مجزرة “الطنطورة” ووحشية النظام السوري
1 يونيو، 2017
مصطفى الولي
عندما وصل خبر احتلال الهاغانا لقرية الطنطورة لرئيس “دولة إسرائيل”، ديفيد بن غوريون، اكتفى بالقول: ذلك جيد لـ “إسرائيل”، وتابع احتساء قهوته على شرفة مكتبه في مدينة حيفا. لم يكن يعنيه ما الذي فعله لواء الكسندروني وكتيبة كيرملي خلال اقتحامهم للقرية في ليلة 23 أيار/ مايو 1948. ولم يعثر المؤرخون الإسرائيليون الجدد خلال مطالعاتهم لوثائق الهاغانا على أي أوامر خطية بارتكاب المجزرة، هذا ما توصّل له الباحث الأكاديمي الإسرائيلي “ثيودور كاتس تيدي”، وما ثبّته في بحثه وتحقيقه عن أحداث المجزرة هو أن تصرفات الجنود الإسرائيليين وردّات أفعالهم، خلال سير المواجهة مع أبناء القرية، هي السبب في وقوع هذا العدد “الكبير” من الضحايا قبل سيطرة الجيش الإسرائيلي على القرية وإنهاء المقاومة فيها، وما تأكد عن عدد الضحايا بالأسماء 92 قتيلًا من أبناء الطنطورة، أما ما ذكرته بعض المؤلفات عن 210 قتلى، فهو جزء من تصعيد التراجيديا في مشاعر الضحية.
بيد أن ما لم يتوقف عنده المؤرخون الإسرائيليون هو السبب في اندلاع القتال في الطنطورة وقبلها في دير ياسين، فأُلقي اللوم على الضحية التي قاومت وحشية الغزو الصهيوني، ولسان حالهم يقول: لو لم تحدث مقاومة لما وقعت مجازر! وتسلّحوا بأن الوثائق الرسمية الإسرائيلية لا وجود فيها لأوامر عسكرية بارتكاب القتل المرَوع، تمامًا كما يدّعي بشار الأسد لتغطية جرائمه بأنه يواجه “عصابات مسلحة”، أو أن سجلات جيشه لا وجود فيها لسلاح البراميل.
لم أتمكن، منذ السنوات الأولى للثورة السورية، عندما تمر مناسبة لذكرى مجزرة صهيونية بحق الفلسطينيين، أن أتجنب المقارنة بين ما لحق بالفلسطينيين وأفضى إلى “نكبتهم”، وبين ما يتعرض له السوريون من مجازر على يد سلطة الاستبداد والقتل والتوحش، ودون أي تردد أقول إن ما فعله بشار وحلفاؤه بالشعب السوري هو أشد همجية وتوحشًا مما قامت به الهاغانا في فلسطين.
مع ذكرى مجزرة الطنطورة، ومن خلال معرفتي بمجرياتها، عبر التحقيق الذي أجريته مع شهود عيان من أبنائها الذين عاشوا أحداثها الرهيبة، ومن خلال مطالعتي للوثائق العربية والعبرية عن أحداث تلك الليلة المشؤومة، أتوقف عند الحقائق التي تبينها المقارنة بين فاشية سلطة المافيا التي يرأسها بشار الأسد ووحشية ارتكابات أدواتها، وبين ما فعلته الهاغانا في قرية الطنطورة قبل 69 عامًا.
في الطنطورة صدر أمرٌ من القيادة الإسرائيلية العليا، بعد السيطرة على القرية، بوقف الإعدامات، وبالفعل ذكر شهود عيان أن أربعة عشر رجلًا كانوا مسندين إلى جدار بانتظار رصاص الجنود الإسرائيليين، لحظتها جاء مراسل على “موتوسيكل” يحمل رسالة إلى “شمشون” (القائد العسكري الذي قاد اجتياح القرية)، وبعد قراءة شمشون للرسالة أمر بإنهاء قرار الموت بحق الشباب العرب، وعلى الجهة الأخرى التي يقف فيها المجرم بشار وعصابته، كانت عمليات القتل تتم بعد السيطرة على البلدات والقرى، وأكتفي هنا بالتذكير بمجزرة العيد، في داريا عام 2012، التي راح ضحيتها ما يقرب من 1750 من نساء وأطفال ورجال ليسوا من حاملي السلاح. ومثلها مجزرة جديدة الفضل في عام 2014، وراح ضحيتها 500 إنسان، جلهم من النساء والمسنين والأطفال، أما الكيماوي على الغوطة عام 2013 والذي خنق وسمّم نحو 1500 إنسان، فهو يفوق كل الممارسات الفاشية بالتاريخ الحديث.
أبناء الطنطورة الذين أُسِروا بعد سقوط قريتهم، وضعوا في معتقلات تتوفر على حدود مقبولة من التعامل الإنساني، ولم نعلم عن موت أو قتل أحد خلال فترة الاعتقال التي دامت ثمانية أشهر، زد على ذلك أن الإسرائيليين لم يعتقلوا أي امرأة من نساء الطنطورة، وبالطبع من أطفالها أيضًا، أما على يد عصابة الإجرام في سورية، فقد قتلت الأجهزة الأمنية الفاشية عشرات الآلاف من السوريين رجالًا ونساءً وأطفالًا، داخل السجون، ولم يكن لأكثرهم دور في القتال ولا حتى في نشاطات أخرى لمصلحة الثورة، فقط لأنهم من أبناء بلدات ومدن يطلق عليها الفاشيون صفة “البيئة الحاضنة”، وهذه الوحشية العنصرية لم نشهدها سوى على يد النازيين في ألمانيا، ونظام بول بوت في كمبوديا، وميلوسوفيتش في صربيا تجاه البوسنيين.
الأمر الآخر الذي يحضر في الذهن، خلال تناول الصراعات والحروب، هو عمليات الاغتصاب للنساء. في الطنطورة وبعد سقوطها وخلال تفتيش البيوت، لم تُذكر حادثة اغتصاب واحدة، وفي فلسطين عامةً لم يَذكر أبناؤها حادثة واحدة عن عملية اغتصاب امرأة فلسطينية، على الرغم من أن مغادرتهم لقراهم أمام زحف الهاغانا، كانت مبنية على الوعي القاصر للصراع ولطبيعة العدو، فكان الخوف من “هتك الأعراض” و”تدنيس شرف النساء”، أما أدوات العصابة الفاشية المجرمة القابضة على سورية، فلقد قامت بعمليات اغتصاب موثقة بالأسماء، وهي الأقل، أما الأكثر بقي طي الكتمان لأسباب يعرفها الجميع.
التعفيش والتشليح، كما عرفناهما على يد سلطة المافيا في سورية، لم تشهده الطنطورة، وكذلك بقية فلسطين، باستثناء أخذ الحلي الذهبية من النساء خلال تجميعهن على الشاطئ بعد احتلال القرية، وأعيد بعض الحلي لأصحابه، وذكر الشهود أن جنودًا من قوة الاقتحام كانوا يتجاهلون حليَ بعض النساء ويبقينه بحوزتهن، وفي حادثة حقيقية لها دلالة، دخلت امرأة يهودية من مستوطنة قريبة إلى الطنطورة، بعد إجلاء سكانها، لتُخرج أساور ذهبية لسيدة فلسطينية؛ وأخرجت الأساور وأعادتها إلى صاحبتها، في القرية العربية الأقرب إلى الطنطورة “الفريديس”.
مفاده أن فاشية الطاغية بشار وأدواته، تفوق مئات المرات ما ارتكبته قوات الغزو الصهيوني لفلسطين بحق أبنائها، وتجربة الطنطورة غيض من فيض من التجارب التي عاشها الفلسطينيون، لكنها بكل مآسيها وآلامها هي عبارة عن ذرات رمل قليلة في صحراء توحش الطغيان المافيوي لعائلة الأسد وأدواتها الدموية، ويكفي هنا التذكير بأن عدد ضحايا حرب 1948 من الفلسطينيين لم يتجاوز 2000 قتيل، وهذا أقل مما خسره فلسطينيو سورية من أبنائهم منذ عام 2011 حتى الآن، خلال أحداث الثورة، وسأترك جانبًا عدد ضحايا الدكتاتور الأب من الفلسطينيين في لبنان.
أختم بالقول لمن يرى في ما أوردته أعلاه تجميلًا لصورة “إسرائيل”، فذلك شأن وعيه القاصر، بالنسبة إلي، الحقيقة هي القيمة العليا المُطلقة التي لا تساويها أي قيمة أخرى في تجارب الحياة.
[sociallocker] [/sociallocker]