الدولة السورية في 100 عام
4 يونيو، 2017
رعد أطلي
تعدّ الثورة السورية التي انطلقت، عام 2011، أهمّ حدثٍ مرّ على الدولة السورية، منذ نشوئها قبل مئة عام كاملة، والمرحلةَ الأهم التي ستعيد بناء دولة حديثة في سورية، أو ستنهي وجودها السياسي مرة واحدة وإلى الأبد. فما الذي تطور ونضج، في مئة عام، من ذلك الكيان السياسي وما يحويه من دولة ومجتمع وجماعات؟
بمقارنة بسيطة بين أحداث 1916 حتى استتباب الأمور بيد الفرنسيين، وما يحدث في سورية اليوم، نرى أن المجتمع السوري لم يتطور قيد أنملة، من حيث نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين عناصره، وإن كان هناك نوع من التقدم الطفيف الذي لا يتناسب أبدًا مع المعدلات المرتفعة بشكل كبير لمستوى التعليم والمستوى الصحي، إلا أن ذلك التقدم ليس من شأنه أن يغير في أنماط تلك العلاقات، بل على العكس، ففي فترة العشرينيات المشابهة، إلى حد كبير، ما عليه الحال اليوم، كان المجتمع الأهلي أكثر تماسكًا، لذلك بدت مآلات الصراعات ونتائجها أوضح بكثير مما هي عليه اليوم، وكذلك خطوط خارطة القوة الدولية في المنطقة كانت أكثر وضوحًا مما هي عليه اليوم، أما الحال الذي يعيشه المجتمع السوري الآن، في ظل التكوين الثاني، فقد طرأ عليه نوع من التفكك حتى في البنى التقليدية الخاصة بالمجتمع الأهلي، من دون أن تحل محلها بنى حديثة تجعل المجتمع المدني هو الشكل المهيمن لنمط العلاقات بين الأفراد السوريين، وهذا ببساطة لعدم وجود تغيرات سياسية واقتصادية دافعة لذلك.
انتفضت الثورة العربية الكبرى، حينئذ، ضد نظام استبدادي قمعي، تخلف عن ركب الحضارة العالمية على الرغم من مركزيته فيها، قبل ما لا يزيد عن قرنين من الزمان، وسرعان ما سعى الثوار للتمايز عن ذلك المستبد المتخلف، بوصفه احتلالًا أجنبيًا دخيلًا، حكمَهم بهتانًا باسم الدين، وجعلوا من الرابطة العرقية عنوانًا لدولتهم القومية القادمة التي سينتج منها بداية ظهور الدول القومية، أو بالأحرى ظهور مفهوم الدولة، بالمعنى التقليدي (الحديث في ذلك الوقت) المؤلفة من حدود سياسية واضحة، بعد أكثر من مئتي عام من ظهورها في أوروبا، نتيجة صلح (وستفاليا) 1648. في هذه الأثناء كان للدولة العربية الناشئة أصدقاء، من شأنهم أن يدعموا الدولة الجديدة التي اتخذت دمشقَ عاصمةً لها، لكن هؤلاء الأصدقاء سرعان ما أظهروا أنهم يهتمون بمصالحهم بالدرجة الأولى، وبدأت عملية تقسيم الدولة الحلم لتلك الثورة، ونشأت دويلات عدة لتظهر مرة أخرى عراق وسورية وحلب واللاذقية وجبل العرب وفلسطين ولبنان، ولم يكن هذا التقسيم نتيجة قوة مطلقة بيد “الأصدقاء” البريطانيين والفرنسيين، بقدر ما هو غلبة الروابط التقليدية على الروابط الوطنية، وتشكل فصائل وميليشيات عديدة مسلحة من الثوار، ومن ثمّ من الداخلين الجدد من باقي عناصر المجتمع إلى اللعبة الميليشاوية، ويكفي أن نطلع كيف كان تحرك رمضان شلاش ضد البريطانيين، ومن ثم الفرنسيين في حوض الفرات (دير الزور-الرقة) وصراع شمّر الخرصة ضد شمّر الياور العراقية الموالية للبريطانيين حينذاك، منهكًا للقوى الانتدابية؛ لنعرف مدى تأثير هذا الصراع لو كان قد أدرج في سياق وطني، إلا أن معظم الصراعات كانت تهدف إلى بسط نفوذ جماعة ما على المنطقة التي تشغلها. وصبّ في السياق نفسه استدعاءُ زعيم عشيرة الهويركية الكردية حاجو آغا من نصيبين، وزعيم العشيرة الملية محمود ابراهيم باشا وعشائر أشورية وسريانية من العراق، إضافة إلى المجاميع الموجودة أصلًا في الجزيرة، حيث كانت الولاءات مقسومة بين الدول للسيطرة على المواقع وتحقيق رغبات جماعاتية وليس وطنية، حتى داخل الجماعة نفسها، فعلى سبيل المثال انحرف قسم من جمعية (خويبون) الكردية التي سعت لإقامة دولة كردستان، حسب خريطة عام 1919، للاكتفاء بمملكة كردستانية في منطقة الجزيرة العليا والوسطى في سورية وتركيا، وقوعًا عند رغبة عائلة بدرخان صاحبة الزعامة التاريخية على تلك المنطقة، لتكون العائلة ملكية على الكرد؛ مما أدى في نهاية الأمر إلى حل الجمعية بكاملها، وكذلك كان لعشائر عنزة الفدعان، تحت راية مجحم المهيد، دور كبير في توطيد حكم الفرنسيين في شمال سورية عمومًا، في حين واجه الفرنسيون عمّه حاجم المهيد، بدعم من الأتراك الكماليين حينئذ، ولكن أيضًا لأسباب عشائرية تتعلق بالزعامة، ولم يكن عرب الرولة (عنزة الجنوب في سورية) بأفضل حالًا، فقد دخل غورو دمشق بموكب يتصدره فرسان الأمير نوري الشعلان، في حين انقسمت قبيلة شمر بين شمر الزور، وشمر الخرصة، وأيضًا حالف الأوائل الفرنسيون واختلف معهم الآخرون، ولم تكن قبيلة “طي” أحسن حالًا، فمحمد بن عبد الرحمن (زعيم طي) كان ضد الفرنسيين، لكنه كان في القائمة الانتدابية في انتخابات 1936 في مواجهة الشيخ حسن سليمان المدعوم من القائمة الوطنية، حينئذ تحت غطاء دهام الهادي (شيخ شمر) حينئذ، لأسباب تتعلق بالزعامة، وأيضًا في صفوف المسيحيين كان هناك خلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس، وبين الأرثوذكس أنفسهم وكان لكل جماعة من السوريين ميليشياتها الخاصة المدعومة من طرف خارجي، ولم يكن الحال مختلفًا في الساحل أو جبل العرب أو دمشق وحلب، ولكن ظهور قوة وطنية عبر الكتلة الوطنية حينئذٍ -وهي التي استطاعت أن تضع ديناميات المجتمع الأهلي في سياق وطني- خفف من وطأة تلك الانقسامات، واستطاعت أن توجد إرادة جمعية لدى عموم السوريين، تخطت من خلالها عنق الزجاجة حينئذٍ.
على المستوى الدولي كان سلطات الانتداب والقوى الدولية المؤثرة على الأرض حينئذٍ تعمل، من دون النظر إلى أي مصلحة خاصة بالشعب السوري أو حتى بالجماعة التي تدعمها، ففرنسا التي دعمت إيجاد نظام إداري مستقل ثلاثي (كلدو-أشوري-كردي) في الجزيرة، هي من عمل على إلغائه، واعتقال من ينادي به أحيانًا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللاذقية وجبل العرب، وحلت جمعية (خويبون) بعد الوصول إلى اتفاق نهائي حول معاهدة أنقرة مع الأتراك، الاتفاق الذي منحهم لواء إسكندرون ومساحات كبيرة، كانت من حصة الكيان السوري في الشمال حينئذٍ، وأيضًا تخلى الأتراك عن ثوار الشمال ضد الفرنسيين، بعد أن كانوا يشاركون بقطع عسكرية لمناصرة هؤلاء الثوار، حتى وصلت بهم الأمور إلى أن قاموا باعتقال اللجنة الثورية في الشمال التي تدير عمليات الثورة ضد الفرنسيين، وكانت تتمركز في ولاية كلّس، ونُفِي أعضاؤها إلى الأناضول. لقد كان المجتمع السوري منقسمًا لجماعات لكل منها ميليشيا مقاتلة، تتعلق آمالها بأطراف خارجية، تأمر تلك الميليشيات بالتحرك حسب مصالحها، وكان الانتماء للجماعة التقليدية من عشيرة أو طائفة أو عرقية يشكل الهوية المركزية للفرد السوري، أمرٌ وُضع مدة مئة عام تحت منظومة استبدادية لعدم قدرته على تشكيل هدف مشترك يستطيع من خلاله إزاحة تلك المنظومة من خلال قوة شعبية عارمة.
تعيش سورية -اليوم- هذه المأساة مرة أخرى، وفي حدّ يدعو إلى الاندهاش من شدة التشابه بين حالة الآن وقبل مئة عام: ميليشيات مقاتلة على الأرض تشكل معظمها عناوين لجماعات إثنية وعرقية، مثل “قوات الحماية الكردية” وقوات السوتورو السريانية، وتنظيم “الدولة الإسلامية” والجبهة الإسلامية وجيش الإسلام وجيش فتح الشام، ولواء أبو الفضل العباس، ودرع الساحل، وجيش الموحدين.. وغيرها، وحتى جيش النظام بات ميليشيات طائفية قد تحوي عناصر من جماعات أخرى، ولكنها بقيادات وأولويات طائفية، وتتبع كل ميليشيا لطرف خارجي وتضع سياسياتها وأولوياتها حسب مصالح ذلك الطرف. وهنا، بغض النظر عن الجانب الذي هي عليه تلك القوات، كان من شأن الجيش السوري الحر أن يشكل جامعًا وطنيًا لو كان هناك قيادة سياسية يتبع لها، وكان من شأن المعارضة أن تضع ديناميات المجتمع الأهلي “المتفكك” ضمن سياق لو أنها على ارتباط عضوي مع حواضن الثورة، ولكن هذا الأمر فشل بشكل وبآخر ليضع سورية في موقف أشد خطورة مما كانت عليه في بداية تكوّن الدولة، وكذلك أصدقاء سورية حاليًا ليسوا بأقل سوءًا من أصدقائها سابقًا، حيث تتحدد ملامح صداقتهم وترتبط بالمصالح الخاصة بكل منهم على حدة، ولعل ما حصل في حلب، ومن ثم ما يحصل في الشمال والجنوب السوري على حد سواء أكبر دليل على ذلك.
تحتاج الثورة إلى مجموعة وطنية جديدة قادرة على إنتاج حالة وطنية، تعمل على استقطاب حواضن وحوامل شعبية من مختلف جماعات المجتمع السوري؛ لتشكل تيارًا وطنيًا قويًا، وقبل أن يكون ذلك سنكون أشبه بأمسنا البعيد، بل أسوأ منا حينئذٍ.
[sociallocker] [/sociallocker]