لماذا يستنكر الكثير من المسلمين الغرب، ولماذا لا يمكن تهدئة غضبهم بسهولة؟
10 يونيو، 2017
في إحدى رسائله، أشار توماس جيفرسون أنه في مسائل الدين ينبغي قلب “أعظم حكومة مدنية،” وعلينا بدلاً من ذلك أن نقول: “منقسمين نقف، متحدين نسقط”. في هذه الإشارة عبَّر جيفرسون باختصار كلاسيكي عن فكرته التي أصبحت تعتبر فكرة أمريكية بالأساس: الفصل بين الكنيسة والدولة. لم تكن الفكرة بأكملها فكرة جديدة؛ فقد كان لها بعض السوابق في كتابات سبينوزا، لوك وفلاسفة التنوير الأوروبي. لقد حدث هذا في الولايات المتحدة حيث تم إعطاء المبدأ قوة القانون تدريجياً ولأول مرة، على مدى قرنين من الزمن أصبح الأمر واقعاً.
إذا كانت فكرة وجوب فصل الدين عن السياسة فكرة حديثة نسبياً – هي قديمة فقط ثلاثمائة سنة – فإن فكرة أنهما متميزان تعود إلى بدايات المسيحية. والمسيحيون ملزمون في كتبهم المقدسة بأن “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه.” في حين تختلف الآراء فيما يخص المعنى الحقيقي لهذه العبارة، فقد تم تفسيرها بشكل عام على أنها إضفاء الشرعية على الحالة التي توجد فيها مؤسستان جنباً إلى جنب، كل مؤسسة منهما لها قانونها وسلسلة السلطة، واحدة مرتبطة بالدين وتسمى كنيسة، والأخرى مرتبطة بالسياسة وتسمى دولة. وبما أنهما مؤسستان اثنتان، فيمكن أن تتحدا ويمكن أن تنفصلا، ويمكن أن تعتمد الواحدة على الأخرى ويمكن أن تصبحا مستقلتين عن بعضهما البعض. يمكن أيضاً أن ينشأ بينهما صراعٌ حول مسائل الترسيم والولاية القضائية.
تنشأ هذه الصيغة للمشاكل التي تطرحها العلاقات بين الدين والسياسة، والحلول الممكنة لتلك المشاكل، عن المبادئ والخبرات المسيحية، وليس العالمية. هناك تقاليد دينية أخرى يُنْظَرُ فيها إلى الدين والسياسة بشكل مختلف، وبالتالي، فإن المشاكل والحلول الممكنة تختلف جذرياً عن تلك التي نعرفها في الغرب.
معظم هذه التقاليد – على الرغم من ارتفاعها في كثير من الأحيان إلى مستوى عال من التطور والإنجاز– بقيت أو أصبحت محدودة محلياً إلى منطقة واحدة أو ثقافة واحدة أو شعب واحد. إلا أن هناك ديناً، في توزيعه على نطاق العالم، له حيويته المتواصلة، وطموحاته العالمية، يمكن مقارنته بالمسيحية، وهذا الدين هو الإسلام. الإسلام هو واحدٌ من الأديان العظيمة في العالم. سأكون صريحاً فيما أعني بذلك كوني مؤرخاً للإسلام رغم أني غير مسلم.
لقد جلب الإسلام الراحة والطمأنينة للبال لملايين لا تحصى من الرجال والنساء. كما أعطى الكرامة والمعنى للحياة البائسة والفقيرة. لقد علّم الناس من مختلف الأعراق أن يعيشوا في مؤاخاةٍ والناس من مختلف المذاهب أن يعيشوا مع بعض جنباً إلى جنب في تسامح معقول.
انبثقت عن الإسلام حضارة عظيمة عاش فيها الآخرون إلى جانب المسلمين حياةً خلاقةً ومفيدةً، والتي أغنت، من خلال إنجازها، العالم كله. ولكن الإسلام، شأنه شأن الديانات الأخرى، عرف أيضاً فترات أوحى فيها لبعض أتباعه بمزاج الكراهية والعنف. ومما يؤسفنا أن جزءاً من العالم الإسلامي، إن لم يكن بأي حال من الأحوال كله بل وحتى معظمه، يمر الآن بمثل هذه الفترة: الكثير من تلك الكراهية موجهةُ ضدنا.
علينا ألا نبالغ في أبعاد هذه المشكلة. العالم الإسلامي غارق بالإجماع في رفضه للغرب، كما أن المناطق الإسلامية في العالم الثالث كانت الأكثر عاطفية والأشد تطرفاً في عدائهم. ولا تزال هناك أعداد كبيرة من المسلمين – في بعض الأوساط ربما يكونون الأغلبية – الذين نتشاطر معهم بعض التطلعات والمعتقدات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية؛ لا زال يوجد كيان غربي مفروض – ثقافي، اقتصادي، ديبلوماسي– في العالم الإسلامي بعضهم من الحلفاء الغربيين. من المؤكد أن السياسة الأمريكية لم تعانِ في أي مكان من العالم الإسلامي من الكوارث ولم تواجه مشاكل كما عانت وواجهت في جنوب آسيا أو أمريكا الوسطى. فليس هناك كوبا ولا فيتنام في العالم الإسلامي ولا يوجد مكان تورطت فيه القوات الأمريكية كمقاتلين ولا حتى “مستشارين”. لكنْ، يوجد ليبيا، إيران، ولبنان، وطفرة مزعجة من الكراهية، تحذيرات وقبل كل ما سبق يوجد أمريكيون مرتبكون.
في بعض الأحيان تتجاوز هذه الكراهية العداء من أجل مصالح أو إجراءات أو سياسات أو حتى بلدان محددة. يمكن أيضاً لهذه الكراهية أن تصبح رفضاً صارخاً للحضارة الغربية في حد ذاتها: ليس فقط ما تفعله، بل ما هي عليه، والمبادئ والقيم التي تمارسها وتؤمن بها. في الواقع، يُنظر إلى هؤلاء على أنهم الشر الفطري، وإلى أولئك الذين يروجون لهم أو يقبلون بهم على أنهم “أعداء الله”.
يجب أن تبدو هذه العبارة، التي تظهر بشكل متكرر في لغة القيادة الإيرانية، في كل من إجراءاتها القضائية وتصريحاتها السياسية، غريبةً جدًا بالنسبة للخارج الحديث، سواء أكان دينياً أو علمانياً. إن فكرة أن ثمة أعداء لله، وأن الله يحتاج إلى مساعدة الإنسان من أجل تحديدهم والتخلص منهم، غريبة ومن الصعب استيعابها. مع ذلك فإن هذه الفكرة ليس بذلك القدر من الغرابة. إن مفهوم أعداء الله مألوف في العصور القديمة والكلاسيكية القديمة، وفي كل من العهدين القديم والجديد، وكذلك في القرآن الكريم. لقد ظهرت نسخة ذات صلة بالفكرة في الديانات المزدوجة لإيران القديمة، تقول إن نشأة الكون تفترض اثنتين من القوى العليا، وليس فقط واحدة. الشيطان الزرادشتي، على عكس الشيطان المسيحي أو المسلم أو اليهودي، ليس واحدا من مخلوقات الله التي تؤدي بعض مهام الله الأكثر غموضاً، بل هو قوة مستقلة. إنه قوة عليا من الشر تشارك في صراع كوني ضد الله.
أثّر هذا الاعتقاد على عدد من الطوائف المسيحية والمسلمة واليهودية، من خلال المانوية وغيرها. لقد أعطى دين المانيتشيسية المنسي تقريباً من اسمه إلى تصور المشاكل باعتبارها صراعا صارخا وبسيطا بين مطابقة قوى الخير وقوى الشر. يسلك القرآن المنهج التوحيدي، إذ يدعو لإله واحد، قوة عليا واحدة فقط. يوجد صراع في قلوب الناس بين الخير والشر، بين وصايا الله وبين المغريات. لكن يبدو أن هذا الصراع مقدر من عند الله، ونتيجته مقدرة مسبقاً من عند الله، فهو بمثابة امتحان للبشر، على خلاف ما هو عليه في الأديان المزدوجة القديمة. إنه صراع تلعب فيه البشرية دوراً حاسماً في تحقيق انتصار الخير على الشر. وعلى الرغم من هذا التوحيد، فقد تأثر الإسلام مثله مثل اليهودية والمسيحية في مراحل مختلفة وخاصة في إيران بالفكرة المزدوجة للصراع الكوني للخير والشر، للضوء والظلام، للنظام والفوضى، للحق والباطل، لله والخصم – الخصم المعروف باسم الشيطان، إبليس وبأسماء أخرى.
ظهور بيت الكفر
في الإسلام، اتخذ الصراع بين الخير والشر في وقت مبكر جداً أبعاداً سياسية وحتى عسكرية. فمحمد، على سبيل الذكر، لم يكن نبياً ومعلماً فحسب، مثل مؤسسي الديانات الأخرى، بل كان رئيساً لحكومة ومجتمع وجيش وكان أيضاً جندياً. ومن هذا المنطلق، كان صراعه صراع دولة بقواها المسلحة. فإذا كان المقاتلون يخوضون الحرب من أجل الإسلام، حرباً مقدسةً “في سبيل الله” ويقاتلون من أجل الله، فإن خصومهم يقاتلون ضد الله. وبما أن الله هو السيادة من حيث المبدأ، وهو الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية، والنبي وخلفاء النبي هم نوابه، فإن الجيش لهذا السبب هو جيش الله والعدو هو عدو الله. واجب جنود الله إذاً هو إرسال أعداء الله في أسرع وقت ممكن إلى المكان الذي سيعذبهم الله فيه – الدار الآخرة.
من الواضح أن هذا هو التقسيم الأساسي للبشرية كما يتصوره الإسلام. تملك معظم المجتمعات البشرية، وربما كلها، طريقة للتمييز بينها وبين الآخرين: الداخلون والخارجون، من داخل المجموعة ومن خارجها، قريب أو جار، أو أجنبي. هذه التعريفات لا تُعَرّف فقط الخارج ولكن أيضاً، وربما أكثر تحديداً، تساعد على تعريف وتوضيح تصورنا لأنفسنا.
من وجهة نظر إسلامية، والتي بدأ معظم المسلمين الرجوع إليها، ينقسم العالم وكل البشرية إلى قسمين: الأول، بيت الإسلام، حيث يهيمن قانون المسلمين وإيمانهم، والثاني، والمعروف باسم بيت الكفر أو بيت الحرب، ومن واجب المسلم أن يدعوه للإسلام. لكن، لازال القسم الأكبر من العالم خارج الإسلام، حتى داخل الأراضي الإسلامية. وفقاً لآراء المسلمين السلفيين، فقد تم تقويض الإسلام كما تم إلغاء قانون الإسلام. لهذا السبب، يبدأ الالتزام بالحرب المقدسة من الداخل وينتهي خارجاً، ضد هذا العدو الكافر نفسه. مثل كل حضارة أخرى معروفة بالتاريخ البشري، رأى العالم الإسلامي نفسه، وهو في ذروته، مركزاً للحقيقة والتنوير، محاطاً ببرابرة كافرين كانوا في الوقت المناسب ينيرون ويتحضرون. لكن، كان يوجد اختلاف حاسم بين هذه المجموعات البربرية المختلفة.
كان برابرة الشرق والجنوب مشركين ومثقفين، ولا يشكلون أي تهديد خطير ولا ينافسون الإسلام على الإطلاق. أما في الشمال والغرب، في المقابل، اعترف المسلمون منذ تاريخ مبكر بمنافس حقيقي – دين عالمي منافس، حضارة مميزة مستوحاة من هذا الدين، وإمبراطورية لم تكن أقل طموحاً في مطالباتها وتطلعاتها، على الرغم من أنها أصغر بكثير من دينهم. هذا هو الكيان المعروف لنفسه وللآخرين بالمسيحية، وهو مصطلح كان لفترة طويلة متطابقاً تقريباً مع أوروبا.
استمر الصراع بين هذه الأنظمة المتنافسة الآن نحو أربعة عشر قرناً، بدأ مع مجيء الإسلام، واستمر عملياً حتى هذه الأيام. تألف هذا الصراع من سلسلة طويلة من الهجمات والهجمات المضادة والجهاد والحملات الصليبية والفتوحات واستعادة المناطق المفقودة. في الألف الأولى من عمره، كان الإسلام يتمدد، بينما كانت المسيحية تتراجع وكانت واقعة تحت التهديد. احتل الإيمان الجديد الأراضي المسيحية القديمة في بلاد الشام وشمال أفريقيا، وغزا أوروبا، وحكم لفترة من الوقت في صقلية وإسبانيا والبرتغال وحتى أجزاء من فرنسا. باءت محاولات الصليبيين في استعادة الأراضي المفقودة في الشرق بالفشل، وحتى خسارة المسلمين في جنوب غرب أوروبا إلى ريكونيستا تم تعويضها بشكل كاف عن طريق التقدم الإسلامي إلى جنوب شرق أوروبا، والتي ضاعفت المسافة إلى فيينا. في الثلاثمائة سنة الأخيرة، منذ فشل الحصار التركي الثاني لفيينا عام 1683 وصعود الإمبراطوريات الاستعمارية في آسيا وأفريقية، كان الإسلام في موقع الدفاع، بينما جلبت حضارة أوروبا المسيحية وما بعد المسيحية وبناتها العالم كله، بما فيه الإسلام، إلى مداره.
منذ زمن طويل، كان هناك تيار متصاعد من التمرد ضد هذه الغلبة الغربية، والرغبة في إعادة تأكيد القيم الإسلامية واستعادة العظمة الإسلامية. لقد عانى المسلم من مراحل متتالية من الهزيمة. المرحلة الأولى كانت فقدانه للهيمنة في العالم، بينما كانت قوة روسيا والغرب في تقدم ملحوظ. المرحلة الثانية هي تقويض سلطة المسلم في بلده، من خلال غزو الأفكار والقوانين الأجنبية وطرق الحياة، بل وحتى في بعض الأحيان غزو الحكام الأجانب أو المستوطنين، وحرمان السكان الأصليين غير المسلمين من حق الانتخاب. أما المرحلة الثالثة، وهي القشة التي قسمت ظهر البعير، فهي التحدي الذي يواجهه داخل بيته الخاص المتلخص في نسائه المتحررات وأولاده المتمردين. كان الأمر قاسياً جداً عليه بحيث أنه لم يكن قادراً على التحمل. لقد كان اندلاع غضبه ضد هذه القوى الغريبة، الكافرة وغير المفهومة والتي قللت من هيبته وأفسدت مجتمعه، وانتهكت حرمة منزله، أمراً حتمي الحدوث. كان من الطبيعي أيضاً أن يكون هذا الغضب موجهاً في المقام الأول ضد عدوٍ عمره ألف عام، وينبغي أن يستمد قوته من المعتقدات والولاءات القديمة.
أوروبا وبناتها؟ قد تبدو العبارة غريبة بالنسبة للأميركيين الذين عَرَّفَتْ أساطيرهم الوطنية منذ بداية دولتهم وحتى قبلها هويتَهم في معارضة أوروبا، كشيء جديد ومختلف جذريا عن الطرق الأوروبية القديمة. بيد أن هذه ليست هي الطريقة التي شاهدها الآخرون؛ ليس في كثير من الأحيان في أوروبا، وبالكاد في أي مكان آخر. على الرغم من أن الناس من الأعراق والثقافات الأخرى شاركوا – في معظم الأحيان لا إرادياً – في اكتشاف وخلق الأميركيتين، فقد أصبحت الأميركيتان مؤسسة أوروبية؛ فالأوروبيون هم من هيمنوا عليهما وهم من منحوهما لغتهم، ودياناتهم، والكثير من طريقتهم في الحياة.
كانت الهجرة الاختيارية إلى أميركا ولفترة طويلة من الزمن محصورة على الغالب بالأوروبيين. كان يوجد بالتأكيد أشخاصٌ جاؤوا من الأراضي الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن القليل منهم من كانوا مسلمين؛ لقد كان معظمهم ممن ينتمون إلى المسيحية وإلى درجة أقل للأقليات اليهودية في هذه البلدان. لابد وأن هجرتهم إلى أميركا، ووجودهم اللاحق هناك قد أصبحا أقوى بدلاً من تقليص الصورة الأوروبية لأميركا في عيون المسلمين.
في بلاد المسلمين، لم يكن يعرف المسلمون الكثير عن أمريكا. في البداية، أثارت رحلات الاستكشاف بعض الاهتمام؛ النسخة المتبقية الوحيدة لخارطة كولومبس الخاصة هي ترجمة تركية محفوظةٌ حتى الآن في متحف قصر طوب قابي في إستانبول. كان كتاب تاريخ الهند الغربية واحداً من أوائل الكتب التي طبعت في تركيا وهو تقرير لأحد الجغرافيين الأتراك من القرن السادس عشر عن استكشاف العالم الجديد.
ولكن يبدو أن الفائدة بعد ذلك قد تضاءلت، إذ لم يُذْكَر الكثير عن أمريكا باللغات التركية أو العربية أو غيرها من اللغات الإسلامية حتى وقت متأخر نسبياً. كتب سفيرٌ مغربي كان في إسبانيا في ذلك الوقت ما يجب أن يكون بالتأكيد رأي العربي الأول بالثورة الأمريكية. وقع السلطان المغربي معاهدة سلام وصداقة مع الولايات المتحدة عام 1787، وبعد ذلك كانت الجمهورية الجديدة تتعامل مع بعض الدول الإسلامية الأخرى، بعلاقات طيبة أحياناً وبمعاداة أحياناً أخرى. وكانت معظم التعاملات الودودة معاملات تجارية. ويبدو أن هذه التأثيرات لم يكن لها أثر يذكر على أي من الجانبين. لقد استغرقت الثورة الأمريكية والجمهوريات الأمريكية التي أنجبتها وقتاً طويلاً بدون أن يلاحظها أحد، حيث ظلت طوال هذه الفترة غير معروفة. حتى الوجود الأمريكي الصغير والمتنامي في الأراضي الإسلامية في القرن التاسع عشر – التجار والقناصل والمبشرين والمعلمين – أثار فضولاً ضئيلاً أو معدوماً لا يكاد يذكر في الأدب والصحف الإسلامية في ذلك الوقت.
جلبت كل من الحرب العالمية الثانية، الصناعات النفطية، وتطورات ما بعد الحرب الكثير من الأمريكان إلى الأراضي الإسلامية؛ كما تزايدت أعداد المسلمين القادمين إلى أمريكا؛ في البداية جاء الطلاب، ثم جاء المعلمون ورجال الأعمال، ثم جاء غيرهم إلى أن جاء المهاجرون أخيراً. جلبت السينما، ولاحقاً التلفزيون، أسلوب حياة الأمريكيين، أو على الأقل أوجهاً معينة من حياتهم، لملايين لا تحصى من المسلمين الذين لم يكن اسم أمريكا من قبل يعني شيئاً لهم أبداً.
وصلت مجموعة واسعة من المنتجات الأمريكية – وخاصة في السنوات التي تلت الحرب مباشرة، عندما تم القضاء على المنافسة الأوروبية تقريباً والمنافسة اليابانية لم تكن قد نشأت بعد – وصلت إلى الأسواق النائية في العالم الإسلامي، فحازت على عملاء جدد، وربما الأهم من ذلك، أصبحت صانعة أذواق وطموحات جديدة. وبالنسبة للبعض، تمثل أمريكا الحرية والعدالة والفرص. وبالنسبة للكثيرين، تمثل الثروة والسلطة والنجاح، في وقت لم تكن فيه هذه الصفات تعتبر خطايا أو جرائم.
جاء التغيير الأعظم بعد ذلك، حيث سعى قادة الإحياء الديني واسع النطاق إلى تحديد أعدائهم وتمييزهم على أنهم أعداء الله، فأعطوهم “اسماً وموطناً محلياً” في النصف الغربي من الكرة الأرضية. فجأةً، أو أنه بدا أمراً مفاجئاً، أصبحت أمريكا هي العدو، هي تجسيد الشر، وهي الخصم الشيطاني لكل ما هو جيد، وعلى وجه التحديد، للمسلمين والإسلام. لماذا؟
اتهاماتٌ مألوفة
كانت بعض المؤثرات الفكرية القادمة من أوروبا من بين الأسباب التي أثرت في أمزجة المعادين للغرب، وخاصة أمريكا. جاءت إحدى هذه المؤثرات من ألمانيا، حيث شكّلت وجهةُ نظر سلبية تجاه أمريكا مدرسةً فكرية لم تقتصر بأي حال من الأحوال على النازيين، بل ضمّت كُتّاباً على سبيل التنويع مثل رينر ماريا رايلك، إيرنست جونكر ومارتن هيدجر. من هذا المنظور، كانت أميركا المثال الأقوى لحضارة عديمة الثقافة: غنية ومريحة ومتقدمة مادياً ولكنها مصطنعة وبلا روح؛ مجمعة تجميعاً وفي أفضل الأحوال تم بناؤها فهي لم تنمُ؛ ميكانيكية وليست عضوية؛ معقدة من الناحية التكنولوجية لكنها تفتقر إلى روحانيةِ وحيويةِ الثقافات الإنسانية والوطنية المتجذرة عند الألمان وغيرهم من الشعوب “الأصيلة”. تتمتع الفلسفة الألمانية، ولا سيما فلسفة التعليم، برواج كبير بين العرب والمثقفين المسلمين الآخرين في الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، وكانت هذه المناهضة الأميركية الفلسفية جزءاً من الرسالة.
بعد سقوط الرايخ الثالث وتأثير نهاية الألمان المؤقتة، ظهرت فلسفة أخرى أكثر عداء للأمريكيين لتحل محل الفلسفة الألمانية. تتمثل هذه الفلسفة بالنسخة السوفييتية للماركسية، التي تستنكر الرأسمالية الغربية وتحديداً الأمريكية باعتبارها الأكثر تقدماً والأخطر تجسيداً للرأسمالية. عندما بدأ التأثير السوفييتي بالتراجع، كان هناك تأثيرٌ آخر ليحل محله، أو على الأقل ليكمل ما بدأه التأثير السوفييتي – السحر الجديد للعولمة الثالثة المنبثق عن أوروبا الغربية وخاصةً فرنسا، ولاحقاً من الولايات المتحدة، والذي يقوم بالرسم أحياناً على كلٍّ من الفلسفتين السابقتين. لقد ساعد هذا السحر كلٌّ من الاتجاه البشري العالمي لاختراع عصرٍ ذهبي في الماضي والنزعة الأوروبية على وجه الخصوص لتحديد مكانه في مكان آخر.
هناك نوع جديد من أسطورة العصر الذهبي القديم تم وضعه في العالم الثالث، حيث تم تدمير براءة آدم وحواء غير الغربيين من قبل الثعبان الغربي. وكان هذا الرأي بديهياً لخير ونقاء الشرق ولشر الغرب، وتوسع في منحنى قوي من الشر من أوروبا الغربية إلى الولايات المتحدة. تكرست هذه الأفكار أيضاً على أرض خصبة، وحظيت بتأييد واسع النطاق.
لكن على الرغم من أن هذه الفلسفات المستوردة ساعدت على توفير التعبير الفكري لمعاداة الغرب ومعاداة الولايات المتحدة، إلا أنها لم تسبب ذلك، ومن المؤكد أنها لا تفسر انتشار معاداة الغرب الذي جعل الكثيرين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم الإسلامي يتقبلون هذه الأفكار.
يجب أن يكون واضحاً بالتأكيد أن ما حصل من دعم لمثل هذه المذاهب المتنوعة تماماً لم يكن نظرية العرق النازية، التي كان يمكن أن تتجسد في القليل من النداء للعرب، أو الشيوعية السوفييتية، التي كان يمكن أن تتجسد في القليل من النداء للمسلمين، بل بالأحرى معاداتهم للغرب. كانت النازية والشيوعية القوى الرئيسة التي تعارض الغرب، كطريقة للحياة وكقوة في العالم، وبالتالي فإنها يمكن أن تعول على الأقل على تعاطف إن لم يكن دعم من رأوا في الغرب على أنه العدو.
لكن، لماذا العداء في المقام الأول؟
إذا انتقلنا من العام إلى ما هو محدد، فليس هناك نقص في السياسات والإجراءات الفردية التي اتبعتها وأخذتها الحكومات الغربية الفردية، والتي أثارت غضباً شعبياً في الشرق الأوسط وشعوب إسلامية أخرى. ولكن في كثير من الأحيان، عندما يتم التخلي عن هذه السياسات والمشاكل المحلولة، لا يوجد سوى تخفيف محلي ومؤقت.
غادر الفرنسيون الجزائر والبريطانيون مصر وتركت شركات النفط الغربية آبار النفط، وغادر الشاه الغربي إيران، إلا أن الاستياء العام للأصوليين وغيرهم من المتطرفين ضد الغرب وأصدقائه لا يزال موجوداً بل وينمو ولا يمكن إرضاؤه.
أما السبب الأكثر شيوعاً للشعور المناهض للولايات المتحدة بين المسلمين اليوم هو الدعم الأمريكي لإسرائيل. ومن المؤكد أن هذا الدعم عامل ذو أهمية، وهو يزداد مع التقارب والمشاركة. ولكن يوجد هنا مرة أخرى بعض الغرائب، والي يصعب تفسيرها بإرجاعها إلى سبب واحدٍ وبسيط.
في الأيام الأولى من تأسيس دولة إسرائيل، حافظت الولايات المتحدة على مسافة معينة، بينما منحها الاتحاد السوفييتي الاعتراف والدعم القانونيين، فساهمت أسلحتها المرسلة من بلد تابع لهم، وهو تشيكوسلوفاكيا، في إنقاذ الدولة الرضيع إسرائيل من الهزيمة والموت في الأسابيع الأولى من حياته. ومع ذلك يبدو أنه لم يكن هناك أي إرادة مريضة كبيرة تجاه السوفييت لهذه السياسات، ولا توجد إرادة جيدة مناظرة تجاه الولايات المتحدة. في عام 1956 تدخلت الولايات المتحدة بقوة وحسم لضمان انسحاب القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية من مصر، ولكن في أواخر الخمسينيات والستينيات تحول حكام مصر، سوريا، العراق، ودول أخرى للسوفييت وليس لأمريكا للحصول على السلاح؛ لقد شكل هؤلاء الحكام مع الكتلة السوفييتية روابط التضامن في الأمم المتحدة وفي العالم عموماً. وفي الآونة الأخيرة، قام حكام جمهورية إيران الإسلامية بإدانة إسرائيل والصهيونية بشكل أكبر من غيرها من الدول الأخرى من حيث المبدأ وبدون تهاون.
ولكن حتى هؤلاء القادة، قبل وبعد وفاة آية الله روح الله الخميني، عندما قرروا لأسباب خاصة بهم الدخول في حوار من نوع خاص، وجدوا أنه من الأسهل لهم التحدث إلى القدس من التحدث إلى واشنطن. وفي الوقت نفسه، يُنْظَرُ إلى الرهائن الغربيين في لبنان ويعاملون من قبل خاطفيهم كأطراف للشيطان الأكبر، حيث اختُطِفَ الكثير منهم لقضايا عربية وبعضهم لقضايا تخص الإسلام. هناك تفسير آخر، سمعناه على الأغلب من قبل المسلمين المعارضين، يعزو الشعور المناهض للولايات المتحدة إلى الدعم الأمريكي لأنظمة مكروهة، والتي ينظر إليها المتطرفون على أنها رجعية، ويعرقلها المحافظون على أنها كافرة، وينظر إليها كلٌّ من المتطرفين والمحافظين على أنها فاسدة واستبدادية في نفس الوقت. يمكن القول إن هذا الاتهام مقبول على الأقل ظاهرياً، فمن الممكن أن يساعد على تفسير لماذا يجب أن ينقلب التحرك الموجه داخلياً بشكل أساسي، والمناهض في كثير من الأحيان للقومية على أي قوة أجنبية. إلا أن ذلك لا يكفي، خاصة وأن دعم مثل هذه الأنظمة كان محدوداً سواء في المدى أو – كما اكتشف الشاه – في فعاليته.
ومن الواضح أن هناك شيئاً أعمق من هذه المظالم المحددة، الكثيرة والمهمة كما يبدو – شيئاً أعمق يحوّل كل خلاف إلى مشكلة لا يمكن حلها. هذا الانتكاس ضد أمريكا، وبشكل أعم ضد الغرب، لا يقتصر بأي حال على العالم الإسلامي؛ كما لم يشهد المسلمون، باستثناء الملالي الإيرانيين وتلاميذهم في أماكن أخرى، الأشكال الأكثر شراسة لهذا الشعور. لقد أثر مزاج خيبة الأمل والعداء على أجزاء أخرى كثيرة من العالم، بل إنه وصل إلى بعض العناصر في الولايات المتحدة.
من هذه الأخيرة، وبينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم، ويدّعون أنهم يتكلمون عن شعوب العالم الثالث المضطهدة، كانت أكثر التفسيرات والمبررات انتشاراً على نطاق واسع لهذا الرفض للحضارة الغربية وقيمها قد عرفت في وقت متأخر.
إن هذه الاتهامات مألوفة. فنحن دوناً عن الغرب مُتَّهَمون بالتحيز الجنسي والعنصرية والإمبريالية، وبأننا غارقون في النظام الأبوي والرق والاستبداد والاستغلال. ليس لدينا خيار أمام هذه التهم التي يعتبرها الآخرون تهماً شنيعةً سوى أن نعترف بالذنب – ليس كأمريكيين – ولا حتى كغربيين، بل كبشر، كأعضاء في الجنس البشري. نحن لسنا الوحيدين الذين أخطأنا في أي من هذه الخطايا، كما أننا بعيدون جداً عن كوننا الأسوأ في ارتكاب بعض هذه الخطايا. إن معاملة النساء في العالم الغربي، وبشكل عام في المسيحية، كانت دائما غير متكافئة وكثيراً ما تكون قمعية، ولكن حتى في أسوأها كانت أفضل من فكرتي تعدد الزوجات والزواج غير الشرعي.
هل العنصرية، إذن، هي التظلم الرئيسي؟ من المؤكد أن الكلمة تظهر بشكل بارز في الدعاية الموجهة إلى الغرب، وأوروبا الشرقية، وبعض جماهير العالم الثالث. وهي تظهر بشكلٍ أقل وضوحاً فيما هو مكتوب ومنشور للاستهلاك المنزلي، إذ أصبحت مصطلحاً مُعَمَّماً لا معنىً له من الإساءة، وليس مثل “الفاشية”، وهو ما يُعزى في الوقت الحاضر إلى كلٍّ من المعارضين حتى من قبل متحدثين عن حزب واحد، والديكتاتوريات القومية من مختلف الأشكال والألوان.
يُشجَب الرق اليوم عالمياً باعتباره جريمة ضد الإنسانية، ولكن في الذاكرة الحية كان يمارس، بل ويتم الدفاع عنه كمؤسسة ضرورية، أنشأها ونظّمها القانون الإلهي. لا تكمن خصوصية المؤسسة الغريبة، كما أسماها الأمريكيون في وقتٍ سابق، في وجودها ولكن في إلغائها. كان الغربيون أول من كسر التوافق في الآراء، وحظر الرق، أولا في المنزل، ثم في المناطق الأخرى التي يسيطرون عليها، وأخيراً في أي مكانٍ من العالم كانوا قادرين على ممارسة السلطة أو النفوذ فيه – بكلمة، عن طريق الإمبريالية.
هل الإمبريالية، إذن، هي التظلم؟ بعض القوى الغربية، أي الحضارة الغربية ككل، كانت بالتأكيد مذنبة بالإمبريالية، ولكن هل علينا أن نعتقد حقاً أنه في توسع أوروبا الغربية كان هناك نوعٌ من الانحراف الأخلاقي يفتقر إلى مثل هذه التوسعات البريئة نسبياً في وقت سابق مثل توسعات العرب أو المغول أو العثمانيين، أو في التوسعات الأخيرة مثل تلك التي جلبت حكام مسكوفي إلى بحر البلطيق والبحر الأسود وقزوين وهندو كوش والمحيط الهادئ؟
بعد ممارسة الجنس والتحيز والعنصرية، كان الغرب يتبع مجرد الممارسة الشائعة للبشرية خلال آلاف السنين من التاريخ المسجل. فحيث تكون الإمبريالية متميزة عن جميع الحضارات الأخرى فهي بهذا قد تم تمييزها، تسميتها وتجريبها، ليس تماما دون نجاح، لعلاج هذه الأمراض التاريخية. وهذه بالتأكيد مسألة تهنئة وليست إدانة.
نحن لا نحتكر العلوم الطبية الغربية بشكل عام، ولا نحتكر الدكتور باركنسون والدكتور الزهايمر على وجه الخصوص، المسؤولين عن الأمراض التي قاما بتشخيصها فأعطياها اسميهما. من بين كل هذه الجرائم، جريمةٌ يتم غالباً التنديد بها على نطاق واسع، وبشكل متكرر وبشدة، وهي بلا شك الإمبريالية – في بعض الأحيان الإمبريالية الغربية فقط، وأحيانا الإمبريالية الشرقية (أي السوفييتية) والغربية على حد سواء. لكن الطريقة التي يستخدم بها هذا المصطلح في أدب الأصوليين الإسلاميين غالباً ما تشير إلى أنه قد لا يحمل نفس المعنى بالنسبة لهم مثل منتقديها الغربيين.
في كثير من هذه الكتابات، يعطى مصطلح “الإمبريالية” أهمية دينية واضحة، كونه يستخدم في الارتباط، وأحيانا بالتبادل مع “التبشيري”، ويشير إلى شكل من أشكال الهجوم الذي يشمل الحروب الصليبية والإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة أيضاً. في بعض الأحيان يتكون لدى المرء الانطباع بأن جريمة الإمبريالية ليست – كما بالنسبة للنقاد الغربيين – هيمنة من قبل شعب على شعبٍ آخر بل هي توزيع الأدوار في هذه العلاقة. ما هو شرٌ حقا وغير مقبول هو هيمنة الكفار على المؤمنين الحقيقيين. فبالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، أن يحكموا الكافرين أمر طبيعي واعتيادي، لأن هذا ينص على الحفاظ على القانون المقدس، ويعطي المؤمنين كل من الفرصة والحوافز لاحتضان الإيمان الحقيقي. ولكن بالنسبة للكافرين أن يحكموا المؤمنين الحقيقيين فإنه أمر تجديفي وغير طبيعي، لأنه يؤدي إلى فساد الدين والأخلاق في المجتمع، والتهرب من قانون الله أو حتى إلغائه. وهذا قد يساعدنا على فهم المشاكل الحالية في أماكن متنوعة مثل إريتريا الإثيوبية، وكشمير الهندية، وسينكيانغ الصينية، ويوغوسلافية كوسوفو، التي يُحْكَمُ فيها السكان المسلمون من قبل حكومات غير مسلمة. وقد يفسر أيضاً السبب في أن المتحدثين باسم الأقليات الإسلامية الجديدة في أوروبا الغربية يطالبون بالإسلام بدرجة من الحماية القانونية التي لم تعد تلك البلدان تعطيها للمسيحية ولم تُعْطَ لليهودية أبداً.
وبطبيعة الحال، لم تقدم حكومات بلدان منشأ هؤلاء المتحدثين المسلمين مثل هذه الحماية للأديان الأخرى غير دينهم. في تصورهم، ليس هناك تناقض في هذه المواقف. يجب أن تتم حماية الإيمان الحقيقي، استناداً إلى وحي الله الأخير، من الإهانة وإساءة المعاملة. أما الأديان الأخرى، سواء كانت كاذبة أو غير كاملة، فلا تملك الحق في أي حماية من هذا القبيل. هناك صعوبات أخرى في طريق قبول الإمبريالية كتفسيرٍ للعداء الإسلامي، حتى لو عرَّفْنا الإمبريالية بشكل ضيق وتحديداً على أنه غزوٌ وهيمنةٌ على الدول الإسلامية من قبل غير المسلمين. إذا كان العداء موجها ضد الإمبريالية بهذا المعنى، فلماذا كان أقوى بكثير في معاداته لأوروبا الغربية التي تخلت عن جميع ممتلكاتها وتبعاتها الإسلامية، من معاداته لروسيا التي لا تزال تحكم، دون أن يكون لها أدنى سلطة، على عدة ملايين من المترددين المسلمين والمدن والبلدان الإسلامية القديمة؟ لماذا ينبغي أن يشمل العداء الولايات المتحدة، التي لم تحكم قط أي سكان مسلمين، باستثناء فترة وجيزة في منطقة الأقلية المسلمة في الفلبين؟
كانت آخر إمبراطورية أوروبية على قيد الحياة مع مواطنين مسلمين، ينتمون للاتحاد السوفييتي، بعيداً عن كونها هدفاً للنقد والهجوم، مستثناة تقريباً. حتى أن آخر قمع للثورات الإسلامية في جمهوريات جنوب ووسط آسيا من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية لم يتكبد أكثر من كلمات خفيفة نسبياً من الاتهامات، إلى جانب التنصل من أي رغبة للتدخل فيما يسمى بـ “الشؤون الداخلية” للاتحاد السوفييتي وطلب الحفاظ على النظام والهدوء على الحدود.
يكمن أحد أسباب هذا التقييد المفاجئ إلى حد ما في طبيعة الأحداث في أذربيجان السوفييتية. من الواضح أن الإسلام عنصر هام وربما متزايد في الشعور الأذربيجاني بالهوية، ولكنه ليس عنصراً مهيمنا في الوقت الحاضر. يوجد قاسم مشترك في الواقع بين الحركة الأذربيجانية والوطنية الليبرالية في أوروبا أكثر من الأصولية الإسلامية. وهذه الحركة لن تثير تعاطف حكام الجمهورية الإسلامية. بل إنها قد تنذر بها، لأن دولة وطنية ديمقراطية حقيقية يديرها شعب أذربيجان السوفييتية ستمارس جاذبية قوية على أقاربها فورا إلى الجنوب في أذربيجان الإيرانية.
ثمة سبب آخر لهذا النقص النسبي في الاهتمام بالمسلمين البالغ عددهم 50 مليونا أو أكثر في ظل الحكم السوفييتي، قد يكون حسابا للمخاطر والفوائد. الاتحاد السوفييتي قريب، على طول الحدود الشمالية لتركيا وإيران وأفغانستان؛ بينما أمريكا بعيدة وحتى أوروبا الغربية كذلك. أكثر من ذلك، لم تكن حتى الآن ممارسة السوفييت لقمع الاضطرابات بمدفع المياه والرصاص المطاطي، بتغطية من كاميرات التلفزيون، أو الإفراج عن الأشخاص المقبوض عليهم بكفالة والسماح لهم بالوصول إلى وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. لا يقابل السوفييت أقسى النقاد في وقت الذروة، أو يغرونهم بالتدريس وإلقاء المحاضرات وكتابة التعاقدات. بل على العكس من ذلك، فإن طرقهم في التعبير عن الاستياء من الانتقاد غالباً ما تكون غير مقبولة على الإطلاق.
لكن الخوف من الأعمال الانتقامية، وإن كان لا شك فيه مهماً، ليس السبب الوحيد أو ربما السبب الرئيسي للمكان الثانوي نسبياً المحدد للاتحاد السوفياتي، بالمقارنة مع الغرب، في شيطنة الأصولية. بعد كل شيء، فإن التغيرات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية العظيمة التي حولت معظم العالم الإسلامي، والتي أدت إلى شجب هذه الشرور الغربية، كالاستهلاكية والعلمانية، خرجت من الغرب، وليس من الاتحاد السوفييتي. لا يمكن لأحد أن يتهم السوفييت بالنزعة الاستهلاكية؛ فالمذهب المادي هو الفلسفي – أن يكون دقيقا، جدلياً، ولديه القليل أو لا شيء للقيام به في الممارسة العملية مع توفير الأشياء الجيدة للحياة.
ويمثل هذا الحكم نوعاً آخر من المادية، غالباً ما يعرفه خصومه على أنه حكم صارم. وهو مرتبط بالغرب الرأسمالي وليس مع الشيوعية الشرقية، التي مارست، أو فرضت على الأقل على رعاياها، درجة من التقشف التي من شأنها التأثير على القديس الصوفي. لم يكن السوفييت، حتى وقت قريب جدا، عرضة للتهم العلمانية، أو غيرها من الاتهامات الأصولية الكبرى ضد الغرب. على الرغم من كونهم ملحدين، إلا أنهم لم يكونوا عدميين، لقد خلقوا في الواقع جهازاً حكومياً متقدماً لفرض عبادة آلهتهم – جهاز مع الأرثوذكسية الخاصة به، تسلسل هرمي لتحديده ووضعه قيد التنفيذ، ومحكمة تفتيش مسلحة للكشف عن الهرطقة واستخراجها.
إن فصل الدين عن الدولة لا يعني تكريس الكفر من قبل الدولة، بل لا يزال فرض الفلسفة المعادية للدين أقل قسراً. فالعلمانية السوفياتية، مثل الاستهلاك السوفياتي، لا تحمل أي إغراء للجماهير المسلمة، بل ينقصها ما تحتاجه لتوجهه للمثقفين المسلمين. أكثر من أي وقت مضى، فالرأسمالية الغربية والديمقراطية هما اللتان توفران بديلاً أصيلاً وجذاباً عن الطرق التقليدية للفكر والحياة. إن قادة الأصوليين ليسوا مخطئين في رؤية الحضارة الغربية على أنها أكبر تحدٍ لطريقة الحياة التي يرغبون في الاحتفاظ بها أو استعادتها لشعبهم.
صراع الحضارات
يمكن العثور على أصول العلمانية في الغرب في حالتين – في التعاليم المسيحية المبكرة، وأكثر من ذلك، في التجربة، التي خلقت مؤسستين، الكنيسة والدولة؛ وفي صراعات مسيحية لاحقة، الأمر الذي دفع الاثنين للانفصال. وكان للمسلمين أيضا خلافات دينية، ولكن لم يكن هناك شيء يقترب عن بعد من احتدام الصراعات المسيحية بين البروتستانت والكاثوليك، الذي دمر أوروبا المسيحية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأخيراً قاد المسيحيين البائسين لتطوير مبدأ الفصل بين الدين من الدولة. فقط عن طريق حرمان المؤسسات الدينية من السلطة القسرية، على ما يبدو، استطاعت المسيحية أن تقيد التعصب والاضطهاد القائمين اللذين قام المسيحيون باتباعهما على حساب أتباع الديانات الأخرى، والأهم من ذلك كله، على حساب أولئك الذين يعلنون عن أشكال أخرى خاصة بهم. لم يشهد المسلمون مثل هذه الحاجة ولم يرتقوا لمثل هذا المبدأ. لم تكن هناك حاجة للعلمانية في الإسلام، وحتى التعددية كانت مختلفة جداً عن تلك الإمبراطورية الرومانية الوثنية. لقد وصف إدوارد جيبون ذلك بشكل واضح من قبل عندما لاحظ أن “مختلف أساليب العبادة، التي سادت في العالم الروماني، كان الشعب يعتبرها كلها صحيحة أيضاً؛ لكن الفيلسوف يعتبرها كاذبة على حد سواء؛ والقاضي يعتبرها مفيدة على قدم المساواة “. لم يكن الإسلام مستعداً أبدا، إن كان من الناحية النظرية أو من الناحية العملية، لإعطاء المساواة الكاملة لأولئك الذين يحتفظون بمعتقدات أخرى ويمارسون أشكالاً أخرى من العبادة. ومع ذلك، فقد منح الإسلام أصحاب الحقيقة الجزئية درجة من التسامح العملي والنظري نادراً ما يتوازى في العالم المسيحي حتى اعتمد الغرب مقياس العلمانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
في البداية كانت الاستجابة الإسلامية للحضارة الغربية استجابةً فيها الكثير من الإعجاب والمضاهاة – احتراماً هائلاً لإنجازات الغرب، والرغبة في تقليدها واعتمادها. لقد نشأت هذه الرغبة من وعي قوي ومتزايد بضعف وفقر وتخلف العالم الإسلامي بالمقارنة مع الغرب المتقدم. وأصبح التفاوت الأول واضحاً في ساحة المعركة، لكنه سرعان ما انتشر إلى مجالات أخرى من النشاط البشري. لاحظ الكتاب المسلمون ووصفوا ثروة وقوة الغرب وعلمه وتكنولوجيته ومصنوعاته وأشكاله الحكومية. وللمرة الأولى وجد المسلمون أن سر النجاح الغربي يكمن في إنجازين: التقدم الاقتصادي وخاصة الصناعة؛ والمؤسسات السياسية وخاصة الحرية. حاولت عدة أجيال من الإصلاحيين والمحدثين التكيف مع هذين الإنجازين وإدخالهما إلى بلدانهم، على أمل أن يتمكنوا بذلك من تحقيق المساواة مع الغرب وربما استعادة تفوقهم المفقود.
في زماننا الحالي، أفسح هذا المزاج المتعلق بالإعجاب والمضاهاة، بين العديد من المسلمين، المجال للعداء والرفض. في جزء منه، فإن سبب هذا المزاج هو بالتأكيد الشعور بالإهانة – أي وجود وعيٍ متزايدٍ، بين ورثة الحضارة القديمة، الفخورة، وطويلة الهيمنة، بأنها أصبحت مقهورة، وتم تجاوزها بل وقد طغى عليها أولئك الذين اعتبروهم أدنى منزلةٍ منهم. يرجع هذا المزاج جزئياً إلى أحداث في العالم الغربي نفسه. ومن المؤكد أن أحد العوامل ذات الأهمية الكبرى هو أثر حربين انتحاريتين كبيرتين، حيث مزقت الحضارة الغربية نفسها، مما أدى إلى تدمير لا يمكن وصفه لشعوبها وشعوب أخرى، بذلت فيه الأطراف المتحاربة جهودا دعائية ضخمة في العالم الإسلامي وفي أماكن أخرى، لتقويض وتشويه سمعة بعضها البعض. لاقت الرسالة التي جلبوها العديد من المستمعين، الذين كانوا أكثر استعدادا للرد في أن تجربتهم الخاصة من الطرق الغربية لم تكن سعيدة.
لقد جلب إدخال الأساليب التجارية والصناعية الغربية بالفعل ثروة كبيرة، ولكنه استفاد من زرع الغربيين وأفراد الأقليات الغربية، وعدد قليل فقط من السكان المسلمين. في الوقت الذي أصبح عدد قليل منهم أكثر عدداً، لكنهم ظلوا معزولين عن الجماهير، ومختلفين عنهم حتى في لباسهم وأسلوب حياتهم. وكان لا بد من اعتبارهم عاملين ومتعاونين مع ما اعتبر مرة أخرى عالم معاد. وفقدت المؤسسات السياسية التي جاءت من الغرب مصداقيتها، حيث تم الحكم عليها ليس من قبل أصولها الغربية ولكن من خلال التقليد المحلي، وتم تثبيتها من قبل الإصلاحيين المسلمين المتحمسين. كانت هذه العمليات، التي تعمل في حالة خارجة عن إرادتها، باستخدام أساليب مستوردة وغير مناسبة لم يتم فهمها بالكامل، غير قادرة على مواجهة الأزمات السريعة النمو، فتم إطاحتها واحدة تلو الأخرى. بالنسبة لأعداد كبيرة من الشرق الأوسط، جلبت الأساليب الاقتصادية على النمط الغربي الفقر، جلبت المؤسسات السياسية على النمط الغربي الطغيان، وحتى الحرب على النمط الغربي فقد جلبت الهزيمة. ليس من المستغرب أن الكثيرين كانوا على استعداد للاستماع إلى أصوات تقول لهم إن الطرق الإسلامية القديمة كانت أفضل وإن خلاصهم الوحيد هو التخلص من الابتكارات الوثنية للإصلاحيين والعودة إلى الطريق الصحيح الذي وصفه الله لشعبه.
في نهاية المطاف، إن نضال الأصوليين هو ضد اثنين من الأعداء: العلمانية والحداثة. إن الحرب ضد العلمانية واعية وصريحة، وهناك الآن أدب كامل يندد بالعلمانية كقوة ثورية شريرة في العالم الحديث ويُرجعها بشكل مختلف إلى اليهود والغرب والولايات المتحدة. إن الحرب ضد الحداثة هي في معظمها لا واعية ولا صريحة، وهي موجهة ضد عملية التغيير برمتها، والتي حدثت في العالم الإسلامي في القرن الماضي أو أكثر، حيث حولت الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدول الإسلامية. لقد أعطت الأصولية الإسلامية هدفاً وشكلاً للاستياء والغموض الذي لا طائل منه ولا شكل له للجماهير الإسلامية في القوى التي خفضت قيمها وولاءاتها التقليدية، وفي التحليل النهائي، سلبتها معتقداتها وتطلعاتها لكرامتها، وإلى حد متزايد حتى معيشتهم.
هناك شيء في الثقافة الدينية الإسلامية التي ألهمت، حتى في الفلاحين المتواضعين أو المتجولين، الكرامة واحترام الآخرين بحيث لم يتم تجاوزهما أبداً ونادراً ما يكون لهما كفؤُ في الحضارات الأخرى. ومع ذلك، في لحظات الاضطرابات والانقطاعات، عندما تختلط المشاعر العميقة، فإن هذه الكرامة والمجاملة تجاه الآخرين يمكن أن تفسح المجال لمزيج متفجر من الغضب والكراهية يُجْبِرُ حتى حكومة بلد قديم ومتحضر – حتى المتحدث باسم دينٍ روحانيٍ وأخلاقيٍ عظيمٍ – أن تتبنى الاختطاف والاغتيال، عن طريق الاستشهاد بمواقف من حياة النبي، كموافقة مسبقة لهذه الأعمال. إن غريزة الجماهير ليست كاذبة في تحديد المصدر النهائي لهذه التغيرات الكارثية في الغرب، وفي عزو تعطيل أسلوب حياتهم القديم إلى تأثير الهيمنة الغربية، والنفوذ الغربي والمبدأ الغربي. وبما أن الولايات المتحدة هي الوريث الشرعي للحضارة الأوروبية والزعيم المعترف به وغير المتنازع عليه من الغرب، فقد ورثت الولايات المتحدة المظالم الناتجة وأصبحت محور الكراهية والغضب المكبوتين. ولربما يكون مثالان اثنان كافيين.
ففي تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1979، هاجمت مجموعة غوغائية غاضبة السفارة الأمريكية في إسلام أباد في الباكستان. وكان السبب المعلن لغضب الحشد هو الاستيلاء على المسجد الكبير في مكة المكرمة من قبل مجموعة من المنشقين المسلمين – وهو حدثٌ لم يكن فيه للأمريكيين أي تدخل على الإطلاق. بعد عشر سنوات تقريباً، في شباط / فبراير من عام 1989، مرة أخرى في إسلام أباد، تم الهجوم على مركز أوسيس (USIS) من قبل الحشود الغاضبة، وهذه المرة للاحتجاج على نشر آيات سلمان رشدي الشيطانية. رشدي مواطن بريطاني من مواليد الهند، وقد نشر كتابه قبل خمسة أشهر في انكلترا. ولكن ما أثار غضب الغوغاء – وكذلك إعلان آية الله الخميني لاحقاً حكماً بالإعدام على مؤلف الكتاب – هو نَشْرُ الكتاب في الولايات المتحدة. ينبغي أن يكون واضحاً الآن أننا نواجه مزاجاً وحركة تتجاوز بكثير مستوى القضايا والسياسات والحكومات التي تسعى إلى تحقيقها. لا يقل هذا عن صراع الحضارات – ربما رد الفعل التاريخي غير العقلاني ولكن بالتأكيد من منافس قديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي، وحاضرنا العلماني، والتوسع في العالم على حد سواء.
ومن الأهمية بمكان ألا ننجر من جانبنا إلى رد فعل تاريخي وغير منطقي على حد سواء ضد هذا المنافس. لم يتم رفض جميع الأفكار المستوردة من الغرب من قبل المتسللين الغربيين أو الغربيين الأصليين. وقد تم قبول البعض من هذه الأفكار حتى من قِبَلِ الأصوليين الإسلاميين الأكثر تطرفاً، وعادة دون الاعتراف بالمصدر، مع معاناة من تغير البحر إلى شيء نادرا ما يكون غنياً ولكن في كثير من الأحيان غريباً.
أحد هذه الحريات هو الحرية السياسية، وما يرتبط بها من مفاهيم وممارسات التمثيل والانتخابات والحكومة الدستورية. حتى جمهورية إيران الإسلامية لديها دستور مكتوب وجمعية منتخبة، فضلاً عن نوع من الأسقفية، لا يوجد لأحد منها أي وصفة في التدريس الإسلامي أو أي سابقة في الماضي الإسلامي. يتم تبني كل هذه المؤسسات بشكل واضح من قِبَلِ النماذج الغربية. كما احتفظت الدول الإسلامية بالعديد من الأعراف الثقافية والاجتماعية في الغرب والرموز التي تعبر عنها، مثل شكل وأسلوب ملابس الذكور (وإلى حد أقل من الإناث)، ولا سيما في الجيش. إن استخدام البنادق والدبابات والطائرات التي اخترعها الغرب هو ضرورة عسكرية، ولكن الاستخدام المستمر للسترات المجهزة والأغطية العلوية (النقاب) هو خيار ثقافي. من الدساتير إلى كوكا كولا، من الدبابات والتلفزيون إلى القمصان، والرموز والتحف، فمن خلالهم حافظت أفكار الغرب على نفسها – بل حتى عززت جاذبيتها.
الحركة المسماة في الوقت الحاضر بالأصولية ليست هي التقاليد الإسلامية الوحيدة. هناك تقاليد أخرى، أكثر تسامحاً، وأكثر انفتاحاً، ساعدت على إلهام الإنجازات العظيمة للحضارة الإسلامية في الماضي، ونحن قد نأمل أن هذه التقاليد الأخرى سوف تسود في الوقت المناسب. ولكن قبل أن يتم البت في هذه المسألة سيكون هناك نضالٌ صعب، حيث يمكننا أن نفعل شيئاً بالكاد يذكر أو لا شيء تجاه الغرب. حتى المحاولة قد تضر، لأن هذه هي القضايا التي يجب على المسلمين اتخاذ قرار فيما بينهم. وفي هذه الأثناء يجب أن نولي عناية كبيرة من جميع الجوانب لتفادي خطر عصر جديد من الحروب الدينية، ينشأ عن تفاقم الاختلافات وإحياء التحيزات القديمة. وتحقيقا لهذه الغاية، يجب علينا أن نسعى جاهدين لتحقيق تقدير واحترام أفضل للثقافات الدينية والسياسية الأخرى، من خلال دراسة تاريخهم، وأدبهم، وإنجازاتهم. وفي الوقت نفسه، قد نأمل أن يحاولوا تحقيق فهمٍ أفضل لنا، ولا سيما أنهم سيفهمون ويحترمون تصورنا الغربي للعلاقة الصحيحة بين الدين والسياسة، حتى لو لم يختاروا أن يعتمدوه لأنفسهم. لوصف هذا التصور سأنتهي كما بدأت، مع اقتباس من الرئيس الأمريكي، هذه المرة ليس توماس جيفرسون الذي تم الاحتفال به بإنصاف، بل هو جون تايلر الذي أُهمِلَ على نحو ظالم إلى حد ما، والذي قدم، في رسالة مؤرخة في 10 يوليو 1843، تعبيراً بليغاً ونبوياً حقّاً لمبدأ الحرية الدينية:
لقد جربت الولايات المتحدة تجربة عظيمة ونبيلة، يعتقد أنها تعرضت لخطر في غياب كل سابقة – أي الفصل التام بين الكنيسة والدولة. لا توجد أي مؤسسة دينية بموجب القانون. يُتْرَكُ الضمير بعيداً عن قيودٍ تفرضها النفس ويسمح لكل شخص عبادة صانعه بعد الحكم عليه. مكاتب الحكومة مفتوحة على حد سواء للجميع. لا يتم فرض ضريبة العشر لدعم التسلسل الهرمي الثابت، ولا الحكم الخاطئ الذي يتم إعداده من قبل الإنسان على أنه عقيدة إيمانية مؤكدة ومعصومة.
لو قُدِرَ لمحمد أن يكون حاضراً بيننا، سيكون له امتياز مضمون من قبل الدستور للعبادة وفقا للقرآن الكريم؛ وقد ينصب شرق الهند نصب ضريح لبراهما إذا كان ذلك سيجعله سعيداً. هذه هي روح التسامح التي تغرسها مؤسساتنا السياسية …. العبري المضطهد والذي تم قمعه يأخذ مسكنه بيننا بدون أن يخيفه شيء …. ودرع الحكومة هو أعلى منه فهي من تدافع عنه وتحميه. هذه هي التجربة العظيمة التي قمنا بها، وهذه هي الثمار السعيدة التي نتجت عنها، فإن نظامنا لحكومة حرة لن يكون ناقصاً بدون ذلك.
قد يكون الجسم مضطهدا ومقيداً بالأصفاد، لكنه قادر على البقاء على قيد الحياة. ولكن إذا كان عقل الإنسان مقيداً، طاقاته وملكاته تموت، وما يتبقى هو التراب. يجب أن يكون العقل حراً كما الضوء أو الهواء.
رابط المادة الأصلي: هنا.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]