عندما لم يجرؤ أحد الدفاع عن الشاب إلياس
9 يونيو، 2017
ميشال شماس
في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012 وردني اتصال هاتفي من قريبي، وأخبرني أن المخابرات الجوية اعتقلت شقيقه إلياس، ونقلوه منذ نحو أسبوعين إلى سجن عدرا لمحاكمته أمام محكمة الإرهاب بتهمة التعامل مع الإرهابيين، وأنهم لا يجرؤون على زيارته خوفًا من الاعتقال.
فوجئت بخبر اعتقال إلياس الذي لم يكن له أي نشاط سياسي معارض أو حتى موال، بل كان منشغلًا في تأمين معيشة عائلته بعد وفاة والده، إضافة لمتابعة دراسته في كلية الحقوق بجامعة حلب، سألتُ المتصل: ولماذا لم تخبرونِي باعتقاله؟ ارتبك قليلًا قبل أن يجيب بصوت متهدج: “يا خيّي والله الخوف قاتلنا، وما حدا قدر يساعدنا، وكل يلّي قصدناهم كانوا يقولو لنا: “أخوكم إرهابي ” وأمّه خايفة عليه يروح فيها”. قلتُ له: “لا تخاف ولا يهمك، أنا عم ساعد الغريب فكيف بالقريب سأهتم بأمره”.
ذهبتُ في اليوم التالي إلى سجن عدرا لزيارة قريبي إلياس والاستماع إليه عما حدث معه ومعرفة سبب اعتقاله؛ انتظرته في القاعة الخاصة بالمحامين، وبعد نحو ربع ساعة دخل إلى القاعة بصحبة شرطي، وقال له الشرطي: “معك ربع ساعة، هذا محاميك”، التفتَ نحوي وقال: أهلا بالخال، ثم أجهش بالبكاء مثل طفل صغير، حاولت تهدئته بينما هو لا يزال يبكي، وانتظرته حتى هدأ قليلًا قلتُ له: “له، له يا خال، يا حيف على الرجال تبكي.. مو هيك أملي فيك أبدًا.. شوف الشباب يلي حواليك ولا واحد عم يبكي منهم”.
إلياس: يا خال، والله قتلوني ومرمروني وأنا ماني عامل شي، أسبوع من القتل والتعذيب وأنا ما صدقت حالي أطلع حيّ من هونيك، والله يا خال شفتْ الموت بعيوني، أنا لي قاهرني إني ما عملت شي أبدًا.
أنا: طيب يا خال على مهلك، هدّي هدّي، خبرني ليش الأمن اعتقلك، ومن وين وكيف؟
إلياس: “يا خال أخذوني من الطريق، وقت كنت راجع من الشغل إلى البيت، وبالفرع اتهموني أني اتصلت بقناة الجزيرة وأخبرتهم بأن الجيش السوري هو من قصف كنيسة أم الزنار، وسمّعوني صوت على أساس إنه صوتي وأنا عم أتصل بقناة الجزيرة”، وأضاف: “الصوت ما كان صوتي ولا حتى يشبهه، ألله وكيلك يا خال مالي بالسياسة بنوب ولا بسمع الجزيرة أبدًا. أنكرت كل ذلك لكنهم لم يصدقوني، وكانوا ينهالون بالضرب العنيف عليّ كلما أنكرت ذلك… وبعدين أخذوني على المخابرات الجوية بمطار المزة، وهونيك كمان ضربوني وعذبوني، وأنا أصر على أنني لم أتصل بقناة الجزيرة، ولا بعمري اتفرجت عليها أصلًا، وبقيت شهرين محبوس بالمزة، والجرب أكلني وتبهدلت.. تيابي تمزقوا وبعتوني على سجن عدرا بالكيلوت الداخلي يلي صار لونه أسود، وأنا ماني عارف شو أعمل، دخلت على مهجع السجن بدون تياب وأنا خجلان من المساجين، وما شفت إلا وشاب ألله يوفقوا ويكتر خيروا عطاني تياب وبطانية، وبعدين عرفني عن حاله إنه من دوما.. واتصلت بأهلي ما حدا استرجى يجي منهم لعندي وأنا صرلي شهرين هون وما حدا زارني وما معي مصاري اتبهدلت يا خال.
أنا: روق، طول بالك، هاي أنا جيت لعندك ومارح اتركك لحتى تطلع من السجن، لكن بالأول احكي لي شو صار معك بالتحقيق، وبشو اعترفت امامهم؟ وشو كتبوا بالضبط؟
إلياس: والله يا خال ما بعرف شو كتبوا؟ أعصابي كانت منهارة وما بعرف على شو وقعت، كنت خايف كتير من القتل عندما طلبوا منّي وقع على ورقة وأبصم عليها.
أنا: إي بسيطة يا خال ولا يهمك، أنا بكرا بشوف ملفك، وإن شاء الله ما بتطول هون.. المهم أنت خليك قبضاي ولا تخاف أبدًا، وأنا سأزورك بين فترة وأخرى، وكمان رح خلّي زميلتي الجميلة تزورك، بس دير بالك تحط عينك عليها أبدًا فهي مخطوبة وتحب خطيبها جدًا، وكمان خطيبها سجين معتقل بعدرا يعني حدك؟؟ وأنا أضحك، فاحمرّ وجهه من الخجل…
وهنا دخل سجين إلى القاعة لينتظر زيارة محاميه، وقد ألقى السلام علينا.
إلياس: يا خال هذا هو الشب يلّي ساعدني وعطاني ثياب.
السجين: موجهًا كلامه إلى إلياس، شو يا عمّي مين قدك، وهاي صار عندك زيارات؟ ما قلتك أهلك مارح يتخلّوا عنك؟
أنا: أهلا بك يا أخي، وشكرًا لكل ما فعلته من أجل إلياس..
السجين: له يا استاذ نحنا هون كلياتنا إخوة، وان شاء الله ما في فرق بيناتنا، لا مسلم ولا مسيحي، كلنا خلقة ألله.
أنا: شكرًا لك مرة أخرى، وبارك الله فيك وبكل أهل دوما، وهذا لطف وكرم منك مارح ننسى معروفك، وهيك لازم تكونوا بالسجن متعاطفين مع بعضكم وهذا أملنا بكم.
السجين: “بعد أن عَرِفَ أسمي” إي والنعم يا استاذ كل المساجين هون بيسمعوا فيك.. كأنوا حضرتك ما عم تجي لهون كتير؟
أنا: إي والله قليل جدًا فقد تعرضت للتهديد بالقتل في اخر مرة.. إضافة إلى أنني أقضي معظم وقتي في محكمة الإرهاب لمتابعة ملفات المعتقلين وكما تعرف عدد المعتقلين كبير، ولا أستطيع ترك عملي في المحكمة، لكن هناك زملاء لي يأتون إلى هنا لتقديم المساعدة القانونية لكم.
وهنا دخل الشرطي وأعلن عن انتهاء الزيارة. غادرتُ السجن بعد أن أعطيتُ قريبي مبلغًا من المال وبعض الحاجيات والثياب التي ارسلتها له أمه.
في اليوم التالي ذهبتُ إلى محكمة الإرهاب وأطلعت على الملف، وكان الضبط الأمني يحتوي على صفحة واحدة من عشرة أسطر، وورقة صغيرة كتب عليها بخط مطبوع ملخصه ” إلى محكمة الإرهاب نقدم إليكم الموقوف المدعو “إلياس” لمحاكمته وفق قانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 لقيامه بالتعامل مع المسلحين في حمص، والوقوف معهم على الحواجز والاتصال بالقنوات المغرضة، ونقل أخبار كاذبة لتشويه سمعة الجيش العربي السوري. ونطلب إليكم محاكمته وإصدار الحكم اللازم بحقه وتزويدنا بنسخة من الحكم لضمها إلى ملّفه الموجود لدينا”.
أتصلتُ بوالدته وأخبرتها أن إلياس” يمكن أن يصبح حرًّا بعد شهر من الآن، إلى أن يأتي دوره، فهناك عدد كبير من المعتقلين ينتظرون دورهم في الاستجواب، لا تخافي ملفّه بسيط وفاضي وما في شي بيخوّف، وأنا رح أزوره بين فترة وأخرى”.
فَرِحتْ أمّه كثيرًا، وأخذت تطلب وتدعي لي.. وبعد شهر حان دوره في الاستجواب، فتم استحضاره مكبلًا من سجن عدرا مع عدد المواقيف، واستجوبه القاضي بحضوري، وقرر تركه لعدم كفاية الأدلة.
وفي اليوم التالي أحيل إلياس من سجن عدرا إلى الأمن الجنائي، لوجود إشارة حول أسمه بأنه مطلوب للجيش، وقبل ذلك أتصلتُ بأحد معارفي لمساعدتي تحسبًا لأي طارئ، حيثُ طلب منّي مراجعة المقدم المناوب، وفعلًا دخلت إلى مكتب المقدم، وعرّفته عن نفسي، وأخبرته أن قريبي أطلق سراحه من محكمة الإرهاب وهو موجود الآن في نظارة الفرع، وأريد أن أسلّمه دفتر العسكرية كونه مؤجل دراسيًا، اتصل المقدم بالنظارة وطلبَ إحضاره إلى مكتبه، وبعد قليل دخل شرطي ومعه إلياس، وفوجئت أن إلياس مصاب بالجرب حيث القيح والدمامل على يده. نظر المقدم إلى إلياس قائلًا له: “ما بدك تسلم على خالك؟” شعرتُ أن المقدم يريد أن يختبرني إن كنت خاله أم لا، فلا يوجد شيء في الهوية يوحي أنناء أقرباء فعلًا، غضضتُ النظر عن الجرب والقيح والدمامل، واحتضنتُ إلياس بقوة وقبلته على وجنتيه، وأنا أضحك معبرًا عن فرحتي بإطلاق سراحه.
عندها أيقنَ الضابط أنني لا أكذب عليه، وطلبَ منه ألا يُعيدها ثانية. وبعد أن شكرته، خرجنا بسرعة وما أن أصبحنا خارج الفرع حتى بادرت فورًا إلى الاتصال بوالدته قائلا لها: “مبروك إلياس أصبح حر وهو بجانبي وأعطيت الهاتف إلى إلياس ليتحدث مع أمه، حيث بدأت الدموع تنهمر على وجنتيه من شدة الفرح. ثم تابعنا سيرنا إلى أقرب محل للموبايلات، حيث اشتريت له جهاز موبايل مع خط جديد، وبعد ذلك حاولتُ اصطحابه إلى المشفى لمعالجته من الجرب.. كما حاولتُ استضافته في بيتي، إلا أنه رفض رفضا قاطعًا، وأصرّ على السفر فورًا إلى حمص.
وبعد أن تناولنا طعام الغذاء في باب مصلى، ركبنا سيارة أجرة باتجاه كراج العباسيين، حيث أمّنتُ عليه في أحد الميكروباصات المتجهة إلى حمص؛ ويستغرق وصوله إلى بيته نحو أربع ساعات نظرًا للحواجز الكثيرة على الطريق، بقيت خلالها قلقًا وخائفًا عليه رغم أنني زودته بكتاب يؤكد الإفراج عنه من القضاء، لكنّ قلبي لم يطمئنّ حتى سمعتُ صوتَ أمّه وهي تخبرني أنه وصل إلى البيت سالمًا، وهي بالكاد تستطيع الكلام من شدة فرحتها بلقاء ابنها بعد غياب عنها استمر لسبعة أشهر.
قصتي مع إلياس ليست الوحيدة، بل هناك مئات الحالات المشابهة التي حدثت معي ومع زملائي منذ اندلاع الثورة السورية في 2011 ولغاية خروجي من دمشق في نهاية 2015.
[sociallocker] [/sociallocker]