الأحلام ليست على حق


سوزان علي

-1-

تنتظر الفستان الورديّ أن يجفّ على حبل الغسيل، تقيسُ المسافة بين الشمس وشرفتها، وتنفخُ في الريح كي تهبَّ بقوةٍ صوب الفستان، تتلّمس الأكمام الزرقاء، تُعيد نشر الفستان بالمقلوب ليسقط ملقطٌ خشبيٌّ في الشارع، تشتمُ الملقط والشارع وموعدها، تصلها رسالةٌ هاتفيّة تعتذر لها عن الموعد، تقرأ الرسالة ويدها تداعب نبتة الصبّار، دون أن تشعر بوخز أشواكها، تقعد على الكرسيّ مقابل الفستان، تحدق في الشمس حتى تدمع عيناها، لم تنشف حتى الآن سوى الأكمام، تغيّر من شكلها وفكرتها، مردِّدةً: الأحلام ليست دائمًا على حق.

ترتدي سروال الجينز وقميصًا أبيض، تنزل إلى الشارع، وترنو إلى الفستان المتدلي كمشنقة فوق حبل الغسيل، تدمع عيناها مجددًّا وتمضي.

-2-

من شروط العمل الجديد الذي ترغب بمزاولته، المظهر الجيد واللائق، لذلك دأبت على كيّ القميص أربع مرات، ونقعت حذاءها بمحلولٍ تستخدمه في غسل زجاج النوافذ، كما نصحتها صديقتها، رتبت حقيبتها الفوضويّة، واضعًة أوراقها الشخصية في جيبها الكبير، أما النقود فرتبتها، لأول مرة كما يفعل الجميع: الفكة داخل أصغر مكان في الحقيبة، الأوراق من فئة الخمسين والمئة ليرة في جيب الحقيبة الخارجيّ، أما ما هومن فئة خمسمئة ليرة وما فوق، فوضعتها في الجيب الأوسط، تعذبت في تقسيم حقيبتها أكثر من اختيار ملابسها، وراحت تبرِّر لنفسها حقيقة تلك الفلسفة، ففي موعد العمل الأول، الجميع سينتبه إلى شكلك وحقيبتك أيضًا، فإن طلبوا منكِ هويتك الشخصية مثلًا، فليس من اللباقة أن تنزعيها وسماعات الهاتف عالقة على أطرافها، أو ورقة نقديّة تغلفُها.

أخذ منها التحضير لأجل موعد العمل أسبوعًا كاملًا، أظافرها التي لونتها، قبل أمس، بالأزرق الفاتح، استيقظت في الصباح لتجد اللون بهت وتجعد، لم تصبر عليه حتى ينشفَ كعادتها، بل نامت ويداها مضمومتان بعمقٍ تحت الغطاء.

في سيّارة الأجرة فتحتْ حقيبتها، وأخرجتْ علبة الطلاء كي تصلح لون أظافرها، طلبتْ من السائق أن يُبطئ في سرعته، ويرفع أغنية وديع الصافي في الراديو، مسحت اللون القديم، وبدأت بحذر شديد تخطُّ لونًا آخر فوق أظافرها، راح السائق يشتمُ الازدحام والحواجز تارًة، ويتنهد عميقًا، وهو يروي لها كيف كانت الحياة في دمشق، في زمن مضى، لم تناقشه في تلك الجدلية التي سمعتْها وأصبحت تحفظها عن ظهر قلب، إلى أن قاطعَ عدم اكتراثها وانشغالها بأظافرها، صمتُ إشارة المرور وصورةٌ مدّها السائق نحوها، ثم أردفَ:

– إنه ولدي. كان في العشرين من عمره، عندما غاب عنا، دفناه منذ شهر، دُفِنَ جسدُهُ كاملًا عدا أظافره، لقد سلمونا الجثة من دون أظافر.

-3-

تحبُّ تلك الأشكال التي يكون وجهها الثاني عبارة عن مغناطيس صغير، تثبِّتُها على سطح الثلاجة، تشتريها بكثرة وتنتقي الغريب منها، تحفظُ جيّدًا سنة شراء كل واحدة منها، والمكان الذي اقتنتها منه، ترفق بعضها بصورةٍ أو ورقةٍ كُتب عليها طريقة صنع أكلةٍ ما، كانت قد دونتها وهي تشاهد برنامجًا للطبخ على إحدى القنوات التلفزيونية.

هذا المساء، وصلت متأخرة إلى بيتها، وكما تركض أي امرأة لقياس الثوب الذي اشترته للتو، تُسارعُ -هي أيضًا- إلى تعليق تلك الأشكال على الثلاجة، ترتبها جيدًا في سياقها الزمني، صحونٌ صغيرة، قرنُ فلفلٍ أحمر، مقلاة في جوفها علم لبنان، هذا ما يخصُّ مثلًا الفترة التي قضتها في بيروت، قبل ثلاثة أعوام.

 وقفت شاردةً حائرةً! للمرة الأولى تنتبه إلى تطور تلك الأشكال، حَبُّ العليّق والنجوم الزرقاء وقلوب الشوكولا المغناطيسية التي جمعتها منذ سنوات لم تعد تلفتُها.

قبل أسبوع، علَّقت وسط الثلاجة عنكبوتًا صفراء، واليوم اشترت عقربًا بأرجلٍ خضراء.

-4-

منبهٌ صغيرٌ لا يقلُّ عمرهُ عن مئة عام، سحرَها شكله ولونه على واجهة أحد محلات الأنتيكا، لم تسأل صاحب المحل -عند شرائه- إن كان يعملُ أم هو مجرد تحفةٍ قديمةٍ. عندما وضعته فوق الرفِّ الأخير في الفاترينا، بدا لها وجه العقارب الساكنة مخيفًا وموحشًا.

يزورها الأصدقاء، تستمع إلى نكاتهم المغلقة بصمتٍ مفاجئ، تشاهدُ نشرة الطقس، تأكل الفستق وتغيِّر المحطة، وعقاربُ المنبّه ساكنة.

تنظِّفُ الغبار، ريثما تغلي ركوة القهوة. تقشرُ تفاحًة، تقلِّد صراخ بائع الخضار في الخارج، تشتمُ المواعيد، تردُّعلى الرسائل بسرعة، وتبعث برسالةٍ صوتيّةٍ إلى صديقها البعيد، تقرأ كتابًا لم تفهمه في الليل، تمدُّ ساقيها على نهايتهما فوق الأريكة، محركًة أصابع قدميها، والعقارب ساكنة.

تغادر البيت مسرعًة وتعود مسرعًة، تُطفئ الضوء ثم تشعله، ترفع صوت التلفاز، تغيِّر القناة، تضع موسيقى كلاسيكية، والعقارب ساكنة.

في ظهيرة حارّة والعرقُ يسيل خلف ركبتيها، مسكت الساعة ووضعتها بين فخذيها، وأخذت تبحث عن مفتاحها الخلفي. “كان هناك ثلاثة مفاتيح، على ما أذكر”، قالت بغضب.

 حرّكت المفتاح الأول بلا فائدة، ثم فكّت الثاني حتى خرج من مكانه، وراحت تعيده إلى ما كان عليه بحذر، بدأت تتعرقُ أكثر، لم يبقَ سوى مفتاح أخير، بحركة دائريٍّة بطيئة تمشت أصابعها مع وجهته، وفجأةً خرج ذلك الصوت من المنبّه.

كان أجمل صوتٍ تسمعُهُ في حياتها. أغلقت التلفاز، أطفأت الضوء، ثم ابتعدتْ لترى المنبّه، تحركتْ بخفةٍ صوب الكنبة واستلقت على ظهرها كراقصة، ترقبُ العقارب وهي تمشي مصدرًة ذاك الصوت الذي انتظرته، الصوت الذي أصابها صمتهُ بالشحوب، الصوت الذي تصغي جيدًا إليه الآن، كانت تهربُ منه في وقتٍ مضى إن حدثَ وسمعته مرًة ولو بالصدفة، الصوت الذي تسترخي على دقاتهِ الآن، كان يقتلها سماعهُ قبل أن تبدأ الحرب.

-5-

تقرأ كتاب المسخ لكافكا، تتمشّى في الممرّ، تدخلُ غرفة النوم، تستوقفها جملةٌ، ترفعُ رأسها محدِّقًة في المرآة، لترى بعوضًة تتوسط الزجاج، تفكر تلقائيًّا بأن تسحقها بالكتاب الذي في يدها، ثم تستدرك بأنّه ليس لها، لقد استعارته في الأمس من صديقتها، تفكرُ ماذا لو غابت برهًة كي تجلبَ شيئًا آخر يصلح لقتل البعوضة؟؟ من الممكن أن تدرك البعوضة خطتها تلك على الفور، لتطير وتختفي.

 على الطاولة تحت المرآة، زجاجات عطرٍ وأقلام أحمر شفاه وكُحل ومقص أظافر، ومناديل عليها آثارُ أحمر شفاه، تستخدمه بشكل دائمٍ كي تخفّف من حدّة اللون، لا تحب أن ترميه، بل تعشق مشهد أحمر شفتيها فوق المناديل.

إذًا، لا شيءَ هنا يفي بالغرض لقتل تلك البعوضة، تتمرأى مجدَّدًا، مُهندسًة فمها على مسارٍ واحد وسط مكان البعوضة، ليبدو في المرآة، وكأن البعوضة تجثو وسط شفتيها المطبقتين.

تفتح فمها بهدوءٍ، تريدُ أن تهدّد البعوضة وتخيفها، ثم تغلقهُ فجأة، وبسرعة، تغمضُ عينيها ثم تفتحهما، تحدّقُ جيّدًا وسط المرآة، فلا ترى أيّ أثر للبعوضة، تفتح فمها وتبصقُ، تُدخِل أصابعها حتى بلعومها، تشكُّ في هذه التمثيلية، تبحث عنها فوق الجدران، على أطراف الفاترينا، على الباب، فوق السرير، البعوضة اختفت، تصدّقُ الخدعة ويشحبُ لون جلدها.

 تعودُ لاهثًة إلى الصفحة التي كانت تقرأها قبل أن تدخل غرفة النوم، ثم تصرخ صرخًة مدويًّة: هل بلعتُ للتوّ غريغور سامسا، بطل كافكا؟.




المصدر