قطار الغربة والمنفى
4 يونيو، 2017
محمد دغيم
عن دار (كتابوك) للنشر الإلكتروني والورقي -فرنسا- صدر الديوان الأول (العشب القريب من الشاهدة) للشاعر نادر القاسم في 15 شباط/ فبراير 2017. وجاء الديوان في 76 صفحة من الحجم المتوسط، وتضمن العديد من القصائد.
وقد نجح الشاعر في ترتيب قصائد الديوان؛ إذ جاء على شكل رحلة في القطار متأثرًا بسكنه في مدينة حلب مقابل محطة القطار، فالقطار صديق الشاعر لا يفارقه ليلًا أو نهارًا.
ومن القصيدة الأولى، يفاجئنا الشاعر بفيض من الإحساس والشعور بالوحدة والموت والغربة. فكما يقول في قصيدته الأولى: “حلب هي الوردة التي ذهبت مع النعش وحيدة”. ثم يركب قطار غربته؛ شأنه شأن كل السوريين الذين ودعوا مدنهم وقراهم، هربًا من الموت ورغبة في الحياة، مخلفين آثارهم وذكرياتهم. ثم يرخي لخياله العنان يتأمل في طريق غربته؛ فأحلامه معجونة بالخسارة، وذكرياته تنبعث منها رائحة الموت والدمار والدم. البقاء في مدينته حلب موت والهجرة موت، فهذا التابوت الذي يضم الموتى كان شجرًا في غابة جميلة، فكيف يتحالف هذا الجمال مع كل بشاعة الموت؟!
يبرز حنين الشاعر إلى حلب بشكل مختلف، فهو يشكر الطيور التي تفقدته في حلب وهي في طريق هجرتها. ولكن ما الذي حصل في حلب؟ كل شيء توقف ووقف الموت شاهرًا سيفه، يمارس مهنته بوسائل متعددة، فتارة يستخدم كاتم الصوت، وتارة أخرى يقذف الحمم. هذه الحرب نار اشتعلت وأحرقت كل من في الوطن. أحلام الناس تتكسر دائمًا فجأة، ومن دون مقدمات. الكل خان حلب وساهم في تدميرها إلى أن يصل إلى نهاية رحلته، ويقرر: إن الغربة موت ولا حل إلا بالعودة إلى الوطن؛ فالقطار الذي كان سبب الداء أراد له أن يكون الدواء.
يلفتك في هذه التجربة أن الشاعر لم يقع في شباك الموقف السياسي -كغيره من الشعراء الذين اختاروا أحد الخندقين المتقابلين، وتمترسوا خلف موقفهم السياسي- بل تجاوزه ونظر إلى هذه الحرب بوصفها مأساة إنسانية وحريقًا يأكل الأخضر واليابس، ومن أشعل هذه النار احترق بها. يقول في قصيدته (رؤية) ص 9:
“رأيتهم ليلًا
يزرعون الحرب
رأيتهم بعدها
يحصدون الشواهد
وبعدها
أيضًا
يموتون”.
ويعزز هذه الفكرة في قصيدته (إشارة) ص39:
“جثث بين الأشجار
أم أشجار بين الجثث
الطبيعة هنا ليست صامتة
صارخة بكل الألوان
كل شجرة
تأخذ هيئة سؤال أخضر
جثة ملقاة
إشارة تعجب ميتة”.
إنه التعجب الممزوج بالمرارة والألم، وكأن كل قتيل في هذه الحرب يصرخ لماذا؟
وتلح عليه هذه الفكرة؛ فيرى الحرب ظالمة، ولن يعتاد عليها أحد، مهما طالت! ففي قصيدته رسائل ص57 يقول:
“الحرب ليست عادلة
لم تكن يومًا أليفة
توزع فداحتها كساعي بريد
أول رسائلها رصاص
أو ربما قذائف
الطوابع الصغيرة صور القتلى
مختومة بشراسة حمراء”.
ونلاحظ أن عين الشاعر عين سينمائية ترى الأشياء، وتحدد إطارها، وترصدها في غفلة منها؛ لتكون طبيعية تشفّ عن المعنى والفكرة، فآثار الأقدام على الثلج ناصعة وشفافة. يقول في قصيدته (أثر):
“ما أجمل آثار أقدامنا
فوق الثلج
السر
هو هذا الأثر الناصع البياض
الذي يتركه
أحدنا
وراءه”.
واستفاد الشاعر من تقنيات السينما وأدواتها؛ فحياتنا مثل شريط سينمائي يبدأ –دائًما- من النهاية؛ الموت، ثم نستعيد قصة حياتنا مقطعة، وهذا ما يسمى بالسينما الخطف خلفًا. ففي قصيدته (سينما) ص 26، يقول:
“نبدأ بالموت
ثم نسرد حياتنا
مقطعة الأوصال كمشاهد رديئة
من نقطة البدء
مثل
فيلم
يخطف خلفًا”.
وربما جاء ببعض الصور من ذكرياته السينمائية، فها هو يشبّه حياتنا بحافلة تسقط من فوق جسر. يقول في قصيدته (سؤال) ص 15:
“لماذا حياتنا تشبه دائمًا حافلة
تسقط
من
فوق
جسر”.
وفي قصيدة “أزرق” تبرز عين الشاعر السينمائية بالألوان، ويقول:
“النور الشاسع قبل الظل
اللون الأزرق لروح لؤي كيالي”.
ونلاحظ هنا كيف استطاعت عين الشاعر التقاط تميز اللون الأزرق، للفنان لؤي كيالي. وبعينه السينمائية ينقل لنا الحركة بكل تفاصيلها، فها هو ينقل لنا صورة مقذوف الرصاص الفارغ، وهو يسقط جانب حذاء القناص. يقول في قصيدته (فراغ) ص 20:
“المقذوف الفارغ
الذي
يتقاذف
قريبًا من حذاء القناص”.
وأعتقد أن الشاعر يلتقط الصورة، ثم يمشي وراءها، ليصل إلى الفكرة. ففي قصيدته (حكمة) ص 27 يتبع صورة خوذة جندي ملقاة على أرض المعركة، ليكتشف أنها جمجمة بلا حكمة:
“الخوذة الملقاة بأرض المعركة
أكثر ما توحي
بأنها جمجمة فارغة من
أي حكمة”.
أعتقد أن الشاعر لم يكن متشائمًا كما يبدو للوهلة الأولى، على الرغم من قساوة المشهد وقتامة الصورة؛ فنراه يحاول أن يرى النور في قلب الظلام، فقد انتصر للحب والحياة، وهزم الموتَ، والخوف في قصيدته (شرارة) ص 8، يقول:
“ينطفئ الضوء
نسرع أنتِ وأنا
نبحث عن شمعة
في الممر
يصدم جسدك جسدي
تطير في الهواء
شرارة الرغبة
أطوقك كأنها أول مرة
تطوقيني
كأنها
آخر
مرة”.
وفِي قصيدته (شغف)، يرسم عالمًا رومانسيًا جميلًا، فرغم القتل والدمار والدم؛ ما زال يقف تحت مطر الصباح، يرسم بخياله صورة الحبيبة. يقول في (رسم) ص 23:
“الشغف هو أن تقف
تحت مطر أول الصباح
وتوهم الآخرين
بأنك تعد نقاطه
بينما أنت
ترسم في الهواء وبالماء
وجهَ
من تحب”.
وها هو يعلنها صريحة أن الحب خالد وأن الحياة أقوى من الموت. يقول في قصيدته (أنفاس) ص 59:
“في غرفتي
رغم أنف الجميع
أنفاسك باقية
مثل الجدار
مثل هذه النافذة
مثل هذه الأزهار
على الكنبة
مثل هذه القصيدة
وهي تخرج الآن
من بين يدي”.
وفي الختام، نقول: إنها تجربة تستحق أن يُسلّط عليها الضوء، في أكثر من جانب.
[sociallocker] [/sociallocker]