‘مرة أخرى: السوري بين الهوية والوجود’

4 يونيو، 2017

أحمد برقاوي

ولد السوري مع ولادة الدولة السورية؛ إذًا السوريّ -بوصفه هوية- هويتُه السورية لاحقةٌ لوجوده. كانت سورية فكرةً في وعي نخبة فكرية-سياسية في بلاد الشام، أثناء طرح اللامركزية بوصفها نظامًا ملائمًا للإمبراطورية العثمانية، وكانت سورية تعني -آنذاك- في وعي النخبة: لبنان وشرق الأردن وفلسطين وسورية الراهنة، ومن ثم طُرحت سورية المستقلة في مرحلة لاحقة بالمعنى نفسه.

لم يكن تكوّن دول بلاد الشام وولادة هويتها المرتبطة بالجنسية ثمرةَ المشيئة الحرة لسكانها، المشيئة التي تحدث عنها رينان في وقته، بل فرضت عليهم بفعل مشيئة الآخر.

ولقد صارت مع الأيام هوية موعى بها، إذ اكتسب الأفراد هوية اسم الدولة، وهكذا صارت الهوية السورية موضوعية للسكان، ويتوارثها الأفراد من حاملي الجنسية، هوية توحد التنوع الديني والمذهبي والعرقي، ولم تستطع الأيديولوجيا القومية العربية أو الأيديولوجيا الإسلامية أن تأتي على شعور السوري بهويته الوطنية، لأنها هوية ارتبطت بالحياة العملية، فبطاقات الهوية وجوازات السفر والعلاقات مع الدول الأخرى والفريق الرياضي والنخبة المفكرة والشعراء ووعي الآخر.. إلخ، جعلت من الهوية السورية أسّ الانتماء.

لكن الوجود السوري عاش ثلاثة أشكال من المشكلات في وعي هويته: الأول عدم الاعتراف المستتر أو المُعلن بحدود سوريته، وبالتالي عدم الاعتراف باستقلال لبنان والأردن وفلسطين التي نشأت “إسرائيل” على جزء منها، على الرغم من وجود الاعتراف الشكلي. والثاني ضعف الاعتراف من قبل الأكثرية بسورية السلطة الحاكمة، بوصفها غير شرعية وحاكمة، تأسيسًا على منطق الغلبة الذي استمر عنفًا. والثالث تنامي الوعي الكردي بهويته ووصولها إلى مرحلة الهوية الرأس.

بدأ، مع انطلاق الثورة وسيرورتها، انفجارُ الهويات كلها، بما في ذلك الهويات الأخلاقية، وبدت نقاط ضعف الهوية السورية تظهر للعيان أمام الهويات المذهبية-الطائفية، والهويات الإثنية، بل والهويات المناطقية، وانفجرت كل براكين الهمجية غير المتوقعة، من بركان همجية النظام من قتل السجناء وحرقهم، ومن اغتصاب النساء إلى إلقاء البراميل المتفجرة على السكان، وانتهاءً باستخدام الأسلحة الكيمياوية، إلى همجية (داعش) و(النصرة)، وظلت الأكثرية السورية ذات هوية سورية خلاصية في حدود سورية الراهنة مع نظام سياسي يعبر عنها.

ما يجري الآن على أرض الواقع هو أنّ هناك محاولات، من قِبل النظام، لتحطيم الوجود السوري ذي الهوية السورية، حتى يسهل عليها البقاء كهوية ضيقة، وبالمقابل فإن القوى الأصولية-العنفية تخوض صراعها مع النظام من المنطلق نفسه، وكثير من القوى الفاعلة عربيًا وعالميًا غير مكترثة أبدًا، بتطابق الوجود السوري مع هويته.

خطر هذا التعقيد يزداد بحضور الميليشيات الشيعية الخارجية، الإيرانية والعراقية واللبنانية، كطرف أساسي في الصراع، وهي التي تخوض صراعها المسلح انطلاقًا من هويتها الطائفية الضيقة المتضادة تضادًا مطلقًا، مع الهوية السورية.

إذًا الصراع الداخلي السوري المستمر الآن هو بين الوجود السوري الأكثري الساعي للاحتفاظ بالهوية ذات السلطة الديمقراطية المعبّرة عنها من جهة، ووجود هويات ما دون الهوية السورية كالهويات السلطوية والطائفية والإثنية والدينية-العنفية من جهة ثانية.

دون انطلاق الحركة الوطنية السورية من هذا المنهج في التفكير، لا تستطيع التعامل داخليًا وخارجيًا، ولا تستطيع أن تُنجز مهماتها الوطنية، وبخاصة تحقيق الوجود السوري لهويته السورية، وهذا الأمر يتطلب وعيًا متساميًا عن ردّات الفعل المشابهة للنقيض.

ليس نقيض الهوية الكردية المتعصبة لدى جزء من الحركة السياسية الكردية هوية عربية متعصبة، النقيض هو هوية سورية طبيعية قائمة على فكرة الحق والمساواة في الحق، وليس نقيض الهوية الطائفية الشيعية التعصبية هوية سنية أكثر تعصبًا، بل هوية سورية-وطنية مترفعة عن الانتماء الطائفي.

هذه النظرة الكلية للصراع في سورية ولكفاح الوجود السوري ليحقق ذاته بهوية الدولةِ دولةِ الحق والديمقراطية، تحررنا من النظرة الجزئية التي تُزيّف حقيقة السيرورة التاريخية وغاية السوري الحقيقية، تحررنا من نظرة كتبة من متوسطي العقول لا يَرَوْن الخطر على سورية إلا من هذا الطرف وحده أو ذاك، فالعلماني الزائف لا يرى الخطر المحدق بسورية إلا ذلك الآتي من الحركات الأصولية، والقومي الزائف لا يراه إلا من الإثنية الكردية، والإسلامي الزائف لا يراه إلا من الأقلية العلوية وهكذا.

السؤال الحقيقي للسوري هو: كيف السبيل إلى أن يحقق الوجود السوري الهوية المطابقة لسوريته، في الدولة المطابقة للمجتمع، وكل الأسئلة الأخرى الجزئية التي يفرضها الواقع على الحركة الوطنية السورية يجب أن تنبع من هذا.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]