مع معتقلي تنسيقية دمشق


ميشال شماس

   مع توسع حركة الاحتجاجات المناهضة لنظام الأسد، في مختلف المحافظات والمدن والمناطق السورية، توسعت حملة الاعتقالات مستهدفة بالدرجة الأولى الناشطين الشباب، من طلاب المدارس والجامعات وحملة الشهادات الجامعية، ففي دمشق، كما في بقية المدن السورية، كثفت أجهزة الأمن من حملاتها مع بداية شهر تموز/ يوليو 2011 في محاولة لكسر حركة التظاهرات المتصاعدة وخشية من أن يشتد عودها، وأمام هذا الواقع لجأ الناشطون إلى ابتكار أساليب متنوعة في محاولة لإثبات وجودهم، وفي الوقت نفسه لإرباك وتشتيت تركيز العناصر الأمنية المستنفرة في كل زاوية وشارع في مدينة دمشق؛ فقاموا مثلًا بوضع أجهزة تسجيل مع مكبرات صوت على أسطح بعض البنايات، كما حدث في ساحة عرنوس، حيث فوجئ عناصر الأمن المتربصين في الساحة، بأصوات تنادي بالحرية وإسقاط النظام، يلتفتون في كل الاتجاهات فلا يرون أحدًا في الشوارع سوى السيارات المارة، بينما الصوت ما زال يدوّي في أرجاء المكان، وكأنها تظاهرة بالفعل، ويستمر البحث لأكثر من ربع ساعة حتى اكتشفوا أن الصوت صادرٌ عن آلة تسجيل، وُضعت على سطح درج أحد الأبنية العالية، قام عناصر الأمن  بتحطيمها بانتقام شديد، بعد أن شعروا بالخداع.

  في مكان آخر من حيّ الميدان الدمشقي صدحت أصوات في وسط الشارع تنادي بالحرية وإسقاط النظام.. فأسرع عناصر الأمن إلى الشارع يبحثون عن مكان التظاهرة، فلم يروا أحدًا، وأخذوا ينظرون إلى بعضهم باستغراب، فلا أحد غيرهم في الشارع، والصوتُ ما زالَ يتردد صداه في المكان من آلة تسجيل مخبأة في صندوق معدني مثبت على دراجة هوائية مركونة بجانب سور إحدى البنايات؛ وعندما اكتشفوا الأمر، أطلقوا النار بغزارة من بنادقهم الرشاشة على الصندوق، ليكتشفوا أن الأمر لم يكن سوى خدعة جديدة، وتكررت الحادثة في أكثر من مكان من دمشق.

  بعد اشتداد الضغط الأمني لجأ الناشطون إلى تنظيم تظاهرات خاطفة “طيارة”، كما قاموا بتلوين مياه بعض الساحات باللون الأحمر، كما حدث في ساحة السبع بحرات بدمشق، حيث فوجئ الناس صباحًا بمنظر الساحة، وقد تحول لون الماء فيها إلى الأحمر، وتكرر الأمر في غير ساحة كرسالة احتجاج على العنف الدامي الذي يتعرض له المتظاهرين، وشكل الناشطون في إطار حملتهم السلمية المناهضة للنظام كتائب صغيرة من الناشطين، مهمتها بخّ الشعارات والرسومات المعبّرة على الجدران في الأنفاق وتحت الجسور وفي الساحات، وقد توسعت تلك الحملة لتشمل مختلف أحياء دمشق والمدن السورية، وقد أطلق عليها السوريون اسم “كتيبة البخاخين”. وكلّنا يذكر “الرجل البخاخ” الذي كان يظهر ملثمًا متحديًا عناصر الأمن التي كانت تبحث عن شعاراته لتمحوها، وتكتب بدلًا منها شعارات تمجّد الأسد، فيأتي البخاخ ويمحو شعارات الأمن كنوع من التحدي قائلًا لهم ببخاخه “راجع بدي بخ.. وعلى راس.. بدي بخ”؛ وتحولت المعركة بين البخاخين والأمن إلى كرٍّ وفرٍّ، لا مكان فيها للهزيمة أمام الرجل البخاخ. وقد لاقت حملة “البخاخين” صدًى واسعًا بين السوريين، ولا سيّما بعد أن استشهد عدد منهم كالشهيد أحمد راتب النمر، في حمص، ومحمد حاف (بخاخ سراقب)، وأحمد الخانجي (بخاخ دمشق) الذي اختفى في ظروف غامضة.

 حتى أقلام الليزر الصينية المهربة من لبنان لعبت دورها في مواجهة قمع النظام، من خلال الكتابة بأقلام الليزر ليلًا على جبل قاسيون وعلى ما يسمّى “بقصر الشعب” شعارات مناهضة للنظام ودعمًا لثورة السوريين، وأذكر أنه تم توقيف شاب وشابة -أتحفظ على ذكر اسميهما- وأحالوهما بعد أربعة أشهر إلى قاضي التحقيق الأول بدمشق بتهمة (حيازة “بيل ليزري” وآلة تسجيل، بوصفهما أداتي الجريمة التي كانوا يسيئون بها للقيادة السياسية وللرئيس) وفقًا لما جاء في قرار اتهام النيابة العامة.

 وفي منتصف تموز 2011 وبعد حملات ومتابعة مكثفة من الأجهزة الأمنية تبين لها أن عددًا من الشابات والشباب ينشطون بتنظيم حركة التظاهرات في بعض شوارع وأحياء دمشق وكتابة شعارات مناهضة للنظام، وبدأت تعتقلهم تباعًا على فترات مختلفة، وأذكر أنه كان من بينهم (الناشطتان هنادي زحلوط ونوال شاهين، والناشطون شادي أبو أفخر وعاصم حمشو ورودي عثمان وعمر الأسعد وعامر مطر وجوان إيو وغيفار سعيد وسرور الشيخ موس وأحمد ناجي، وآخرين).  وبعد فترة اعتقال لأكثر من شهرين، أُحيلوا إلى قاضي التحقيق بدمشق، ومع أنهم أنكروا كافة التهم الموجهة إليهم، إلا أن القاضي قرر توقيفهم بتهمة جناية إنشاء جمعية تهدف الى تغيير كيان الدولة، وجناية النيل من هيبة الدولة وبث أنباء كاذبة وجنحة التحريض على التظاهر، وتصل عقوبتها إلى السجن خمس سنوات. وبدا واضحًا أنهم تعرضوا للتعذيب خلال التحقيق معهم في فروع الأمن من خلال منظرهم المزري وثيابهم الممزقة والمهترئة.. ومما قالته الناشطة هنادي زحلوط، بعد أن زرتها في سجن عدرا برفقة الأستاذين خليل معتوق وأنور البني: “لقد تعرضت لتعذيب جسدي وتم ضربي بالحائط، أصبتُ خلالها في العمود الفقري، ثم وضعوني في زنزانة، مساحتها متران بمتر لمدة 51 يومًا”، كما تعرضت هنادي لاعتداء بالضرب والشتائم من قبل قريبتها المدعوة هلا زحلوط، بعد خروجها من مكتب قاضي التحقيق بدمشق، وعلى مرأى من عناصر الشرطة، بهدف إهانتها وكسر شوكتها، كما عبّرت هنادي عن ذلك بقولها: “لم استغرب اعتداءها عليّ لكوني أول فتاة علوية تُعتقل وتحال للقضاء وتُنشر تفاصيل اعتقالها في الإعلام.. كانوا يريدون تربية العلويات، والعلويين المعارضين، بي”. وقد طُردت من الوظيفة بوزارة الزراعة، كما فعلوا الشيء نفسه فيما بعد ببقية الناشطين العاملين في الدولة أو الذين يدرسون في الجامعات، حيث تعرضوا للفصل من أعمالهم ومن جامعاتهم، وقد وسّع النظام من استخدام هذه الوسيلة في محاولة منه لتضييق الخناق على المواطنين ومنعهم من التظاهر أو ممارسة أي نشاط معارض ضده، ووصل به الأمر إلى استصدار مرسوم خاص، يقضي ليس بوقف الموظف عن عمله بل بحرمانه وحرمان أسرته من معاشه التقاعدي، إذا صدر حكم مبرم بحقه من محكمة الإرهاب.

تعريف: ومما قالته الناشطة هنادي زحلوط، بعد أن زرتها في سجن عدرا برفقة الأستاذين خليل معتوق وأنور البني: “لقد تعرضت لتعذيب جسدي وتم ضربي بالحائط، أصبتُ خلالها في العمود الفقري، ثم وضعوني في زنزانة، مساحتها متران بمتر لمدة 51 يومًا”.




المصدر