة، تعذبها حاجة مستبدة، طاغية للاستسلام لعنف وغموض الأهواء العاجزة عن تثبيت غرض هذا الفائض من الحياة؛ “إنها تعرف مسبقًا أن لا شيء في الواقع يمكنه تلبية اللامتناهي لتطلعاته وغنى خياله”.
عنوان الرواية هو عنوان ذاتي، يعين موضوع النص وهو السيرة الذاتية. ثمة علاقة دلالية بين العنوان والنص، عنوان أدبي يعين الموضوعة الأساسية للكتاب بلا دوران أو تصوير. فالعنوان يتشكل من اسم العلم: (رونيه) يستميل القارئ إلى اقتناء النص وقراءته. تتجه الأنا الراوية، من خلال عتبة العنوان، معترفة بعلوها وانفرادها. وتشهد هذه العتبة، بمفردتها الوحيدة، على حضور نارسيس الحاضر بقوة في الذاكرة الظاهرية والباطنية للخطاب. وهي تمثل وعاءً مستوعبًا لآلية إعلاء ذات شاتوبريان المتسلطة والمغرورة كما سنرى. هذه الذات التي تجيد فنون الكذب والتظاهر والخداع.
إن رواية (رونيه) تستلهم بشكل وثيق من واقع معيش من قبل الكاتب ومن عالم متخيل، إنها رواية تستحق الاهتمام والاحترام الذي أثارته. إنها “ملحمة المتمدن، رونيه، الذي يطمح إلى التخلي عن أكاذيب المدنية”. في هذه الرواية ينقل شاتوبريان أدبيًا قصةَ حب محرم، حب مستحيل “ثمة شغف لا اسم له ولا موضوع كان يلهب رأس رونيه الذي يفتش فقط عن خير غير معروف تدفعه إليه الغريزة”. لقد نقل حبًا أحسّ به تجاه شقيقته لوسيل منذ الطفولة، وسيبقى مخلصًا لها طوال حياته. ورونيه راوي الرواية وبطلها هو شاتوبريان ذاته، وتحت ملامح إميلي يرسم شقيقته لوسيل.
يحتل الدين، عند شاتوبريان، مكانًا جوهريًا وغامضًا بما فيه الكفاية. إنه يشكل نوعًا من الراية التي يدافع عنها شاتوبريان طوال حياته. ولكن دينه أو صدقه غالبًا كان موضع شك وإنكار من قبل معاصريه ونقاده. بالنسبة إلى كاتب (رونيه) الحياة الدينية “مد وجزر”. كان شاتوبريان ينادي بالأخلاق وبالفضائل المسيحية، ولكنه استسلم لأهوائه الجسدية… وبشكل خاص غزواته النسائية المفضوحة. جيل بأكمله وجد نفسه في رونيه وأحبه حقًا، إن جيلًا بأكمله تعرّف على نفسه في هذه الشخصية النبيلة والتائهة التي تجر وراءها سأمًا لا يمكن الشفاء منه، والذي فشل، على غرار فرتر، في إيجاد مكانه في المجتمع.
إن نجاح هذا الكتاب كان جديرًا بالملاحظة، البرهان أن مرض العيش لرونيه كان يعبّر عن تجربة جماعية، وعن رؤية للعالم نزع عنها السحر وانقشعت عنها الأوهام، وتقاسمها الكثيرون بشكل واسع.
النص الشاتوبرياني يغرق في أنانيته النرجسية التي تحاول تحقيق التوازن النفسي بالتعويض من خلال أحلامه وكتابته الإبداعية التي تعيش حالة صراع قوية بين الغريزة والحضارة. لقد كان لهذه الرواية دلالة روحية وصدى اجتماعي كبيران من خلال الأحاسيس التي أثارتها في المتلقي، ومن خلال تعبئة ملكاته الفكرية وتهييج نزعاته العاطفية. تهدف هذه الرواية إلى “إثارة الأحاسيس الذاتية المبهمة في القارئ”، وجعل هذا القارئ، الأخ بالروح، يتلاحم ويتعاطف مع إرثه السيكولوجي، ويبعث فيه رغبات وأحلامًا. ومن الجلي أن عنصر التقمص هو واحد من أهم طرق القراءة وأكثرها شيوعًا بين القراء. وأن ارتباط القارئ العاطفي بالنص المقروء هو مكون أساسي من مكونات القراءة. يجد القارئ نفسه وحيدًا في حضرة النص يتأمله ويفحصه، وتتيح له خلوته به أن يمارس معه كل صنوف العشق والهيام. إن قارئ شاتوبريان لا يستهلك النص بل يستهلكه النص، إنه قارئ يسكنه النص ويسكن في النص، يتجول في ردهاته ويتنقل بين جنباته.
النص الشاتوبرياني ينشر العدوى، وينقل حالات نفسية مريضة أو على الأقل يوحي بها. لقد جعل شاتوبريان من الانفعال طريقًا إلى الانفعال، أو إلى الاستجابة الإيجابية لمصلحته. لقد نجح شاتوبريان بتوظيف عواطفه وتوجيهها بشكل مخاتل جيد، وحمل قارئه، بعد أن رماه في حالة من التوتر، على تبنيها، من خلال تحويله من حالة نفسية إلى أخرى، وعلى الانتصار لقضية الكاتب، هذا التحول تنتقل عدواه إلى عقله ومن ثم إلى أفكاره وأحكامه.
يطرح شاتوبريان غواية الشر تحت ستار التحليل والوعظ، وذلك إرضاء لسادية دفينة في نفسه، والعجرفة والتكبر والغرور، حين يحبس مصيرًا بأكمله بين دفتي كتاب؛ إن البطل هو شيئُه الذي يتلذذ في تعذيبه. يفضل شاتوبريان أن يتألم وأن يخفي هشاشة الذات الكاتبة، على أن ينهار كبرياؤه الذي يتجلى في عقدة التفوق والتسلط التي تسعى إلى إخضاع القارئ العاشق والمأسور بموضوع النص إلى إمبرياليته وظلاله السوداء، وإلى دفعه للتفكير، من خلال صوته. لقد استغل شاتوبريان، من خلال ريائه الأدبي، ضعف المقاومة العاطفية للمتلقي، وهي سبب أساس في انخراطه في عالم نصه المخاتل، وفي استكانته لنداء الحالات النفسية الحسية والانفعالية الخبيثة والمتفسخة التي يثيرها فينا، كما استطاع أن يعبث، بمهارة، بعواطفنا فيوجهها حيث يشاء من خلال قوة إقناعه التي “هي منبع افتتاننا بنصه الأدبي” الذي يلعب لعبة الظلال والأضواء: نهار وليل. إنه يبرع في استدراج القارئ إلى “فضاء الإغواء” وإلى اختراقه، وهو يسعى جاهدًا إلى إخفاء فضائحه، ومعميًا تضاريسه ومخاتلاته. لقد استغل شاتوبريان عواطف القراء الشباب من خلال عرض نصه في صور جميلة جذابة، حيث “تجد الرغبات المكبوتة بديلًا عنها في عالم أدبي متخيل (التسامي)، وحيث يحقق عالمًا متخيلًا يعكس مثال الأنا المتصارع مع الواقع والحقيقة الخارجية”.
تمكن شاتوبريان من قلوب قرائه، فكلامه حلو اللفظ، أنفذ من السحر و”كان كالخمر في لطف دبيبه (تأثيره) وإلهائه وهزه وإثارته”. يلعب شاتوبريان ويتلاعب من خلال ريائه الأدبي في هذه الرواية بألاعيب الضمير و”الأهواء” التي يصرح بها. إنه يشكل المتلقي ويخترقه بواسطة لغته ومفهوماته وأفكاره التي تحدث، بشكل غير واع، تغييرات وتصدعات في “الحساسية” تجاه العالم المعيش؛ فيقع القارئ ضحية هذا الفساد الخلقي. ويرى الناقد الأمريكي ت. إس. إيليوت أن هذا التلذذ بالتأسي، ما هو إلاّ تعبير عن الروح الإنسانية السامية التي تقبع في نفس القارئ والمتلقي للأدب بشكل عام. إنه الاستجابة المثلى لعذابات الآخرين، فالأدب رسالة رفيعة تهدف إلى التعاطف الإنساني والانتصار لما تنطوي عليه النفس الإنسانية الصادقة.
[sociallocker] [/sociallocker]