بعض أسباب الهزيمة

5 حزيران (يونيو - جوان)، 2017

14 minutes

مروان حبش

ورد في العدد 18 لعام 1998 من مجلة (دير شبيغل) الألمانية: “بعد النصر الإسرائيلي السريع جدًا عام 1967 الذي لا نريد مناقشة أسبابه ولا التعرض للمؤامرات السوفييتية والأميركية معًا لخديعة السوريين والرئيس عبد الناصر والمساعدات الأوروبية التي رتبت هذه الحرب؛ لتحصل هذه النتائج المحبطة للعرب، وظن الإسرائيليون أنهم انتصروا نتيجة حربهم الخاطفة”.

كشفت هزيمة حزيران/ يونيو عن عجز وتخلف القيادات العسكرية العربية، وخاصة في دول المواجهة العربية، وعن عدم قدرة القيادات السياسية في الوقت ذاته على إدراك حقيقة عدم صلاحية وكفاءة قياداتها العسكرية أو عدم قدرتها على تدارك وضع القيادات المذكورة في الوقت المناسب.

لقد كانت نتيجة حرب حزيران/ يونيو مؤلمةً جدًا، والجيوش العربية التي واجهت العدوان الصهيوني، قاتلت في بعض المواقع ببسالة وأداء رائعين، ولكن أداء الجيوش بشكل عام، لم يكن بمستوى الطموحات والآمال التي كان الشعب العربي يريدها من جيوشه. ولا بدّ من القول إن تدمير سلاح الطيران، في كل من المتحدة وسورية، ضمن النصر للعدو إلى حد بعيد.

إن حرب الأيام الستة، هي حرب الطيران الإسرائيلي، فلقد توصل هذا الطيران إلى شل الطيران العربي بتخريب منشآته ومدارج مطاراته، وبتدمير القسم الأكبر من مطارداته وقاذفاته وشاحناته؛ ما أتاح التقدم المنظم لقوات العدو البرية وترجم إلى الواقع مذهب الحرب المنقولة إلى أرض الخصم. وكان النجاح الذي حققه هذا الطيران منذ الـ 80 دقيقة الأولى، من القوة حيث إنه قرر مصير المعركة التي لم تكد أن تبدأ.

إن ما يضعف من كفاءة الجيوش العربية، هو أنها لا تربط مهماتها بنظرية أمن قومي راسخة في المستوى الوطني.

إضافة إلى ذلك، يمكن تكثيف بعض أسباب هزيمة حزيران/ يونيو، في:

1 – عدم تمكن القيادة الموحدة من التنسيق بين الجبهتين المصرية والسورية، إضافة إلى العبء الذي كونته الجبهة الأردنية على رئيس أركان الجبهتين؛ وهذا ما سمح للعدو بأن يستفرد بكل جبهة على حدة ويحقق تفوقًا مطلقًا بغياب الغطاء الجوي العربي.

2 – عدم قدرة القيادات العسكرية في البلدين على استخدام قواتهما ووسائلهما العسكرية، لا في خطط هجومية شاملة أو محدودة بسبب التراجع عنها وعدم البدء بإطلاق النار، ولا في خطط الدفاع التي كان للتفوق الجوي “الإسرائيلي” دور كبير في تدمير القوات المدافعة.

3 – عدم التكافؤ في نوعية الأسلحة وتنظيم القوات وهيكلتها، وفقدان القيادات العسكرية لحرفتها؛ الأمر الذي حقق للعدو تفوقًا، خاصة بعد تدمير المطارات وأسلحة الجو في المتحدة وسورية، وانهيار معنويات القيادات العسكرية التي أمرت قواتها بالانسحاب غير المنظم، على الرغم من أن بعض القطع كانت ما تزال سالمة.

تقويم نتائج الحرب على الجبهة السورية

عقدت قيادة الحزب، في منتصف حزيران/ يونيو، اجتماعًا في مبنى القصر الجمهوري، وبعد تقويم أولي لما آلت إليه نتيجة الحرب، طُرحت وجهات نظر متعددة، ومنها وجهة نظر الدكتور نور الدين، وشاركه فيها بعض أعضاء القيادة، بضرورة الدعوة إلى مؤتمر وطني عام لجميع القوى والشخصيات السياسية للتداول في أسس المواجهة وتحرير الأرض، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وبعد نقاشات طويلة وعاصفة جدًا، حتى وصل الأمر إلى حد التلاسن بين بعض أعضاء القيادة وخاصة مع وزير الدفاع ورئيس الأركان، أقرت القيادة أن الحزب يجب أن يتحمل الهزيمة، وأن يتحمل مسؤولياته في إزالة آثار العدوان.

في منتصف شهر تموز/ يوليو، قدمت  قيادة الجيش إلى قيادة الحزب تقريرًا تقويميًا للحرب، وقد بيّن التقرير سير المعارك والأخطاء والخسائر البشرية والمادية، وبعد مناقشة مطولة للتقرير، اتخذت القيادة عددًا من القرارات، انطلاقًا من أن استراتيجية الوضع الراهن انتقلت إلى العدو المحتل، إذ عدّ العدو خطوط وقف إطلاق النار الجديدة خطوطًا جغرافية تحقق له العمق الاستراتيجي الدفاعي الذي كان يطمع به، وتجعله في غير عجلة من أمره إلى حين أن تقبل الدول العربية السلام “الإسرائيلي” الذي يوفر له وضعًا مهيمنًا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا ويضمن دفن القضية الفلسطينية، لذا فإن الاستراتيجية الجديدة هي استراتيجية هجومية، وهي الخيار الوحيد المطروح أمام القيادة السياسية والعسكرية.

وتقرر أن تركز التوجهات السياسية والعسكرية للمرحلة الجديدة على:

– ضرورة الصمود العسكري بسرعة في مواجهة العدو.

– العمل بسرعة على إعادة التماسك في القوات المسلحة والتركيز على الحرفية العسكرية، وخاصة للضباط والقادة العسكريين.

– الحصول على السلاح الحديث والمتطور من الاتحاد السوفييتي والدول الصديقة.

– رفض الاستسلام للهزيمة، والإعداد لمعركة تحرير الأرض بالقوة.

ومن هذه المنطلقات اتخذت القرارات، وأهمها:

1 – القيام بعملية شاملة متكاملة لإعادة بناء القوات المسلحة قيادات وتسليحًا وتنظيمًا وتدريبًا، ووفق قرارات القيادة بعد حركة 23 شباط/ فبراير 1966، على أن يصل عددها إلى نصف مليون مقاتل، بأقل عدد من الإداريين، أي “ذيل إداري قصير” حسب التعبير العسكري.

2 – بناء سلاح جوي كفؤ بطائراته وطياريه، يكون عدد طائراته بين 450 و500 طائرة.

3 – تمديد فترة الخدمة الإلزامية، لتوفير عناصر كفؤة ومدربة، وخاصة في سلاحي الدبابات والمدفعية.

4 – عدم السماح للمحتل بالبدء بالاستيطان، من خلال عمليات فدائية أو عمليات تعرضية من الجيش النظامي.

5 – تنشيط ودعم العمل الفدائي على جبهات المواجهة.

6 – محاسبة المتخاذلين في المعارك، وتقديمهم إلى محكمة ميدانية خاصة.

7 – توفير المواد الاستراتيجية، قبل بدء عمليات إزالة آثار العدوان.

8 – إعداد خطة استراتيجية للهجوم الذي سيحرر الأرض المحتلة بالقوة العسكرية بالتحالف والتعاون والتنسيق مع المتحدة، حيث يبدأ تنفيذها بشكل متزامن على الجبهتين.

واستمرارًا في مناقشة التقرير العسكري طُرح في جلسة خاصة موضوع تغيير قيادة الجيش، واشترك كل أعضاء قيادة الحزب في مناقشة هذا الاقتراح، وتبلورت المناقشة في ثلاثة اتجاهات، وكل اتجاه يمثله عدد من الأعضاء.

اتجاه عبر عنه الأمين العام المساعد صلاح جديد ومفاده: أن الضرورة والقاعدة تقتضيان تغيير قيادة الجيش، إنْ هي هُزمت، أو هي انتصرت في الحرب، فإنْ هي هُزمت فستفقد ثقة الجيش بها، لأن العسكري يخشى القتال بإمرة قائد مهزوم، وإنْ هي انتصرت فستطغى على القيادة السياسية في بلدها، وتصبح مركز قوة، وضرب جوكوف كمثل على ذلك الطغيان.

أما الاتجاه الثاني، فكان يرى أن قيادة الجيش غير كفؤة، وبالتالي يجب تبديلها. بينما الاتجاه الثالث -وكان عبد الكريم الجندي من أبرز رموزه- دافع عن ضرورة بقاء قيادة الجيش، مُنطلقًا من أنه لا يجوز أن يتحمل رفيقانا وحدهما نتائج الهزيمة.

ولما طُرح اقتراح التغيير على التصويت، حُسم بأكثرية صوت واحد لصالح بقاء قيادة الجيش.

وتم تقويم نتيجة الحرب وسير المعارك من قبل القيادات العسكرية المتخصصة؛ وحددت المسؤوليات، أحيل المتخاذلون إلى القضاء، وبسبب الصراع الذي بدأ يتضح في قيادة الحزب، لم تجر محاكمة هؤلاء لينالوا عقابهم، بل أن بعضهم لقي الحماية وأصبح من المقربين.

تابعت قيادة الحزب جلساتها لمناقشة العوامل والأسس لإعداد القطر لمعركة إزالة آثار العدوان وتوفير الموارد المادية والبشرية لذلك، وقررت:

– اشتراك المواطنين في إدارة شؤونهم، من خلال مجالس محلية منتخبة على مستوى المحافظات، ومجلس شعب على مستوى القطر.

– الاستمرار في خطط التنمية، وإنجاز الخطة الخمسية الثانية في وقتها المحدد، وإعداد خطة خمسية جديدة وطموحة تلحظ تهيئة البنية التحتية لإنشاء صناعة ثقيلة.

– إنشاء وزارة للقرى الأمامية “المدن والقرى التي أصبحت ضمن الجبهة العسكرية الجديدة في محافظات القنيطرة ودمشق ودرعا والسويداء”، مهمتها تطوير هذه القرى اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وحضاريًا، وتوفير موارد حياتية لسكانها، وتحصينها وبناء قرى جديدة في النقاط الحاكمة.

– تدريب قيادات وأعضاء التنظيم الحزبي عسكريًا، وإشراكهم في أعمال خلف خطوط العدو.

– إقامة قيادات وأعضاء التنظيم الحزبي، لفترة قصيرة، مع السكان في الخط الأمامي لنشر الوعي بينهم ومساعدتهم في أعمالهم.

– تأسيس لجان الدفاع عن الوطن في محافظات القطر.

وقررت، على المستوى العربي، استمرار العمل مع الأنظمة والقوى التقدمية العربية. ورأت القيادة، أن الحاجة، في أعقاب نكسة حزيران/ يونيو، أصبحت أكثر إلحاحًا، إلى اتخاذ خطوات وحدوية مع الأنظمة العربية التقدمية، وفي مقدمتها الـ ج.ع. م. واستنادًا إلى هذا التوجه سافر، يوم الجمعة 14 تموز/ يوليو 1967 إلى القاهرة، وفدٌ برئاسة الأمين العام رئيس الدولة د. نور الدين الأتاسي وعضوية الأمين العام المساعد اللواء صلاح جديد، ورئيس الوزراء يوسف زعين، ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس، وحمل الوفد معه أكثر من صيغة لمشروع وحدوي طُرحت على الرئيس عبد الناصر الذي كانت وجهة نظره أن الوقت الآن لا يسمح بمناقشة مثل هذه المشروعات، وشاطره الرأيَ الرئيس هواري بو مدين الذي كان في القاهرة هو والرئيس العراقي عبد الرحمن عارف والرئيس السوداني إسماعيل الأزهري.

توصل وفدا المتحدة وسورية إلى ضرورة استمرار التنسيق بين الحزبين والحكومتين، كمنطلق للوصول إلى خطوات وحدوية متقدمة (ومن الضرورة أن أوضح بأن هذا الجهد قد تكلل بالنجاح في 25 حزيران/ يونيو 1970 وتقرر إعادة الوحدة بين البلدين)، كما أكد الوفدان على الثقة المطلقة في أن إمكانات وقدرات الشعب العربي كفيلة بأن يحيل الهزيمة إلى منطلق جديد لتحقيق الأهداف القومية للأمة العربية.

كانت القيادتان السياسية والعسكرية في المتحدة تصران على سورية بضرورة قيام جبهة شرقية تضم  “سورية والأردن والعراق” ولما كانت وجهة نظر القيادة السياسية السورية تؤكد على أنه لا يمكن التعاون مع ملك الأردن المتعاون مع “إسرائيل وأميركا” في الوقت الذي نحن فيه نحاربهما، وأن بالإمكان أن تُكَوّن العراق والأردن الجبهة الأردنية، وتُكَوّن سورية مع القوات العربية التي ترفدها، الجبهة السورية، وأخيرًا تم التغلب على المشكلة بأن تَتَكَوّن الجبهة الشرقية، وأن يكون قائدها أحد ضباط الجيش العراقي، ومقرها في مدينة السويداء في سورية.

لقد كانت القيادة السورية متفقة مع سياسة الرئيس عبد الناصر تجاه “إسرائيل” وقد حددها في خطاب استقالته: (إن تصفية الإمبريالية الغربية ستدع “إسرائيل” معزولة حيال البلدان العربية، ومهما تكن الظروف والزمن اللازم فإن قوة البلدان العربية ستنتهي بالتفوق على قوة “إسرائيل”).

من هذا المنطلق اتفقت استراتيجية البلدين على:

– تحرير الأرض التي تحتلها “إسرائيل” بالقوة العسكرية.

– إعادة بناء الجيش.

– تدريب الجيش على قتال فعال.

وكان الرئيس ناصر يطمح إلى بناء جيش يصل تعداده إلى مليون مقاتل.

في النصف الثاني من حزيران/ يونيو، زار رئيس هيئة مجلس السوفييت الأعلى بود غورني، يرافقه وفد عسكري على مستوى رفيع، كلًا من العربية المتحدة وسورية، للإطلاع على حاجات البلدين العسكرية، وبعد عودته إلى موسكو، قررت قيادة الاتحاد السوفييتي تعويض كل من المتحدة وسورية عن كل خسائر الأسلحة، وتمّ، أيضًا، إبرام عقود جديدة لتزويد الجيشين بالأسلحة والخبراء، وفق خطط كل من القيادتين.

لقد وُضعت الخطط العسكرية في العربية المتحدة وسورية على توقع بداية معركة التحرير على جبهتي سيناء والجولان، في آذار/ مارس 1971، ووفق هذه الخطط تصل القوات العربية إلى خطوط ما قبل 5 حزيران/ يونيو، وتكون هذه المعركة قد انتهت لصالح العرب، ولقد كان ميزان القوى العسكرية الذي سيتم الوصول إليه “كمًا ونوعًا ” يسمح موضوعيًا بنجاح هذه الخطط.

وكان من المفروض صهر فروع القوات المسلحة في بوتقة واحدة، واختبار فاعلية الأسلحة، ونجاعة التدريب من خلال عمليات تعرضية في سورية تأخرت كثيرًا، ولأسباب عديدة، كان أهمها عملية شغاف السنديان، في الثلث الأخير من حزيران/ يونيو 1970، وحرب الاستنزاف في المتحدة في عامي 1969 و1970 والتي دامت 17 شهرًا.

وأخيرًا لابد من القول إنه على الرغم من الهزيمة التي لحقت بسورية والمتحدة، بقيت “إسرائيل” بعيدة المنال عن تحقيق أي هدف من أهدافها السياسية، وجاءت استراتيجية المتحدة وسورية بإزالة آثار العدوان خلال أقصر مدة ممكنة، مضافًا إليها لاءات مؤتمر قمة الخرطوم، في أيلول/ سبتمبر 1967، الذي شاركت فيه سورية على مستوى وزير الخارجية، (لا للتفاوض، لا للصلح، لا للاعتراف)، برهانًا أكيدًا على ذلك الحدود السورية.

في هذه الأجواء المشحونة بنذر الحرب، جاءت أخبار الحشود “الإسرائيلية”، ولقد جرى جدل طويل، قبل وبعد، عدوان حزيران/ يونيو، كما كثرت الأقاويل حول صحة المعلومات الخاصة بهذه الحشود التي شكلت الشرارة الأولى لأزمة أيار/ مايو، واتخذت “إسرائيل” من تداعياتها ذريعة.

(*) خاتمة دراسة مطوّلة للكاتب حول حرب حزيران/ يونيو.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]