مذبحة “أطفال الحرية”.. حين واجه النظام ورود المتظاهرين بالرصاص


من الحراك السلمي الخجول إلى الشعبي الحاشد ضد نظام الأسد وقواته، كان يوم الثالث من حزيران من العام 2011 بمثابة نقطة تحول في حماة.

لا تزال تفاصيل ذلك اليوم المليء بالمآسي والدموع عالقة في الذاكرة الحموية، حين سقط المطالبون بالحرية والكرامة قتلى وجرحى برصاص عناصر أمن النظام.

 

حِراك خجول

 مؤيد الأشقر، أحد شهود العيان على ما حصل يومها، قال لـ صدى الشام:” لم تكن المظاهرات في مدينة حماة قبل يوم من مجزرة أطفال الحرية حاشدة بشكل كبير، بل كانت أعداد المشاركين فيها لا تتجاوز الآلاف المعدودة نظراً للتضييق الأمني الشديد الذي كانت تتعرض له المدينة، والتهديد بالقتل والإعتقال من قبل قوات الأمن للمشاركين في تلك المظاهرات، ولكن مقتل عدد من المتظاهرين جمعة بعد أخرى، وسقوط من كانوا يطالبون بحريتهم بعبارات وتنديد لا يشوبها السلاح ولا العبارات الطائفية، أدى إلى إشعال غضب الحمويين تجاه ما قوبلوا به من وحشية النظام تجاه المتظاهرين العزّل من أبنائهم ورجال مدينتهم”.

قبل ذلك اليوم الدموي كان التحضير يجري لمظاهرة حاشدة تحت مسمى “أطفال الحرية”، وكان خططاً أن يتم التجمع في ساحة العاصي التي كانت مقصداً للمتظاهرين الحمويين حينها، كونها مركزاً لحماة ونقطة التقاء لجميع أحياء المدينة. وتم الإتفاق حينذاك على الخروج من جميع المساجد في وقت واحد والسماح للأطفال بحمل الورود، وجعلهم في مقدمة المظاهرات تعبيراً عن سلمية تظاهراتهم، وبأنهم ليسوا كما زرع النظام في عقول قواته ومخابراته بأنهم عبارة عن مسلحين ومخربين.

 

كيف بدأت؟

إنتهت صلاة الجمعة يومها، ليخرج المصلون من مساجدهم وليتجمعوا أمام أبوابها، وتبدأ التحضيرات للتظاهرات المتفق عليها، فكان الالتقاء بين المتظاهرين الذين تجمعوا ونزلوا إلى ساحة العاصي تحت شعار “جمعة أطفال الحريَّة”، حاملين بأيديهم وروداً حمراء.

يقول مؤيد الأشقر:” كانت الطرقات خالية تماماً من السيارات والمارّة ولم يكن فيها سوى المتظاهرين، وذلك بعد إيعاز شبه رسمي من قوات النظام بحظر تجول في المدينة كان يفرضه في كل يوم جمعة لقمع المظاهرات، ولكن ما يميز ذلك اليوم هو خلّو الطرقات التي سلكها المتظاهرون من سيارات الأمن وعناصر حفظ النظام التي كانت تتواجد عادةَ على مفارق الطرقات والأحياء لقمع التظاهرات الخارجة في كل جمعة”، ويضيف :”هذا الأمر جعل المتظاهرين يستبشرون خيراً ليكملوا طريقهم بأمان إلى نقطة التجمع، ليحتشد في ساحة العاصي وفي شارع العلمين المؤدي للساحة وعلى جسر العبيسي أكثر من 55 ألف متظاهر مدني، وهذا ما ميّز هذه المظاهرة التي كانت أكبر التظاهرات السورية حينها”.

 

 

رد فعل

 حين تقدم المتظاهرون من جسر “شفيق العبيسي” على نهر العاصي الواصل بين الساحة ومنطقة الحاضر، كانوا في طريقهم لإهداء الورود لعناصر الأمن وبدؤوا بالهتاف (سلميّة.. سلمية)، ليقوم عناصر الأمن العسكري بشكل خاص، والذين كانوا يتمركزون على أسطح الأبنية في ساحة العاصي وفي منطقة الحاضر وعلى مبنى الحزب ومبنى المحافظة، بإمطار المتظاهرين بالرصاص الحي في استهداف  مباشر لإصابة وقتل هؤلاء العزل، وهذا ما اتضح من طريقة إطلاقهم للنار عبر التسديد خصوصاً على رؤوس وأجساد المتظاهرين، ونتيجة ذلك قتل العشرات وجرح آخرون من المدنيين.

وعقب دقائق من إطلاق النار الكثيف من جميع الجهات على المتظاهرين تزامناً مع الغازات المسيلة للدموع لعرقلة هروب وحركة المتظاهرين، انطلقت صيحات المتظاهرين وسط سقوط العشرات، والدماء التي صبغت أرجاء ساحة العاصي. حينها لم يستثنِ قناصة النظام الأطفال المحمولين على أكتاف آبائهم ممن حملوا الورود لقوات الأمن، فوقع عدد كبير منهم قتلى وجرحى.

اختبئ البعض خلف الجدران وفي أزقة الشوارع المؤدية لساحة العاصي، فيما لاذ آخرون بعربات الخضار الخشبية التي كانت على أطراف الطريق هرباً من رصاص قوات الأمن الذي يستهدف أجسادهم، في حين خاطر آخرون بأرواحهم لإنقاذ المصابين والقتلى، وإسعافهم إلى مشافي المدينة.

يقول أحد الناشطين موثقاً ما جرى حسبما رصد بأم عينه” لقد سقط نحو 34 شهيداً وهناك مئات الجرحى أيضاً. لقد أطلقوا النار بشكل مباشر على المتظاهرين ولم يحاولوا تفريقهم بالغاز المسيل للدموع. استخدموا الغاز المسيل للدموع فقط بعدما قاموا باطلاق النار”.

وتحدث ناشط آخر عن عدد من القتلى “قد يتجاوز الخمسين”. وقال: “ما جرى مجزرة حقيقية”.

بينما قال شاهد اسمه عمر: “بدأ اطلاق النار من فوق سطوح المنازل على المتظاهرين. رأيت عشرات الأشخاص يسقطون في ساحة العاصي والشوارع والأزقة المتفرعة منها. الدماء في كل مكان… يبدو لي كأنه أصيب مئات الأشخاص، لكنني كنت في حال من الذعر وأردت البحث عن ساتر. بدأت جنازات الشهداء فعلاً”.

أما التلفزيون الرسمي السوري الناطق باسم النظام، فقد نسج رواية من الروايات التي ألفها السوريون في وصف احتجاجاتهم، وحاول تغطية الجريمة بالحديث عن “مقتل ثلاثة مخربين خلال اقتحامهم وحرقهم لمبنى حكومي في حماة وتصدي قوات الشرطة لهم”.

لكن ما لم يستطع النظام إخفاءه هو أن “جمعة أطفال الحرية” شهدت تظاهرات في حماه وفي مناطق سورية أخرى كدمشق ودير الزور، وكانت الأضخم منذ بدء الاحتجاجات.

 

 

 مضرجة بالأحمر

 يقول محمد وهو شاب من مدينة حماة عايش تلك اللحظات، “إن لون الدماء الأحمر صبغ حينها شوارع مدينة حماة، وكانت الهواتف النقالة لا تهدأ وذلك ليطمئن الأهالي على أبنائهم بأنهم ما زالو على قيد الحياة. ولم تعد مشافي مدينة حماة حينها تستطيع استيعاب ذلك العدد الكبير من القتلى والجرحى”.

لكن النظام لم يكتفِ حينها بذلك بل بعث بحافلات إلى أبواب تلك المشافي بحجة أنها للتبرع بالدم من أجل المصابين، ليفاجئ المتبرعون حينها بنقلهم إلى فرعي الأمن العسكري و”الجوية” واعتقالهم على الفور.

كما يروي محمد مشهداً كان شاهد عيان عليه، بعد أن حصل أمامه، ولم تكن الأيام كفيلة بمحوه من ذاكرته. “كان أحد الآباء المتظاهرين يحمل ابنه البالغ من العمر خمس سنوات. ذلك الطفل البريء الذي كان يَعتبر المظاهرة عبارة عن نزهة اعتادها مع أبيه، حاملاً وردةً حمراء بيده الصغيرة، فيما تعلو صيحاته بعبارات المتظاهرين وشعاراتهم التي لم يكن يعي مفرداتها. وفي شارع العلمين المدخل لساحة العاصي من حي الصابونية والعليليات، وفي أثناء إنشغال الناس بما يحصل في ساحة العاصي، وقبل وصول الأب إلى الساحة، إنشغل للحظات مع أحد المتظاهرين بجانبه وهو يستفسر عما يحصل، ليفاجئ بدم أحمر ينسال على كتفيه ولتتساقط نقط من الدماء الساخن على وجنتيه، وإذ بطفله الصغير وقد قتل على الفور حينها عقب إصابته برصاصة قناص من الأمن”.
حصيلة مفجعة

 الطبيب وسيم، وهو اسم مستعار لدواعِ أمنية، أكّد لـ صدى الشام وقوع حوالي 85 قتيلاً في ذلك اليوم، بينهم 15 طفلاً، وأكثر من مئة حالة إصابة بعاهات دائمة جراء استقرار رصاص الأمن في ظهورهم وفي مناطق حساسة من أجسادهم، علاوةً على الحالات النفسية وحالات الصرع التي أصيب بها الكثيرون من المتظاهرين حينها نظراً لما شاهدوه في ذلك اليوم.

وأضاف أن هذه الأعداد ما زالت تقريبية ولا وجود لتوثيقات تحصي العدد الحقيقي للقتلى والجرحى حينها، وذلك نظراً لعدم استيعاب المشافي للأعداد الكبيرة، وفتح عدد كبير من المساجد كمشافي ميدانية لإسعاف المصابين، فيما تحولت مآذنها إلى وسيلة لطلب الإسعاف والتبرع بالدماء بشكل عاجل.

 

إضراب عام

 وفي اليوم التالي للمذبحة، السبت 4 حزيران، أغلقت جميع المحال التجارية في المدينة، وتم إعلان إضراب عام في أرجاء حماة، ولتبدأ مراسم التشييع للقتلى من المتظاهرين بحشود كبيرة جداً انطلقت وقت صلاة الظهر نحو مقابر المدينة.

لم تتعرض قوات الأمن يومها للمتظاهرين خوفاً من الغضب المشتعل في المدينة جراء ما حصل يوم أمس، محاولين إمتصاص غضب الأهالي، ولكن ما إن جاء المساء حتى بدأ النظام بحملات دهم وإعتقال لمن تم الوشاية به لمشاركته في المظاهرات المناهضة للنظام.

وعقب ذلك بدأت تحركات عسكرية داخل المدينة رداً على وحشية النظام وإجرامه، فتمت إقامة حواجز داخل المدينة والسيطرة على مداخلها ومخارجها لمنع قوات الأمن من الدخول وارتكاب مجازر جديدة فيها. وكانت النتيجة خلو المدينة بشكل شبه كامل من التواجد الأمني لأجهزة المخابرات وقوات حفظ النظام، فيما بقي التواجد الأمني في مقار الأفرع الأمنية داخل المدينة.

وفي يوم الأحد 5 حزيران استمرَّ الإضراب والعصيان المدنيَّان في أنحاء حماة، وكانت الحال نفسها في اليوم التالي بالنسبة للإضراب العام.

بقيت حماة على هذه الحال حتى تاريخ 31 تموز من عام 2011، ليبدأ جيش النظام عملياته العسكرية الموسعة في هذه المدينة وإقتحام أحيائها بأعداد كبيرة من الدبابات والعناصر وليتم السيطرة على المدينة بشكل كامل.



صدى الشام