من النكبة إلى الهزيمة


جيرون

كثيرٌ من السوريين غارقون بهموم بلدهم، وبتشعّب المأساة السورية إلى درجةٍ، يصعب وصفها وتعداد ظواهرها، حتى إنهم يعدّونها أكثر بؤسًا من نكبة فلسطين التي عدّها العرب، على مدار العقود، نكبتهم الكبرى، بينما احتلت لدى السوريين مرتبة رئيسة تتقدّم جميع اهتماماتهم وهمومهم، بحيث أصرّوا على اعتبارها القضية المركزية للأمة، وحين كان البعض يريد إضافة الأولى إلى تصنيفها، كان عديد السوريين ينفعل، ويعدّ ذلك تخليًا عنها، فكيف وهي لم تعُد على جدول القضية المركزية، ولا الأولى؟

قيل الكثير في أسباب النكبة، وتحدث فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ، في مذكراته، عن تفاصيل خطيرة عن “حرب 1948″، واتّهم معظم الحكومات العربية بالتواطؤ، وعدم الجدية في الحرب، فضلًا عن اتهاماته لهم بالخيانة التي كررها تحت عنوان (هكذا ضاعت فلسطين)، وقد أرست لنكبة، كان الوعد أنها مؤقتة، وأن اللاجئين راجعون قريبًا، وأن فلسطين ستعود، وكثير من الوعود والشعارات التي التهمها واقع عربي مهزوم، كرّس الهزيمة رسميًا في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وكانت منعرجًا خطيرًا بتحويل الصراع من صراع عربي-إسرائيلي، أو عربي-صهيوني، إلى صراع بين “إسرائيل”، والنظم التي احتلت أجزاءً من أرضها في تلك الحرب.. وصولًا إلى الاعتراف بـ “إسرائيل” كيانًا على معظم فلسطين، وعقد اتفاقات الصلح مع عدد من الدول العربية، وافتتحتها مصر نظام السادات في اتفاقية (كامب ديفيد)، ليُلقى الأمر في “عهدة” الفلسطينيين، وتركهم وحيدين عمليًا، والصراع على ما تبقى من فلسطين (الضفة والقطاع)، لإقامة دولة فلسطينية تقضم “إسرائيل” كثيرها، وترفض القبول بدولة مستقلة، بواقع صعود اليمين الأكثر تطرفًا الذي يلتهم ما تبقى استيطانًا وتهويدًا، وبواقع عربي مفتت ومنهار.

نكبة فلسطين كانت لها تداعيات كبيرة في عديد الدول العربية، ولئن كانت الثورة المصرية بقيادة الضباط الأحرار، في تموز/ يوليو 1952، وبروز شخصية عبد الناصر المتأثر بحرب فلسطين، وحصار الفالوجة، جزءًا من مفاعلاتها إلى درجة كبيرة، فإن وقعها في سورية كان أعم وأشمل وأكثر نتائجًا.

ارتدَت سلسلة الانقلابات العسكرية جميعها الرايةَ الفلسطينية، ووضعت تحرير فلسطين مُبررًا لها، في صدارة شعاراتها، بغض النظر عن خلفياتها وموقع الاستراتيجيات الغربية منها، ثم إن صعود عديد القوى القومية كان بتأثير كبير من تفاعلات النكبة الفلسطينية وبأمل تحريرها. أكثر من ذلك فإن تضخّم الجيش السوري والتهامه جزءًا كبيرًا من الموازنة، والدخل الوطني، وتدخله السافر في الحياة السياسية، وقيامه بانقلاب آذار/ مارس 1963، المستمر بصيغه الانقلابية، إنما بفعل تأثير فلسطين القوي، ومثلها الصراعات الداخلية، والكثير من الأحداث المهمة التي عرفتها بلادنا، منذ منح الكيان الصهيوني فلسطين وطنًا قوميًا، وإيجاد قاعدة متقدمة للغرب في قلب الوطن العربي.

ما من شكّ أن فلسطين كانت حاضرة بقوة في انقلاب الأسد “التصحيحي”، في إثر هزيمة حزيران/ يونيو الشاملة، إذ كان وزيرًا للدفاع وقائدًا للطيران فيها، وكان يجب محاسبته مع عدد من المتخاذلين والهاربين، وأقلها تغيير القيادة العسكرية، المسؤول الأول والمباشر عن الهزيمة، وبدلًا من ذلك شكّل تكتله العسكري الذي كان عدد من الضباط المتخاذلين والطائفيين رموزًا فيه، ومدّ الخيوط للغرب مبشّرًا بالقبول بالقرار 242 الأممي الذي يعترف بـ “إسرائيل”، ويفصّل بين القضية الفلسطينية كقضية عربية وتحويلها إلى صراع بيني، والاكتفاء بالضفة والقطاع هدفًا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فضلًا عن تكفله بمحاولات احتواء منظمة التحرير الفلسطينية، والعمل على تطويعها بوسائل مختلفة، من الضغط والحصار والشق، وصولًا إلى التدخل السافر.

سجل الأسد الأب والوريث كليهما مليء بالممارسات ضد الثورة الفلسطينية، ومحاولات الاحتواء، والشق، والإضعاف، ويبقى الدخول إلى لبنان عام 1976، باتفاق مع كيسنجر و”إسرائيل”، لضرب التحالف الفلسطيني-اللبناني، تتويجًا لمسار طويل، كان -بلا شكّ- له دوره الفعّال في إضعاف المنظمة، وخروجها من لبنان، وقبولها باتفاقية (أوسلو).

رضع السوريون حليبَ فلسطين من أمهاتهم، وتلقنوا عشقها من بيئة عامة تشمل جميع السوريين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والإثنية، وظلوا باستمرار ينظرون إليها نظرة خاصة، تعيدهم إلى ذكريات ليست بعيدة، حينما كانت جزءًا صميمًا من بلاد الشام، ثم جاءت اتفاقية (سايكس-بيكو) لاغتصابها بالقوة والتآمر، وهزال الوضع العربي، وتقسيم بلاد الشام.

تعيش فلسطين في قلوب السوريين ووجدانهم، لكن حدّة الأزمة السورية، ووصولها إلى نكبة عارمة تتجاوز ما حدث لفلسطين، تجعل الاهتمامات منصبّة على الوضع الداخلي خوفًا من مخاطر تلوح في الأفق؛ يمكن أن تمزق سورية إلى كيانات مختلفة، وحدة الأزمة جعلت حالة فلسطين شيئًا معهودًا، الأمر الذي يُضعف دور الثورة السورية في ما يجري لفلسطين، سوى بعض التحسّرات والأمنيات، ولا سيّما أن النظام العربي في وضعٍ لا يسمح ببذل جهود مهمة لصالح القضية الفلسطينية، وهو يعاني تصدّعات خطيرة، وتماوجات داخلية منذرة، فضلًا عن قصة الإرهاب وفعله، والمشروع القومي-المذهبي الإيراني، واختراقه المجتمعات العربية في العمق، وتصدير الصراعات المذهبية بديلًا.

مع ذلك، وعلى الرغم من هذا الموج المخيف الذي يجتاح الوطن العربي، خاصة بعض بلدانه الرئيسة، وتبدو فيه “إسرائيل” المستفيد الأكبر، وبما يسمح لها بإطلاق يدها لالتهام أجزاء كبيرة مما تبقى من فلسطين والضفة والقدس، والدوس على اتفاقية (أوسلو)، ومحاولات فرض أمر واقع، يحاول الفلسطينيون مقاومته بما تبقى لهم من همّة وقدرات، آخذين بالاعتبار دور انقسامهم في إضعاف مردود عملهم، وتشتت جهدهم، إلا أن حقوق العرب في فلسطين، والجولان، وسواهما لن تموت طالما بقي عربي مؤمن ومطالب بها، ومكافح لأجلها.

قد يطول الزمن، وتتعقّد اللوحة.. وقد يدفع العرب ثمنًا باهظًا لثوراتهم على نظم الأحادية والفساد.. وقد يوجهون جهدهم الأكبر لما يرونه الخطر الأشد فتكًا: المشروع الإيراني وحوامله المذهبية التي تشرخ المجتمعات العربية من داخلها، وتهدد بحروب أهلية مكلفة جدًا، وطويلة الأمد، إلا أن زمنًا قادمًا سيتمكن فيه العرب من انتزاع حقوقهم المشروعة بكل الوسائل المتاحة، وأولها قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، وعودة اللاجئين، والجولان طبعًا.




المصدر