رسالة لإخوتي المؤيدين والصامتين في ذكرى الصرخة الأولى


استيقظت اليوم، في ذكرى انطلاقة الثورة، وأنا أفكّر ماذا يجب أن أكتب ولمن يجب أن أكتب.
استعدت مشاعر هذا اليوم من ستّة أعوام، اليوم الذي اتّخذ الكثيرون فيه قرارهم أن يمشوا أطول طريق، وأصعب طريق، وأن يؤمنوا بأن المستحيل ممكن، وأن الغد لا بدّ أن يكون أفضل، وإلّا فلا حاجة لنا لأن نبقى…. اليوم الذي تحدّى فيه النّاس كل قناعاتهم، وكفروا باليأس وقالوا “ولمَ لا؟، ما الذي ينقصنا كسوريين حتى يكون لنا سوريا أفضل؟” بتلك المشاعر، وجدت أن من يجب أن أكتب إليهم اليوم هم أنتم.

إخوتي المؤيدين والصامتين:
وأنا أعلم أن كتابتي لكم ستولّد لي الكثير من الصداع، وربّما لن يستسيغها لا القريب ولا البعيد، ولكن لطالما سألت نفسي، ما الذي كان سيفعله شهداء كغياث مطر أو باسل شحادة لو كانوا بيننا، ما الذي سيفعله معتقلون ومغيّبون أمثال يحيى شربجي أو رزان زيتونة أو راما العسس أو عمرو خلف لو عادوا إلينا، أعتقد أنّهم سيفعلون شيئاً مماثلاً يوماً م؟، ولذا اتخذت قراري.
أنا لا أكتب للقتلة أو من يرقصون فرحاً بالعنف والدمار والتشفّي بالآخرين، ولكننّي أعلم أن فيكم من لم تسرّه يوماً قطرة دم، وكانوا يودّون لو سارت الأمور باتجاه مختلف، ولكن ضيق التصنيفات أدرجتهم ظلماً تحت تلك المسميّات، وأعلم أن تعقيدات الوضع واختلاف الأماكن جعل من أي جسرٍ بيننا أمراً مستحيلاً، وأنا اليوم أمدّ هذا الجسر لأخبركم عنهم، أولئك الذين ما سمعتم عنهم أيضاً منذ سنين، إلّا بأنّهم “الآخر” المخيف.

ستّ سنوات، ونحن ننزف، اختلفت جراحنا، ولكن هل يختلف الألم؟ هل يختلف طعم الفقد باختلاف المواقف؟ هل يختلف الاشتياق لمن رحلوا؟ هل يختلف الندم على موقفٍ ما في يومٍ ما؟ هل يختلف الخوف؟ فممّا لا شك فيه أنكم مررتم بكلّ ذلك أيضاً، ولكن حقيقةً لا أعرف الجواب، ولا أستطيع أن أعرف، فنحن لم نتكلّم منذ سنين.
تعلمون أن مئات آلاف النّاس قُتلت ظلماً، وأضعافهم ممّن هُجّروا ظلماً، وعشرات الآلاف ممّن اعتقلوا ظُلماً، ولكلّ هؤلاء أهل وأحباب وأصدقاء، والعنف لا يولّد إلا العنف، والظلم لا يولّد إلا الظلم. لا تصدّق بأن قهر المقهور يُسكته إلى الأبد، وانظر للتاريخ القريب والبعيد، لا يُسكت المظلوم إلا العدل.
ترون في الطرف المقابل كثيراً من رايات الظّلم والظلام، ولكنّ ربّما لا تعلمون أن تلك الرايات تقتل من الطرف المقابل أكثر ممّا تقتله منكم.
ترون في الطرف المقابل فوضى وخلافات وصراعات، ولكن ربّما لا ترون أن نماذج العمل المدني والتنظيم كالمجلس المحلّي في داريّا كان لها النصيب الأكبر من العنف والانتقام، كي لا يكون هناك نموذج واحد يمكن أن نريكم إيّاه.
ترون في الطرف الآخر دعاة انتقام، ولكن هل ترون من يدفع ضريبة الذود عنكم، ومن يرفض أن يواجه العنف بالعنف، مهما كانت وتيرة الإجرام الذي يتعرّضون له؟
وما لا ترونه في الطرف المقابل، أساطير من النساء والرجال، ممّن تمسّكوا بمبادئهم، وفقدوا أحبّة لهم، واعتقلوا مراراً، عُذّبوا حتّى طأطأت جدران الأقبية رأسها، وفقدوا حتّى عجز الحُزن والدمع، وما زالوا يتمسّكون بمبادئهم، وكل ما يحلمون به؛ أرضٌ تتسع لهم ولغيرهم، يعيشون فيها بكرامة، ويتساوون فيها مع غيرهم. ما ذنبهم؟

رسالتي هذه لا تعني أننّي أرى أنكم على صواب، فما زلت أرى موقفكم خاطئ، وعاراً يلاحقكم، وربّما ترون فيّ مثل ذلك، ليس هذا ما يهمّني اليوم، ولكن رسالتي هذه لأخبركم أن لا مستقبل أمامنا إلا أن نتشارك هذه الأرض وهذا الهواء، شئنا أم أبينا، باختلاف عقائدنا وانتماءاتنا وأعراقنا وأدياننا وايديولوجياتنا.
لستُ ممّن يؤمن بالسلاح، ولكننّي أرى طريق نزع السلاح من بين أيدي النّاس يتم فقط حين نقدّم لهم بدائل سلمية ونجعل التغيير السلمي ممكناً، أريد أن أقول لكم أيضاً أن كثيراً من الشباب الذين ترون وجوههم الغاضبة والملتحية اليوم، هم مثلكم كانوا طلّاب جامعات وعشّاق أو في بداية حياتهم ولم يجدوا أمامهم طريقاً لحماية أنفسهم سوى السلاح، فمن نلوم وماذا نفعل؟ أنمضي في طريق القهر والذي لا يُنتج إلا عنفاً بأشكال جديدة ورعباً بوسائل جديدة؟

هل لدي ما أقترحه إليكم؟ لا. وأنا لا أنتظر حلّاً سحرياً أو جواباً على ما أكتب، ولكننّي أكتب إليكم لأننّي أؤمن بأن الصراخ على الموجوع واجب، والغناء على العاشق واجب وإن صُمّت آذان الكون، وأنّ إحياء الحُلم واجب، وإن لم نجد من يشاطرنا إياه، فمن حمله معنا من الرّاحلين كُثر، ومن سيحمله معنا من القادمين كُثر، وما زالت أؤمن بأن الطريق لذلك الحلم يمر من عندكم، كما أن طريقكم نحو ما تأملون يمرّ من عندنا.
اذاً لماذا أكتب إليكم؟ لأنّني أؤمن بثورتي، بكل بساطة، ثورتي التي علّمتني أن أمشي باتجاه الآخر وإن لم أرَ الطّريق أمامي، وأن أؤمن أنّ معالم الدرب تتضّح بعد أن أقطع أميال الظلام الطويلة والمقفرة، وبذلك أحيي ذكرى ثورتي التي أحببت والتي عشت وأعيش، وبذلك أتودّد لأصدقائي الذين أحببت وفقدت قتلاً أو اعتقالاً
… ثورة سلامٍ ترفض العنف وتؤمن بالحرية والعدالة والمساواة للجميع، ثورة دستور وحريّة ودولة مدنية. ذلك ما أعنيه حين أقول “ثورة” وذلك ما أسعى له ويسعى له الآلاف. ستسألني وأين الأصوات التي تنادي بذلك؟ خذوها ممّن يقيم على الطرف الآخر، هذه الأصوات موجودة وبكثرة، ولكن لو هدأت أصوات المدافع لسمعتموها، وعهداً لمن يؤمن بها، ولمن لا يؤمن بها، بأنني سأمضي بها ما حييت.



صدى الشام