المشايخ والثورة


توفيق الحلاق

سوف تطالعك، على معظم صفحات الثورة السورية، صورٌ وفيديوهات لمشايخ يخطبون في حشدٍ من الناس، وقد تعلقت أفئدتهم بهم، وفي مقابل تلك الصور لن تجد صورة لمفكر مستقل يحظى باهتمام مماثل. تبدو المفارقة فاقعة ومدعاة للحسرة والألم وخيبة الأمل، عندما تعلم أن معظم هؤلاء المشايخ لم يناضلوا ضد الأسدين، ولم يتعرضوا للاعتقال والتعذيب في السجون، كما هو حال المفكرين المستقلين الذين قضوا سنوات وراء القضبان. وحتى في المجلس الوطني والائتلاف، ومن بعده في الهيئة العليا للتفاوض، يتصدر المشايخ المشهد أحيانًا، أو يحتكرون قرارَ المعارضة كل الوقت.

معلوم أن الثورة لم يقم بها مشايخ، ولم يقدها مشايخ، ولم يتظاهر من أجلها مشايخ، ولم يُحرّض عليها، بصيغتها وشعاراتها وأهدافها، مشايخ، وإنما أشعلها الشباب والشابات والأطفال تحت عناوين وشعارات وهتافات لا علاقة لها بالدين؛ فلماذا إذن استطاع المشايخ ركوب متن الثورة والمضيَّ بها إلى الخلف مسترشدين بالسلف بدل أن يقودها مفكرون مستقلون مناضلون باتجاه نور الحرية والنظام الديمقراطي؟

في المجتمعات المدنية السورية، قبل الاستقلال في 17 نيسان/ أبريل 1946، كان لإمام مسجد الحيِّ مكانته المرموقة عند المسلمين الذين يشكلون الأكثرية، وكان رأي الشيخ أو فتواه هو الفيصل في الحكم بين الناس وفي إقرار الحلال والحرام، وهو من يُعلّم الأطفال أصول الدين وأحكامه، وهكذا لن تجد رجلًا أو شابًا أو طفلًا إلا وله شيخه الذي يمثل له مرجعيةً يثق بها، في تفاصيل حياته جميعًا، بدءًا من الوضوء وصولًا إلى العلوم والفنون وقضايا الساعة، وكان شائعا وطبيعيًا أن يتوقف الحوار بين رجلين ليسأل أحدهما الشيخ: أينا يا شيخي على صواب؟

استمرت هذه الحال بعد الاستقلال، وعلى الرغم من أن القادة الذين تناوبوا على حكم البلد كانوا على نرجسيتهم وصلافتهم ينتمون إلى مرجعيات ليبرالية متحررة من قيود الدين في الغالب، إلا أن تأثيرهم على ذلك النمط من حياة الناس كان محدودًا. وقد هادنت تلك الأنظمة المتعاقبة التي حكمت سورية، ومعظمها عسكرية، عصبة المشايخ ومنحتهم الأمان، في مقابل الدعاء للحاكم وعدم التدخل في سياسته، وقلائل من أولئك المشايخ من حصل على مكانته نتيجة اجتهاده في طلب علوم العصر إضافة إلى علوم الدين، بل إن المتنورين منهم تتلمذوا في جامعة الأزهر المصرية التي ما تزال مناهجها حتى اللحظة تعتمد مراجع فقهية، تتعارض كليًا مع التطور الحاصل في القرن الواحد والعشرين، وحتى أولئك القلائل استطاع النظام تدجين معظمهم، وتوظيف علمهم بما يتناسب مع سياسته.

مع بداية الثورة كانت المساجد هي المكان الوحيد الذي يستطيع المتظاهرون التجمع فيه والانطلاق منه، وكانت قيادة التظاهرات متروكة لمن هو أكثر شجاعة من الشباب لاعتلاء الأكتاف وترديد الهتافات الحماسية، ومرةً أخرى جبنَ معظم المشايخ عن قيادة تلك التظاهرات، بل إن بعضهم عدّها خروجًا محرمًا على الحاكم، وفي أحسن الأحوال كان موقفهم محايدًا أو مواربًا، وحدثت استثناءات محدودة جدًا في درعا مثلًا، حين أعلن الشيخ أحمد الصياصنة موقفه مع مطالب الشباب وحقهم في التظاهر والتعبير؛ ما عرّضه للاعتقال غير مرة وتسبب في استشهاد أحد أبنائه وتهديده بقتل ابنه الآخر، إذا لم يُصرّح على الشاشة التلفزيونية السورية بوجود عصابات مسلحة تنطلق من المسجد العمري الذي يخطب فيه، وموقف الصياصنة الواضح من السلطة هذا لم يتكرر إلا نادرًا في بقية المدن والقرى السورية، والذي حدث في المناطق التي حررها الجيش الحر فيما بعد هو ركوب المشايخ متن الثورة وترويجهم لحكم الشريعة الإسلامية كلٌّ وفق فهمه وعلمه، ووجدوا في تشرذم الجيش الحر لاحقًا، واعتماد كل فصيل منه على دولة داعمة، فرصتَهم لإقامة مجالس شورى وقضاء، تختلف اجتهاداتها وأحكامها من قرية إلى أخرى، بل ومن حي في المدينة إلى آخر، وهي في معظمها لا تمت للواقع المعاصر بِصلة.

لا شك أن استخدام نظام الأسد للقمع الدموي والتدميري كان سببًا رئيسًا في بروز ظاهرة المشايخ كقادة رأي وحكم، في غياب تنظيم حزبي ليبرالي قوي، كان بمقدوره ملء فراغ قيادة الثورة وأخذها في الاتجاه الصحيح، لكن ذلك لم يكن ممكنًا في بلدٍ، استحوذ فيه النظام على كل مفاصل الدولة والمجتمع، وقتل وسجن وهمّش وهجّر كلّ معارضيه، وفي مقدمتهم حملة شعلة التنوير والحرية والديمقراطية، وهكذا عاد الناس إلى مشايخهم يستمدون منهم طاقة الصبر والصمود على بلواهم، بالدعاء والاستغاثة واستعادة سير أبطال المسلمين الأوائل.




المصدر