الجولان والنكبة

5 يونيو، 2017

باسل العودات

بهزيمة حزيران، ضاعت الجولان، أو بالأصح منحَها لـ “إسرائيل” مَن كان يُحضّر نفسه ليحكم سورية بالحديد والنار، جيلًا بعد جيل. منحَها لبناء الثقة، وعربونًا استباقيًا لبقائه في السلطة؛ وخسرت سورية خاصرتها، وهضبتها وحمّتها وحرمونها، وخسرت مجدل شمس وفيق وبقعاثا وجباتا الزيت وكفرحارب وخسفين، كما خسرت أكبر تجمّع مائي في المنطقة العربية.

يتصل موضوع هضبة الجولان السورية المحتلة بالمصالح السورية، عبر ثلاث نقاط رئيسية: الأولى هي أبناء الجولان، سواء أكانوا الصامدين والباقين فيها، أم الذين نزحوا عنها. والثانية هي أرض الجولان، ترابها وماؤها وهواؤها، ومكانتها في الحياة الاقتصادية للشعب السوري. والثالثة هي حق سيادة الدولة السورية عليها، طال الزمان أو قصر.

في ما يخص أبناء الجولان الذين نزحوا عنها، سعى نظام الأسد الأب لتحييدهم عن أي نشاط سياسي أو نضالي أو حتى حقوقي يتعلق ببلورة أُطر لهم، من أجل أن يُمسك هو بالقضية، ويحركها وفق حاجات السلطة وأمنها؛ فبقي الجولانُ دون صوت مستقل من أبنائه، في إطار المصالح الوطنية السورية.

أما الجانب الاقتصادي، فلم يهتم النظام السوري -لكونه نظامًا طفيليًا فاسدًا- بهذه الرقعة الأصيلة من سورية، اقتصاديًا وزراعيًا وسياحيًا، وقصّر إلى حدٍّ بعيد، بل غاب أيّ فعل تنموي من أي نوع، عن تلك المنطقة الاستراتيجية التي تملك من المقومات ما يؤهلها أن تكون رديفًا مهمًا للدولة السورية في هذا المجال.

وفي ما يتعلق بالسيادة الوطنية، لم يكن حافظ الأسد يسعى سياسيًا، من خلال طرحه لقضية الجولان، لإبراز السيادة الوطنية، بل كان يستخدم ادعاءاته بتحرير الجولان أو العمل على استعادته، لتثبيت دعائم سلطته الاستبدادية، ليس إلا.

لم يعمل نظام الأسد الأب وبعده الابن، على وضع قضية الجولان في جدول الأعمال الوطني الحقيقي، فمنذ سقوط الجولان وحتى حرب تشرين، كانت مهمة النظام تأمين حدود “إسرائيل”، ويبدو أن هذه المهمة هي جزء من صفقة بيع الجولان، ولولا استخدام المقاومة الفلسطينية للأراضي الأردنية للعبور إلى الجولان، لما استطاعت إطلاق طلقة واحدة، وجاءت حرب تشرين، تحت ادعاء تحرير الجولان بالقوة، ثم تبيّن أنها حرب لتحريك مسارات التفاوض مع “إسرائيل” التي كانت ترفض فكرة التفاوض على الجبهة الشمالية، وفي هذا السياق يأتي موضوع التسوية، حيث فقد النظام السوري صوابَه من مصر والأردن، لنجاحهما بعقد صفقة مع “إسرائيل”، بينما تُرك هو في فراغ، لكن هذا الغضب لم يمنعه من أن يبقى مُلتزمًا بضبط الحدود؛ فأصبحت جبهة الجولان الأكثر هدوءًا في العالم الذي تنشأ بين دوله صراعات مختلفة الأسباب، كما زاد حقد النظام على ياسر عرفات الذي سعى لحلٍ للقضية الفلسطينية، لأن هذا المسعى أفقد النظامَ السوري حججَه وأوراق لعبه، وبدوره لعب بأوراقه بشكل خاطئ، حين تفاوض مع “إسرائيل” دون أن يضع، على رأس أولوياته، إلغاءَ “إسرائيل” لقرار ضم الجولان السوري.

ادّعى النظام أنه رفض التنازل عن الضفة الشمالية الشرقية من بحيرة طبريا، لكن الحقيقة التي أظهرتها مؤسسات أميركية مطّلعة على التفاصيل هي أن الأسد طلب من كلينتون ضمان وجوده في السلطة، إذا وقع التنازل عما تبقى من أمل باستعادة الجولان، ولم يقدّم له كلينتون مثل هذا الوعد.

هذا كله قبل الثورة، أما بعدها، وخلال خمس سنوات، حصلت مراجعة دقيقة للجبهة الشمالية وأمن “إسرائيل” القومي، لكن القيادات الفكرية والسياسية والأمنية والعسكرية، في مؤتمرات (هيرتسليا) الخمسة 2012 – 2016، وقفت عند خيارين: بقاء النظام، أو سقوطه لمصلحة قوى أصولية، مستبعدة استبعادًا تامًا احتمال نشوء نظام وطني موحد بشريًا وجغرافيًا، وهو ما يمكن أن تُنجزه قوى ديمقراطية مدنية سورية، وإن كان هذا لاستبعاد هذا الاحتمال مسوغاته في تركيب القوى المقاتلة والمعارضة وتفككها، وطغيان القوى السلفية إلى حد بعيد على مجمل الواقع الميداني، غير أن الحقيقة التي يجب الانتباه إليها بشكل جاد، هي أن “إسرائيل” تخشى “الديمقراطية” أكثر من أي شيء آخر، في النظام السياسي الذي يُنشده السوريون.

هناك مبررات لهذه الخشية الإسرائيلية، ولـ “البعبع” الديمقراطي الذي يُؤرّق “إسرائيل”، أهمها أن “إسرائيل” حددت مكانتها في علاقاتها الدولية بناء على ادعاء أنها صورة الغرب في الشرق، وأنها وحدَها تواكب فكرة الديمقراطية في المجتمعات الغربية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هي تقيم لحمتها السكانية اليهودية، ذات الهويات المتعددة، إثنيًا وقوميًا ودينيًا، على فكرة الخطر الدائم، وهناك مقولة قديمة في الفكر الصهيوني تقول: “إن الخطر يأتي من الشمال”. وقيام نظام ديمقراطي في سورية يُخلخل هذين الأساسين، عالميًا، وداخل بنية المجتمع الإسرائيلي.

مما سبق، من الضروري التركيز على أن سورية المنشودة “الديمقراطية” هي القادرة على فرض تغيير في المعادلات المتعلقة بفلسفة الأمن الاستراتيجي لدولة “إسرائيل”، وليس رفع العقيرة بالتهديد بالحرب والقوة، فالزمن العالمي لم يعد يتسع لاتجاهات كهذي، ولا يعني ذلك ألا تولي الدولة الديمقراطية في سورية شأنًا لبناء قوتها، في مختلف الميادين، ومنها ميدان القوة العسكرية، للدفاع عن نفسها ولجم أي فكرة إسرائيلية بتقويض أسس الديمقراطية السورية بالحرب الخاطفة أو بالابتزاز والتهديد.

كدولة ديمقراطية، تستطيع سورية إطلاق الطاقات السياسية والدعائية لأبناء الجولان، لا ليشكلوا جيش تحرير الجولان، وإنما ليكون صوتهم السياسي والإعلامي والحقوقي المحتضَن من أبناء الشعب بتعبيرهم في نظامهم الديمقراطي، وهو ما يجعل الداخل الإسرائيلي ينفَضّ -أولًا بأول- عن مؤسساته السياسية التي تُجمِع على بقاء قانون ضمّ الجولان، ورفض التخلي عنه.

ما سبق لا يعني أن عودة الجولان لسورية سيكون متحققًا على المدى القريب أو المتوسط، ولن تعيده الشعارات الحامية و”الحربجية” التي اعتمدها النظام في الماضي، ومعه الأحزاب القومية والأصولية، وإنما يعني أن الديمقراطية السورية التي تنشدها الثورة لا تنحصر بمردودها على حياة المجتمع وحقوق أبنائه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل تتعداها إلى إنجاز المسألة الوطنية: حماية البلد، واستعادة الأراضي المحتلة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]