الحقيقة الثالثة في “بروميثيوس المقيّد”
5 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
جهاد عبيد
صُلِبَ “بروميثيوس” على الجلمود.
بينما جوقة بنات “أوقيانوس” يغنين تراتيلهن الحزينة، ويندبن مصيره البائس، شرع “إيفايستوس” مرغمًا متألمًا، بتنفيذ أوامر أبيه الطاغوت “زيوس”، كانت مهمته التي يكره، تأديبَ الشقيّ الذي أهدى النار للإنسان.
بين شهادة بنات “أوقيانوس”، وصمتهن على جريمة صلبه، وتنفيذ “إيفايستوس” للحكم الظالم، على الرغم من قناعته المطلقة بجوره وعدم مشروعيته، كان الأصعب على روح “بروميثيوس” المكلومة ونفسه المعذّبة، لا مبالاة البشر الذين أخذوا تعاليمه المبدعة، ووظّفوا هديّته الثمينة في استمرار حياتهم وتطورها وازدهارها، متجاوزين آلامه بلا اعتراض، متعامين عمّا آلت إليه حاله.
سقط “بروميثيوس” في الديجور.
كان الطاغية “زيوس”، قد استغلّ خلاف الجبابرة الأوّلين، بين مؤيّد للإله الحاكم “كرونوس” ومعترض عليه، فخاض معركة السلطة والحكم، وقضى على من اعترضه أو عارضه، واغتصب عرش أبيه “كرونوس”. أصبح “زيوس” صاحب سلطة مطلقة، ترتعد من هول اسمه جميع الآلهة، وأنصافها، وبالتأكيد البشر.
بينما كانت ثاني نواياه -بعد أن خلص الحكم له- إبادة البشر بغية استبدالهم بعرق جديد، الأمر الذي عارضه “بروميثيوس”، حيث آمن أن ثمة مساحات تتسع لجميع المخلوقات، إنه حق الحياة كما يرى.
يروي “إيشيل” الإغريقي، حقائق توارت عميقًا بين سطور قصيدته العظيمة، أو بالأحرى أوردها خلسة، ورماها على عجل، بين ثنايا الأحداث المرعبة، وكمّ التفاصيل الهائلة الغزيرة لمأساة “بروميثيوس” المقيّد. باح بها كأفكار هيفاء رشيقة، لا كأحداث ثقيلة، أو أفعال واضحة جليّة.
الحقيقة الأولى، أن “بروميثيوس” قد أجّل مصيره ذاك فحسب، ذلك عندما هادن طغيان زيوس وماشاه قبلًا، بعد فشله في إقناع المتصارعين الجبابرة، بالإصغاء لنصحه، فوقعوا في المحذور، حيث مزّقتهم الاختلافات والخلافات؛ ضعفوا، وتشتّت قوتهم، فذهبت ريحهم. كان “زيوس” الطَموح، الشغوف بالسلطة، النَهِمُ للحكم والسيطرة، ينتظر اللحظة بصبر الصيّاد. هكذا كان الانقضاض والحسم، ولم يتردد أبدًا.
اتقى “بروميثيوس” الطاغية. خاف من جبروت “زيوس” وبطشه، ارتعب من أن يرمي به في الديجور، كما فعل بجميع الجبابرة القدماء، فآثر الوقوف في صفّه ومحاباته، بعد أن اتضحت له نهاية الصراع ونتائجه.
الحقيقة الثانية، أن غضب “زيوس” الأعظم على “بروميثيوس”، كان في ظاهره، بسبب تقديمه النار هديّة للبشر، لأن “زيوس” بمقدراته اللامحدودة من قوة وحنكة وجبروت وطغيان، كان بإمكانه -قطعًا- استعادة تلك الهبة ومنعها عن البشر، لكن غضبه العميق وحقده الحاد عليه، يكمن في مفصل آخر. يقول “إيشيل” في قصيدته على لسان “بروميثيوس” مجيبًا بنات “إقيانوس” على سؤالهن عن سبب صلبه وتعذيبه بتلك الطريقة الوحشيّة: بأنه أعطى للإنسان الأمل بالحياة المستمرة المتجددة، الأمل، هذا الشعور الذي أدرك الطاغية “زيوس” أنه لا يمكن منعه، أو قمعه أو قتله.
الحقيقة الثالثة، أن الأسطورة على الرغم من بنائها ومحتواها وغاياتها، كونها إرث الخيال، ولا طريقة ممكنة للتوثّق من أحداثها، أو التأكّد من صحتها، إلا أنها تحمل في متنها وطيّاتها حقائق حياتية واقعية غاية في الدقّة، فـ “بروميثيوس” لم يبق حبيس الديجور إلى الأزل، إذ خلّصه “هرقل” العظيم، وأخرجه منه ولو بعد أبد، كما أن “زيوس” الطاغية الحاكم المتجبّر، اندثر وانكسر جبروته وزال إلى الأبد.
[sociallocker] [/sociallocker]