على أبواب خمسين عامًا من الاحتلال


آرام أبو صالح

ها نحن ذا على أبواب خمسين عامًا من الاحتلال. يمكننا أن نطيل الكتابة صفحات على صفحات، لوحات على لوحات، وشعارات على شعارات، تُطوى وتُنشر، وتحفظ وتنسى بعدئذ، ولكن ربما يجدر بنا محاولة تلخيص حالتنا وصيرورتنا الاجتماعيّة والسّياسيّة، ولذلك كتبت بعض النّقاط المترابطة ببعضها البعض، في محاولة تلخيص حالتنا الراهنة:

أوّلًا: نحن موجودون اليوم -مجتمعًا وأفرادًا- في “أزمة هويّة“، وقد تصبح أزمة عميقة جدًا، إن لم ننجح في التعامل معها وتخطيها. أزمتان مفصليتان مرّ بهما الجولان السّوري المحتل: الأولى، عام 1981، وقد مرّ بها الجولان بنجاح، وفي أثنائها كان الإضراب الكبير والرّفض لقرار الضّمّ. الثانية، نمر بها الآن -منذ اندلاع الثورة السّوريّة، في آذار/ مارس 2011- وما زلنا، ومَن يعلم ربّما نمرّ بها بنجاح كسابقتها، وربّما نمرّ بتدهور وهبوط وفشل.

لقد ضاعت “هويّتا” التي كانت واضحة، بين ثالوث قوّات: الموالاة للنظام في الوطن الأم سورية، والمعارضة وقواتها، والكيان الصهيوني “إسرائيل”. وكل التعقيدات والقوّات العالميّة التي شاركت وتشارك في هذه “اللعبة” الثّلاثيّة. واضحٌ وبديهيّ أن “إسرائيل” قد استغلت هذا الضياع وهذه الأزمة في الجولان، لتسيير وتصيير سياساتها وتقوية وجودها في الجولان كبديل “صاحب صدقيّة” لأنشطةٍ سوريّةٍ عدّة، اختفت عن السّاحة منذ عام 2011، منها مخيّم الشّام، والسّفر إلى الشّام للتعليم الجامعي، واحتفالات عيد الجلاء، وما إلى ذلك من أنشطة تدور حول الهويّة السّورية لأهل الجولان.

تكمن أهميّة هذه الأنشطة -وإن بدت بسيطة وعفويّة- بصبغ الساحة العامّة والحيّز العام الجولاني بالألوان السّورية، فعندما يتربّى طفل في قرانا، ويرى في كل سنة احتفالات عيد الجلاء “المكتظة” بالناس، ستصبح الهويّة السّوريّة أمرًا بديهيًّا وطبيعيًّا جدًا له. هذه الأنشطة (ما يزال بعضها يقام، ولكن مع زوال الاكتظاظ الذي كان في الماضي، بسبب الانشقاق المجتمعيّ بين مؤيد ومعارض للنظام وبسبب الشّلل في النّشاط السّياسي) ترسّخ الهويّةَ السوريّة في اللاوعي الجولاني، وتخلق انتماءً وتمسّكًا معيّنًا، محليًا جولانيًا أو سوريًا، وحتى عربيًّا، على خلاف الأطر الإسرائيلية التي تغلغلت -وما زالت تتغلغل- في مجتمعنا مرتويةً من أزمتنا.

 هذه الأطر تحاول -أو ستحاول- طرح الهويّة “الدرزيّة” (الموالية لإسرائيل) بديلًا (ذا صدقيّة) للهويّة السّورية فوق الطائفيّة، أو حتّى للهويّة السّورية الدرزيّة عند كثيرين من أهلنا. وهنا، يمكن طرح الكثير من العوامل والمؤثرات الإضافيّة التي تتسبب بنجاح أو فشل تغلغل هذه الهويّة المصطنعة “المسيّسة” لشبابنا وشابّاتنا، منها ما قد كتب حوله في السّابق.

علينا جميعًا، كي نتخطّى هذه الأزمة، أن نتشبّث أكثر من أي وقت مضى، وطبعًا قدر الإمكان، نحن وأطفالنا بالهويّة السّورية، وهنا يجدر الذكر بأن الهويّة السّورية لا تعني بالضرورة الانتماء إلى منظومة سياسيّة أو نظام حكم سياسي أو إلى دولة ما، بل تعني الهويّة السّوريّة الثقافيّة، كالتراث الشعبي والقصص الشعبيّة والأغاني والموسيقى الشّعبيّة والفن السّوري وغيره. فهذا هو نوع من أنواع النّضال الشّعبي؛ إذ ليس النضّال بالحجارة والاشتباك فحسب، بل هو -أيضًا- وأولًا نضال ثقافيّ.

يجب علينا أن نتذكّر -خاصة في الآونة الأخيرة- أنّ لدينا الفاعليّات والأطر الجديدة، كالجوقات والفرق الموسيقيّة والندوات والمسرحيّات المتجددة والأنشطة المختلفة، فلكل من يطلب البدائل للأطر الإسرائيليّة، نقول: لدينا أطرنا، ولدينا المقدرة والطاقات الملائمة لإنشاء مزيد من الأطر الجولانيّة المستقلة، لأولادنا ولكبارنا.

ثانيًا: في ما يتعلّق بالهويّة الدّرزيّة: قد يظن البعض أنّها تملي علينا ترك هويّتنا السّوريّة، وطرح الهويّة الطّائفية بديلًا لها، وهذا بالضّبط ما تنوي أو تريد “إسرائيل” تطبيقه، ولكنّني -على الصّعيد الشّخصيّ- أظنّ أن هويّتنا وخصوصيّتنا الدرزيّة، وطبعًا تراثنا الدّرزي، يمليان علينا أن نكون سوريين فخورين، على خُطى سلطان باشا الأطرش وثوار سوريّة وأحرارها من الدّروز. إن امتدادنا التاريخيّ “الدّرزي” في المنطقة يعلّمنا عن التواصل الطبيعي والمطلوب بين الهويّة الدرزيّة لسكان المنطقة وبين تلك السّوريّة. لطالما ارتوت الهويّة الدرزية من الهويّة السّوريّة الوطنيّة، والعكس صحيح.

ثالثًا: الخطاب وأهميّته. أرى أهميّة كبيرة في التركيز على نوعيّة الخطاب الاجتماعي والإنتمائي، إن صحّ القول، على المواقع الاجتماعية وفي النقاشات في المنتديات والبيوت والمدارس. لا يمكننا أن ننهض من أزمتنا، طالما اصطلحنا واستعملنا خطاب “جلد الذّات” العربيّ، فكيف ننهض ونحن نتكلّم يوميًا عن كوننا “عرب جرب”، وعن أمّة فاشلة ومتخلفة ننتمي إليها.

لدينا، وبشكل خاصّ في الجولان السّوري المحتل، الكثير من الإنجازات على كل المستويات التي يمكن أن نفتخر بها ونتعلّم منها ونقدّمها؛ ونتقدّم بالتّالي على أثرها. الانتقاد الدّاخلي والذّاتي مهم جدًا، ولكن أيضًا الخطاب الفخور والمشجّع هو من مقوّمات النهضة والتقدّم المجتمعي. علينا أن نجد نوعًا من التّوازن بين النّقد الذاتي الدّاخلي وبين الخطاب المشجّع والنّاهض والفخور.

رابعًا: تجارب سابقة وحاليّة لشعوب أُخرى. بالوعي الشخصيّ والفردي، نرى أن خمسين عامًا من الاحتلال هو عدد كبير، إنه عمر بأكمله؛ ما قد يحبط البعض، ولكن بالتجربة الشعبيّة والجماعيّة، نجد أنه عدد صغير، فإن الإيرلنديين، على سبيل المثال، ناضلوا ما يقارب 700 سنة، ضد الاحتلال البريطاني حتّى تحرّروا واستقلّوا. في علم الاجتماع، كثير من النظريّات تنصّ على أن كلّ احتلال إلى زوال، عاجلًا أو آجلًا، فأرضنا سوريّة، شئنا أم أبينا، وستبقى كذلك، وهذه حقيقة تاريخيّة ودوليّة وقانونيّة، لا نقاش فيها ولا جدال. ومجدّدًا، السؤال المركزيّ هنا ليس “لمن تنتمي الأرض” أو تحت أي سلطة نريدها أن تكون، بل “مَن نحن” سكّان هذه الأرض.

يمكننا، بكل صدق، أن نعيش ونموت سوريي الهويّة تحت الحكم الإسرائيلي. يجب علينا ألا نتردد في أن ننسب نفسنا إلى الشعب السّوري، فهذا امتدادنا القوميّ التاريخيّ الطبيعيّ الذي قطع جزئيَّا مع احتلال “إسرائيل” لأرضنا، ولا يعني أننا نريد الأرض أن تكون تحت حكم هذا أو ذاك، فهذا الانتماء هو أساسًا تعريف شخصي فردي، ومن ثمّ مجتمعي، وليس عليه بالضرورة أن يكون سياسيًّا أو مرتبطًا بنظام حكم معيّن.

خامسًا وختامًا: أدعو كل الجولانيين إلى التّحدّث عن الاحتلال في الـ 67، عن حرب تشرين في الـ 73، عن الإضراب الكبير وعن النّضال الكبير الذي كان وما يزال، بمختلف الأشكال. في ذكرى الخمسين عامًا، علينا أن نطرح تراثنا وذاكرتنا الجماعيّة على بعضنا البعض، وأن نناقشها كي نحسّنها، ونبحث عن المغزى منها. علينا ألا ننسى تاريخنا وامتدادنا وأن نكون فخورين، بالنجاحات العديدة، وأيضًا أن نتعلم من الفشل والأخطاء التي لا بدّ من وجودها. النّقاش والتّعليم والثّقافة والكتب والنّدوات والموسيقى والفنّ كلّها أشكال مقاومة ونضال، فلسنا مهزومين -ولن نكون- ما دامت فينا حركة ثقافيّة وحياة.




المصدر