مأساة السوريات المعنّفات جنسياً بالوثائق والجماليات
4 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
[ad_1]
لم تطوَ قضية «شيه موريس وسيلفر» التي كانت بمثابة فضيحة كبيرة شهدها لبنان العام الماضي على رغم صدور القرار الاتهامي في 28-11-2016. والسبب ليس فرار المتهمين الرئيسيين في القضية فقط بل الأثر الرهيب الذي تركته أولاً في أجساد – وأرواح – الفتيات السوريات اللواتي وقعن ضحايا شبكة الإتجار بالدعارة وفي الوجدان اللبناني العام الذي لم يستطع تقبل مثل هذه الجريمة الأخلاقية. لكنّ معظم المواطنين الذين تابعوا القضية إعلامياً لم يطلعوا على تفاصيل هذه الجريمة، جسدياً ونفسياً، وعلى آلية التعنيف بل التعذيب الجنسي السادي الرهيب الذي اعتمده هؤلاء المجرمون في حق هؤلاء الفتيات والسيدات السوريات اللواتي اقتدن الى فخ الدعارة من دون علمهن واللواتي أجبرن على ممارستها رغماً عنهن بعدما تم عزلهن وسجنهن.
المخرجة والممثلة وأستاذة مادة المسرح في الجامعة الأميركية سحر عساف هالتها هذه الفضيحة التي سعت الأجهزة الى كتمانها فقررت الخوض فيها توثيقاً ومسرحةً، وإذا بها تنجز عملاً بديعاً ومؤثراً بل أليماً عنوانه «لا طلب لا عرض» قدمته على مسرح الجامعة الأميركية أولاً ثم على مسرح الجامعة اللبنانية الأميركية وستقدمه في جولة مفتوحة على مسارح أخرى. في هذا العرض، نجحت عساف في التوفيق بين البعد التوثيقي والبعد الدرامي وفي دمجهما لتخلص الى عرض ينتمي الى ما يسمى «المسرح الوثائقي» والذي كان أحد مؤسسيه والمنظرين له سياسياً وفنياً، المخرج الألماني بيتر فايس. وكانت مسرحيته الشهيرة «التعليم» (1965) أحد العروض التي رسخت هذا النوع المسرحي الجديد (نسبياً) وقد ارتكز فيها على شهادات محكومين في قضية اوشفيتز لكي يكشف أسرار مخيمات التعذيب النازية انطلاقاً من وثائق حية وشهادات موثقة. ويرى فايس أن المسرح الوثائقي يتبنى وجهة نظر تخالف وجهة نظر الإعلام أو الميديا المعممة ويواجه «خطاب» السلطة (والماس – ميديا من ورائها) التي تتلاعب بالوثائق والمعلومات من أجل إخفاء الحقائق أو تغليفها. يفضح هذا المسرح الأكاذيب الإعلامية والسلطوية ويلقي الضوء على الوقائع والحوادث كاشفاً حقيقتها انطلاقاً من مصادر ومراجع موثوق بها. هذا المسرح تطور بعد بيتر فايس على يد مخرجين جدد وشباب انطلقوا من الفضائح الرهيبة السياسية والاستخباراتية والإنسانية التي عرفها القرنان العشرون والحادي والعشرون.
في عرضها «لا طلب لا عرض» بدت سحر عساف على وعي تام بتقنيات المسرح الوثائقي وأبعادها وأضافت اليها خبرتها في المجال المسرحي الدرامي مما جعل العرض يكتسب خصائص المدرستين، فإذا هو يحمل رسالة تماثل الرسالة التي تبناها فايس وغايتها «التعليم» (ولكن ليس في معناه البريختي) ونشر الوعي لدى المشاهدين، ويتوجه في آن واحد الى جمهور هو جمهور مسرحي، فيؤثر فيه ويدخل في حال من التفاعل الدرامي معه.
أولت عساف الناحية التوثيقية اهتماماً واضحاً ففتشت وبحثت وراجعت الملفات وأجرت مقابلات مع السوريات الناجيات من أسر الدعارة والإتجار بأجسادهن (شبكة شيه موريس وسيلفر) وكانت الى جانبها في التوثيق غادة جبور المسؤولة عن قسم الإتجار بالبشر في منظمة «كفى» المدنية وكذلك الصحافية الاستقصائية ساندي عيسى.
ولم تكتف عساف بمأساة السوريات المعذبات والمعنفات تعنيفاً مزدوجاً، جسدياً وروحياً، بل شاءت أن تبرز وجهات نظر الذكور، شباناً وكباراً، حيال ممارستهم «الدعارة» أو شرائهم أجساد الفتيات. واستندت عساف في هذا السياق الى دراسة أعدتها غادة جبور المنتمية عنوانها «استكشاف الطلب على الدعارة: ما يقوله مشترو الجنس الذكور عن دوافعهم وممارساتهم وتصوراتهم».
لم تلجأ سحر عساف في معالجتها المادة الوثائقية على الخشبة الى أي مؤثرات بصرية مثل السلايدات أو اللقطات المصورة، شاءت المسرح شبه واقعي، وقفت هي الى يمين المسرح مؤدية ما يشبه دور الراوي الواقعي جداً، لتقرأ ما بين يديها من وثائق مهمة لتقديم القضية أو «الفضيحة» المأسوية، والى يسار المسرح توالت على الظهور أربع ممثلات هن: جويس أبو جودة، سيرينا الشامي، نزهة حرب ودانا ميخائيل. جلست الممثلات على كراسيهن وعلى آذانهن سماعات ظاهرة بوضوح (تقنية «اليكي بلايث» أو «التوصيل المسجل») ورحن يؤدين أدوار السوريات المعنفات والمعذبات في «سجن» الدعارة. وعلى رغم أن الممثلات كن يتلقين عبر السماعات الجمل التي جُمعت على ألسنة الفتيات من خلال المقابلات التي أجريت معهن، فإن الممثلات نجحن في سرد حكاياتهن الأليمة والقاسية وبدونَ كأنهن يعشنها في مشهدية مؤثرة. وبدت كل ممثلة تكمل الأخرى في سرد الحكايات المفاجئة التي لم تكن لتخطر في بال أحد. وعلى رغم جلوسهن على الكراسي استطاعت الممثلات، في إدارة المخرجة، أن يوظفن أجسادهن وأصواتهن (اللهجة السورية في معظم الأحيان) ووجوههن للتعبير عن تلك اللحظات القاسية اللواتي عشنها. إنهن يشهدن وينقلن شهاداتهن ويمثلن في آن واحد. ولم تحاول المخرجة ومعدة النص أن تحذف العبارات النافرة، والنافرة جداً في أحيان، والقاسية جنسياً و «القذرة» والزقاقية وهي التي سمعتها أصلاً الفتيات على ألسنة الزبائن و «المديرين» القذرين في تعاملهم معهن ووصفهم الأفعال الجنسية البشعة والبغيضة. هذه العبارات والمفردات السوقية كان لا بد من استعادتها من معجم الدعارة الواقعي كي يحقق العرض غايته ويجسد مأساة هؤلاء المعذبات.
أما المشاهد التي اعتمدت فيها المخرجة تقنية «الفواأوف» أو»الصوت الخارجي» لتطلق عبرها شهادات الذكور أو «مشتري الجنس» أو الزبائن، شباناً ورجالاً، بأصوات مسجلة لبعض الممثلين، فبدت مبتكرة. فكلما أدى صوت شهادة جاء شاب أمام الجمهور بكرسي. وكلما توالت الأصوات والشهادات ازدادت الكراسي على الخشبة حتى باتت الجهة اليمنى كأنها صالة من الكراسي الفارغة (فكرة يونسكوية ناجحة جداً) أو التي يجلس عليها أطياف هؤلاء الزبائن.
كم بدا جميلاً ومؤثراً وغنياً عرض «لا طلب لا عرض» كما أخرجته وأعدت مادته التوثيقية سحر عساف. عرض نجح كثيراً في التوفيق بين البعد الوثائقي المتجلي واقعياً في الشهادات والمعلومات الموثقة، وبين البعد الدرامي والمشهدي الذي رسخته اللعبة المسرحية التي أمسكت المخرجة بخيوطها ببراعة ورهافة.
[/sociallocker]