حين هزمت سلطات الهزيمة مجتمعنا


جبر الشوفي

السلطات التي انهزمت أمام عدوّنا التاريخي “إسرائيل” مرة بعد أخرى، وكانت قد احتفلت بنصر يشبه الهزيمة، إن لم يكن هزيمة كاملة في حرب رمضان 73، هي ذاتها السلطات التي كرست مفاعيل الهزائم، وجعلت منها واقعًا سيكولوجيًا وسياسيًا وثقافيًا، يصعب تجاوزه، بينما تنصلت هي من مسؤوليتها التاريخية عن تكراره، عبر مقولات وأساليب فهلوية، لم تستطع أن تستر السبب الحقيقي الكامن في عورات وعيوب بنيتها السياسية القائمة على الاستبداد بالمجتمع والفساد والتفرد بالحكم، وعجزها البنيوي عن الربط بين مقولات التحرير المفترضة بالمشروع التنموي الوطني العام الذي لم يكن مشروعها أصلًا، ولا بالهوية الوطنية الجامعة التي لم تكن هويتها أيضًا، لذا فقد وجدت في كل هزيمة جديدة عاملًا، يضاف إلى مبررات وجودها وتفردها وقمعها، فالمعركة هي معركتها وحدَها من دون مجتمعها، وهي من يُمفصل المواقف ويسوّغ الآراء، ويملك الحق المطلق في إسكات كل صوت، لا يصبّ في معركتها الوهمية المفترضة أو يقف عائقًا في طريقها!

هكذا جيّرت حكومة البعث هزيمة حزيران/ يونيو 67 المُذلّة، لصالح بقائها واستبدادها، حين وجدت في مقولة سوفياتية بائسة حينئذ، مفادها أنّ “إسرائيل” التي احتلت من ثلاثة إلى خمسة أضعاف مساحتها، لم يكن يهمها سوى إسقاط الأنظمة التقدمية، وهو ما فشلت فيه، وخرجت الأنظمة سليمة معافاة، لتفتش في جيوب كيسنجر وروجرز وغيرهما عن حلول، تصون بها كراسيها التي اهتزت وكرامتها التي تمرغت، ولتستعيد من جديد مقولات التحرير التي سقطت من يدها، ولم يعد المجتمع السوري معنيًا بالتقاطها وحملها، بعد أن امتهنها نظام الشعارات الهوائية الصبيانية، ومراهقو البعث القومجيون حتى العجب!

وزير الدفاع البعثي وعضو القيادة القطرية الذي جمع بين المهمات العسكرية والسياسية حافظ الأسد هو وحدَه مَن تجرأ على كسر المراهنة، ومضى في امتصاص آثار الهزيمة المذلة حتى النهاية، محملًا رفاقَه مسؤولية الهزيمة وتسليم الجولان، قبل سقوطه الفعلي بثلاثة أيام؛ ليعود فيلتقط مقولات النهوض والتحرير، وإزاحة من عرقلوا التحرير من رفاقه البعثيين، وزجهم في السجون حتى الموت، ليخرج هو بصورة الناصر صلاح الدين، في زمن حرب التكنولوجيات والبرمجيات والخطط العلمية، وبذا حوّل جوعه التاريخي إلى صورة القائد العسكري القادم من أعماق التاريخ إلى كوميديا سوداء، يدفع الجميع كلفتها، بينما يستفرد هو وطاقمه السلطوي برصيدها المادي والمعنوي، وبما يمكّنه من تحويل الهزيمة مصدرًا لفخره واعتزازه، كما صارت مصدر اعتزاز وتمكين كبيرين لعدونا، في نتائجها الواقعية على الأرض وفي السياسة والسيادة.

هكذا وعى قادة البعث نكبة عام 48 وهكذا قاربوها، لينتقلوا عبر فكرهم الطفولي المرضي إلى تحرير فلسطين؛ ومن ثمّ إلى هزيمة حزيران، فتكون الهزيمة الجديدة مبررًا لطيّ صفحة التحرير، والبدء في مرحلة ما سمّي إزالة آثار العدوان، حيث الإزالة لا تتضمن ولا ترتبط بالقضية الفلسطينية أساس الصراع مع الصهيونية، بل بما وقع منها من غبن وحيف جديدين، تمثّل باحتلال للجولان وسيناء والضفة الغربية، ومن هنا وتحت هذا الشعار (إزالة آثار العدوان) باعتباره أقصى ما تتمناه أنظمة العجز العربي، وأكبر مكافأة للمعتدي الصهيوني، أن يتلهى من يفترض أنهم قادة التحرير بمحاولة إزالة آثار حرب الأيام الستة، كما سمّاها القادة الإسرائيليون، لما تحمله هذه التسمية من سخرية مبطنة وشماتة صريحة، وتحت هذا العنوان ذاته، تسنى لحافظ الأسد أن يعزز منظومته الأمنية، معتمدًا على نواة مذهبية عميقة متصلبة، ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمجمل ماكينته الإعلامية وبنيته العسكرية والأمنية والأيديولوجية، وبطموحات الفرد المتألّه المهوّس، بتأبيد صورته وسلالته من بعده، وفي ذهنه وهم، أنّه يؤسس مع ورثته معادلًا تاريخيًا لسلالة الأمويين، محط غيرته وغيظه، أنهم خلّدوا أسماءهم وربطوا خلودها وعظمتها بخلود دمشق وعظمتها.

أدرك السوريون أن حاكمهم المتألّه غارق في صنع الهزيمة، وأنه ممعن في العمل على هزيمة مجتمعه، كفعل تعويضي عن عجزه عن هزيمة العدو الحقيقي، ليس لخيانته وعدم إيمانه بضرورة تحرير الأراضي المغتصبة، باعتبارها تجارة رابحة فحسب، بل لأن مصالحه مع الدول التي تركت له حبل النجاة، مقابل خدمات على رأسها مكافحة الإرهاب، منذ انقلابه على داعميه الأميركيين، وصار مهددًا لمجتمعاتهم ومقلقًا لاستقرارهم حتى في عقر دارهم، ولم يكن الرئيس لينوي أصلًا أو يجرؤ على إغضاب سيده البريطاني، مؤسس دولة “إسرائيل” والموطد الأساس لوجودها الأولي، قبل أن تتولاها الولايات المتحدة الأميركية بالحماية والرعاية والإنماء، على حساب شعوب محكومة، بتنويعات من أمراء وجمهوملكيات مغتصبة للسلطات في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها.

 شكل هذا الانتقال بين الهزائم -سواء تغيّر الحاكم، أو بقي، أو ورث وعي سلالته الأيديولوجية كحافظ الأسد وصدام حسين، أو ورث سلالته الفيزيائية والأيديولوجية كبشار الأسد- جوهرًا سياسيًا استبداديًا واحدًا، مفاده إلقاء مسؤولية الهزيمة على المجتمع الذي وسموه بالتخلف، مزيحين عن كاهلهم المسؤولية التاريخية والأخلاقية للهزيمة، ومبعدين أذهان العامة عن السبب الأساس المتمثل ببنية سلطاتهم المستبدة.

كان يمكن أن نقول إنّ كارثتنا في وعينا الاجتماعي والسياسي لا تقلّ عن كارثتنا في حكامنا، لولا أن هذا الوعي ذاته هو من صنع ماكينة الحاكم الإعلامية، فالحاكم الذي سلم الجولان، بطريقة ملتبسة لم يكشف النقاب عن سرّها تمامًا حتى يومنا هذا، عاد رافعًا شعار التحرير ولم يلبث أن وقع اتفاقًا، أمّن فيه حدود “إسرائيل” وأمنها من أي تهديد لأكثر من نصف قرن؛ ليتربع هو وموالوه وأدوات حكمه هانئين على صدر الشعب السوري، ويوكلوا مهمة إكمال ما بدؤوه لمعتوه غرّ، راح يتلذذ بقتل الشعب الذي سكت على توليته وتفصيل الدستور على قياسه، متسامحًا مع جرائم الأسرة، آملًا أن يُصحح الشاب الحديث ما خرّبه الأب وما أوقعه بالشعب السوري من كوارث، كانت جريمة حماة أشدها وأكثرها هولًا.

هل انطلت على الشعب السوري لعبة البعث التي كانت تتكرر قبل كل مؤتمر قطري، حيث يجري الترويج للإصلاح ويُضحّى ببعض الفاسدين الضعفاء، حتى إذا انتهى المؤتمر وتمكّن من السلطة، أعاد توليف الأتباع والموالين، ورجع لسيرته الأولى المليئة بالفساد والاستبداد، وهي اللعبة ذاتها التي رافقت تسلم الوريث الصغير عام 2000 بعد موت المؤسس، حيث جرى في مؤتمر البعث القطري الأول (العاشر) الذي قاده الوريث استدراجٌ للكفاءات البعثية والمهارات والبعثيين المتطلعين إلى الإصلاح، وربطهم بما سمي مسار (التحديث والتطوير)، سرعان ما عاد إلى الآلية المجربة، لتخويف المجتمع وإرهابه وإبعاده حتى عن فكرة الإصلاح، وتخوين المطالبين بها، إذ راح منظروه يعممون مقولة صراع الحرس القديم والحرس الجديد، وجهروا بالدعوة إلى تحرير يديه المفطورتين على الإصلاح والحداثة المزعومتين، فكان لا بدّ من ثورة السوريين، في أواسط آذار/ مارس 2011، ليُدرك هؤلاء أنّ رهانهم لا يعدو كونه خديعة وورطة، لمن لم يدرك حقيقة البنية الحقيقية العميقة لنظام الاستبداد والفساد، وأن قراءاتهم المتلفعة بأخلاقيات رومانسية وحسن نية لا تعدو كونها جهلًا سياسيًا فظيعًا.




المصدر