مِئةٌ وحِجازان
3 يونيو، 2017
سقراط العلو
مُنذ مئة عامٍ وأزيد بقليل، أطلق الشريف حسين رصاصةً في الهواء إيذانًا بانطلاق الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، وولادة مشروع قومي لدولة عربية كبرى نظَّر له مثقفو بلاد الشام الذين ارتأوا أن تكون قيادته في الحجاز الذي شهد ولادة الدولة العربية الأولى مع فجر الإسلام، ولكن التنظير الشامي والقيادة الحجازية، وجدت نفسها أمام خديعة من القوى الكبرى الداعمة التي وظّفت هذا الجهد العربي في سياق إنهاء الدولة العثمانية وإعادة تقاسم تركتها، عبر تقسيم بلاد الشام إلى دويلات؛ فضاع حُلم المثقفين بالدولة العربية الكبرى وقُسِّمت بلادهم، ورزحت تحت نير الانتداب، وأما الشريف حسين -وإن كان لم يفز بالجائزة الكبرى حكمِ دولة على كامل الأرض العربية- فقد قنع بما وُهب له ولأبنائه كمكافأة لجهوده، خلاصة هذه المراجعة التاريخية هي أن القيادة الحجازية للثورة العربية الكبرى؛ أودت إلى تفتيت بلاد الشام، وإنهاء الدولة العثمانية.
اليوم، وبعد مئة عام على كارثة الحجاز الأولى، يعود الحجاز مجددًا لأخذ زمام المبادرة، في ظل غياب الفاعلية العربية التقليدية (مصر وسورية والعراق)، لصالح صعود ثلاثة مشروعات لقيادة الشرق الأوسط (التركي والإيراني والإسرائيلي)، ووجود الإرهاب الذي بات يهدد اتفاقية (سايكس-بيكو)، وبالتالي فهو يُهدّد الشكل الحالي للمنطقة العربية، وحدود دولها المعروفة، وسبب ذلك هو ذاته منذ مئة عام، محاولة للنهضة العربية (الربيع العربي) نظّر لها مثقفون، وقادها شباب طامح لتغيير الواقع نحو الأفضل، ولكن الفشل الذي اعترى تلك المحاولات الشبابية لإحداث نهضة حقيقية في العالم العربي، كان بسبب التدخلات الحجازية، ومصر خير مثال على ذلك.
لا أعترض على قيادة السعودية، ومن خلفها مجلس التعاون الخليجي للأمة العربية والإسلامية، وتصدّرها دور “الدولة المركز” في الشرق الأوسط، ولكن ما هي إلا جملة تساؤلات يمكن أن تدور في خلد أي مواطنٍ عربي حول مستقبل بلاده المشتعلة، وهو يرقب مراسم تنصيب الملك السعودي إمامًا للمسلمين، بحضور ملك ملوك الدنيا ترامب.
السؤال الأول -والأوْلى بالطرح في هذا المقام- هو حول قابلية السعودية كدولة للقيام بهذا الدور، أي امتلاكها للأسباب الذاتية للقيادة، وهي بدورها تخلق الأسباب الموضوعية، فالقصد بالذاتي هو امتلاك السعودية لشكل الدولة الناجز قانونيًا، الشكل الذي يجعلها مستقرة داخليًا بحيث يسمح لها بالتطلع للدور الخارجي، ولا يختلف اثنان -كما أعتقد- في انعدام هذا العامل في معادلة القوة السعودية. العامل الثاني هو القوة الاقتصادية والتنمية والنمو الدائم للاقتصاد؛ الأمر الذي يخلق غطاءً لتكاليف التمدد الخارجي واستدامته، وفي حالة الاقتصاد السعودي الريعي المعتمد فقط على واردات النفط، فالغطاء موجود آنيًا، ولكن استدامته هي رهنٌ باستقرار أسعار النفط وعدم انخفاضها مرة أخرى، وقدرة السعودية على إحداث تنمية داخلية، والتحول باقتصادها إلى اقتصاد إنتاجي وفقًا لرؤية 2030 التي طرحها ولي ولي العهد.
ثالث عوامل القوة التي يجب أن يُسأل عنها، هو عامل القوة العسكرية، فامتلاك مؤسسة عسكرية عريقة ومحترفة يُعدّ أحد أهم أركان القوة للتمدد سياسيًا خارج حدود الدولة، وهو ما لا يملكه الجيش السعودي، فهل الاعتماد على التحالف العسكري مع دول متهالكة اقتصاديًا حولت جيوشها إلى “بلطجية” للإيجار كافٍ للسعودية؟ أم أن الإنفاق الفلكي على صفقات التسليح سيعوض السعودية عن وجود المؤسسة العسكرية والجيش المحترف؟
رابع عوامل القيادة وأهمها في إطار الحديث عن قيادة السعودية للأمتين العربية والإسلامية، هو “القوة الناعمة” أي السلطة الثقافية بكل مكوناتها (الدينية والفنية والأيديولوجية) وهي التي تعادل منفردة جميعَ العوامل السابقة للقوة، فمصر والشام والعراق لم تتكئ على غيرها، لتصدر المشهد السياسي العربي في المئة عام السابقة على الأقل، أما في الحالة السعودية، فهل لدى المملكة ما تصدّره للعرب والمسلمين دينيًا أو ثقافيًا أو أيديولوجيًا، بشكل يتفوق على ما لدى باقي الدول العربية والإسلامية؟ فعلى المستوى العربي لطالما حاربت السعودية الفكرَ القومي العربي والناصري خصوصًا، فأي عروبةٍ ستصدرها اليوم؟ أهي العروبة بمعناها العرقي القبلي؟ الأمر الذي سيعمق الشرخ مع غير العرب في المجتمعات المتنوعة، ممن ينتمون إلى الثقافة العربية؟ وعلى المستوى الإسلامي السُني، فدأب السعودية منذ تأسيسها كان يقوم على نشر الوهابية ومحاربة التصوف، واليوم يضيف مديرُ “مركز الاعتدال الإسلامي” المُستحدث في الرياض، الإخوانَ المسلمين والسلفية الشامية (السرورية) إلى قائمة المنبوذين من المذهب السُني، والموضوعين في قائمة الحرب على الإرهاب، بمعنى أن الفكر الوهابي “المعتدل” هو الخيار الأيديولوجي للمنطقة في ظل القيادة السعودية.
بالمحصلة، فإن غياب تلك العوامل الذاتية، سيغيّب -بالضرورة- العواملَ الموضوعية للقيادة، وهي القبول والتسليم الشعبي بالقيادة السعودية من قبل جمهور الأمتين العربية والإسلامية، فالاحتكار السعودي لوسائل الإعلام العربية، ومحاولات تلك الوسائل فرض الثقافة واللهجة والدين والرياضة والفن والدراما السعودية على باقي الثقافات العربية؛ أدى إلى حالة تردٍّ إعلامي مستفز للمشاهد العربي، كما أن الأسلوب الأبوي للسياسة السعودية، والذي يقوم على تبعية الآخر، لا على الندّية، تعدّه غالبية الشعوب العربية مُنفرًا ومُهينًا، ففي الحالة المصرية على سبيل المثال، ولّت السعودية “أراجوز” على المصريين، واستغلت حاجة مصر الاقتصادية لشراء جزء من أرضها، فكيف للشعب المصري بعد ذلك أن يتنازل طوعًا عن القيادة العربية للسعودية، ما تتناساه السعودية دائمًا، في علاقاتها مع محيطها العربي، هو أن العرب -مهما ضاقت بهم سُبل العيش- يبقون أباة، ولعل التذكير بالوحدة السورية المصرية مفيد هنا، فما إن تجاوز جمال عبد الناصر حدودَ الوحدة إلى التبعية انتفض السوريون لفكها، على الرغم من التنازلات التي بذلوها في سبيلها.
لا تمتلك السعودية منفردة مقومات الإمامة، كما أن إضعاف القوى العربية التقليدية ليس هو السبيل لتقوية موقفها وتصدرها للمشهد، وإنما التكامل مع هذه القوى ودعم نهضتها وتنمية اقتصاداتها، هو السبيل لحماية أمن المنطقة والخليج واستقرارها المستدام، وليس الاعتماد على التحالف مع الولايات المتحدة فحسب، والسير في ركاب مشروعها المُبهم لإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد، وقد تبدت أولى ملامحه في عودة الانتدابات للمنطقة، الروسي في سورية، والأميركي في العراق، كما حدث منذ مئة عام، في عهد الحجاز السابق، مع اختلاف قوى الانتداب، ويبقى شبح التقسيم الذي يهدد سورية والعراق وليبيا، ومعضلة التعاطي مع الكيان الصهيوني على رأس التساؤلات في ظل قيادة الحجاز الثانية؛ فهل ستسعى السعودية لتطويق النفوذ التركي المنافس، عبر دعم إقامة كيان كردي في سورية على الحدود التركية، وانفصال أكراد العراق على تلك الحدود؟ فتكون بذلك تركيا تلقّت طعنة أخرى حجازية، وقُسّمت سورية والعراق، وهل ستكون نهاية الغزل السعودي الإسرائيلي سعيدة، وسنشهد تعميد دولة “إسرائيل” بمياه زمزم في عهد الحجاز الثاني، بعد أن كانت الولادة في عهد الحجاز الأول؟ إجابات تلك التساؤلات تبقى في علم الغيب، ولكن المؤكد أن مصير المنطقة معلقٌ بين حجازين.
[sociallocker] [/sociallocker]