ما زلنا نعيش هزيمة حزيران


عقاب يحيى

كُتِب الكثير عن حرب حزيران، وقيلت أطنان من الكلمات والخطب والحوارات، وما زالت مجالًا للبحث والتحليل والاختلاف، وما زالت مفاعيلها قوية في الواقع العربي، وما يُرسم للمنطقة.

بداية، يجب الكلام عن مشروع عربي، نهضوي، حالم وطموح قد دُفن، ونُحر مع نتائج تلك الحرب، وما أعقبها من أحداث.

الأمة العربية التي تعيش، منذ قرون، في موقع المنفعل، وردّة الفعل دون أن يكون لها مشروعها الخاص، وتعرّضت لفعل تقسيم قسري من قبل دول استعمارية، واغتصب القلب منها: فلسطين، حاولت منذ أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن تلملم أشلاءها، وتواجه واقع التخلف والتجزئة بمشروع نهضوي وحدوي، عرف كثيرًا من الإرهاصات والتقطعات، وافتقر -في الغالب- إلى عوامل النجاح، والحرية العامة والفردية، وكان عرضةً لثقل فعل خارجي عنيف، ومُجهضٍ أحيانًا، وكانت “إسرائيل” رأس الحربة، وقاعدة استنزاف الاقتصاديات العربية من خلال بناء جيوش؛ تلتهم جزءًا كبيرًا من الناتج القومي، وتتضخّم فتتدخل بالسياسة عبر سلسلة انقلابات متعددة الخلفيات، وغالبًا ما قطعت طريق التطور الطبيعي للحراك الاجتماعي والسياسي، وفرضت نمطية من الشمولية، والأحادية، وكان قيام الوحدة بين مصر وسورية وسقوطها تعبيرًا صارخًا عن البنى الحاكمة وطبيعتها من جهة، وعن أثر التدخلات الخارجية الراكبة عليها، والمتسللة منها من جهة ثانية.

إن “ولادة” الناصرية، من عمق انقلاب عسكري للضباط الأحرار، كانت انعطافًا في مسار حركات التحرر الوطني والقومي، وتكريس خط محاربة الاستعمار وتركته الثقيلة، متلاقيةً بذلك مع مجموعة الأحزاب القومية، وعلى رأسها “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي وصل إلى الحكم في سورية، بانقلاب عسكري 8 آذار/ مارس 1963، وبتناغم، وتنافس الاتجاهين.

وكانت فلسفة الاتحاد السوفييتي، في الشمولية والأحادية، قويةً ومؤثرةً؛ فاستندت إليها تلك النظم تبريرًا لنهجها، وتسويقًا للتفرد بالحكم، وإيقاف الحريات العامة والخاصة، والاستعاضة عنها بقرارات فوقية، وبشخصية الزعيم الشعبي عبد الناصر، وبمحاولات تعليب المجتمع في تنظيمات شعبية منخورة الفاعلية، محرومة من المبادهة، بينما يرتكز الحكم على الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية؛ وجاءت الهزيمة الساحقة وكأنها نتاج تلك البنية الأحادية؛ فبرزت الأخطاء الجسيمة إلى درجة تلاقيها مع الخيانة الوطنية وفتح الشهية لتأويلات، تصبّ في نهج التفسير البوليسي للتاريخ.

ما لا شكّ فيه أن “إسرائيل” كانت تخطط من سنوات، قبل حزيران/ يونيو، لتلك الحرب، وأن مخطط العدوان، في الخامس من حزيران، كان موجودًا، والهدف الرئيس منه: كسر وهزيمة الخط الوطني في مصر وسورية، بل احتلال كامل فلسطين، ومعها أجزاء من مصر وسورية، ومن خلال ذلك تقويض المشروع الوحدوي، النهضوي، وإجباره على التراجع، أو التلاشي، وفتح المجال للقوى الوسطية النامية في أحشاء النظامين كي تصبح في موقع القرار، والفعل.

أخطاء كثيرة، كبيرة حصلت على الجبهتين المصرية والسورية ترقى فعلًا إلى مستوى، يسمح بإطلاق توصيف الخيانة الوطنية، سواء في تعامل قيادة الجيش المصري مع الأحداث، بدءًا من نشر القوات في سيناء نشرًا استعراضيًا، وقصف جميع المطارات وعديد الطائرات المصرية لتخرج مصر فعليًا من المعركة خلال ست ساعات، أو عبر الذي حدث على الجبهة السورية الحصينة التي اختُرقت في واحدة من أهم عقدها: القطاع الشمالي بأعداد قليلة من الدبابات ودون مقاومة تذكر، أو بالبيان 66 الذي أعلن سقوط مدينة القنيطرة قبل سقوطها، أو قرار الانسحاب الكيفي، وقرار إيقاف الهجوم المعاكس، ليلة 9 حزيران/ يونيو، بقرار من وزير الدفاع، قائد سلاح الطيران، آنذاك، اللواء حافظ الأسد.

أخطاء الحرب في يومياتها كثيرة، وهناك اتهامات طالما جرى تكرارها عن خيانة وزير الدفاع، وتسليم القنيطرة، وهي مسائل قابلة للنقاش، وليست مؤكدة، وإن كانت الأمور بنتائجها، بغض النظر عن وجود خيانة، أو عمالة.. أو تواطؤ.

لقد أظهرت الهزيمة الدامية عورات بنية العقل العربي، وطبيعة القيادات المسؤولة من حيث جهلها بميزان القوى الفعلي، وما تمتلكه “إسرائيل” من ترسانة متفوقة، وطبيعة علاقتها العضوية بالولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من أطنان الشعارات والخطابات التي تتحدث عن ذلك، وأبرزت فجوات الأحادية وسلبياتها، وجهل الزعيم عبد الناصر بما يجري في الجيش حقيقة وقد سلّمه -عهدةً- للمشير عبد الحكيم عامر.

وفي حين حاول عبد الناصر إجراء تغييرات كبيرة في قيادات الجيش المصري وبنيته، وإعداده لحرب استنزاف مهمة تكون مقدمة لحرب تحرير سيناء، فشلت القيادة السورية في تغيير القيادة العسكرية ضمن ملابسات أثارت اللغط، والأسئلة التي ما زالت مطروحة، وما زالت الإجابة عنها حمّالة أوجه؛ فعششت الهزيمة في الحكم، ثم أفصحت عن نفسها بانقلاب الأسد “التصحيحي” وبدء مسيرة تحصد سورية اليوم نتائجها.

لقد أسقطت الوفاة الفجائية لعبد الناصر ذلك الخط الوطني، ومعه المشروع الوحدوي، النهضوي بالكامل، وبدء مسيرة ما يعرف بالارتداد والتجويف والنحر.. وتمّ ذلك من خلال قوى قائدة موجودة في النظام ذاته، وقد اكتملت الحلقة بانقلاب الأسد لتأخذ الهزيمة أبعادها، وتفعل فعلها في عموم الواقع العربي حتى يومنا هذا.

لنقل إن الخط الوحدوي سقط، مع الهزيمة، من جدول الأعمال؛ وابتعد حلم الوحدة حدّ الغياب والتلاشي، وبرزت الدولة القُطرية وإشكالاتها المهددة بالتفتيت والتقسيم والحروب الأهلية، وحصل الارتداد على نهج الصراع العربي-الصهيوني بالاعتراف بـ “إسرائيل”، وبقطرية الصراع بديلًا لموقع فلسطين كقضية مركزية، أو قضية العرب الأولى، فالصلح ومعاهداته، وترسيخ نظم الاستبداد والفردية المافيوزية، النهاية، المغيبة للشعب، والمتصالحة مع العدو التاريخي.

الأهم من ذلك كله، أن الأمة العربية لم تعد تحمل أي مشروع خاص بها، بينما جميع الدول المحيطة لها مشروعاتها الاستراتيجية التي تحاول أن تعبر بها إلى الوطن العربي، وعلى حساب مصالح الأمة، وشعوبها.

بسقوط مشروع عام يصبح الوطن العربي قاعًا صفصفًا، ومنطقة نفوذ لكثير الدول الإقليمية والخارجية، وقد باتت “إسرائيل” القوى العظمى.

ومع احتلال العراق، وتدمير الدولة العراقية: جدار الاستناد.. يخترق المشروع الإيراني صميم المجتمعات العربية مفرّخًا فيها صراعات عمودية خطيرة تشرخ المجتمعات العربية على أسس مذهبية، وتوفر الأرضية الصالحة لحروب أهلية استنزافية، طويلة الأمد، تهدد الكيانات القطرية بمزيد الانشطارات والتفتيت.

وبوجود نظام التوريث الأسدي، وما فعلته عقود حكم الاستبداد والفئوية تتعرّض سورية لأبشع كارثة إنسانية وطنية، تطال الإنسان والبنيان والوحدة الوطنية والكيان السياسي، وتسمح لشتى المشروعات الخارجية أن تصول وتجول في بلادنا.

هنا تحضر الهزيمة صارخة. وهنا نعلم أن حزيران ما زال حاضرًا، وأن العقل الذي أدّى إلى الهزيمة النكراء مستمر، وموجود بقوة، ومستعد أن يدمر البلاد على آخرها، وأن يقتل الملايين كي يبقى، ولو على قطعة صغيرة، أو كانتون ما.




المصدر