الاستبداد.. للاستبداد


إبراهيم صموئيل

فضلًا عن السوريين؛ فإنّ مَنْ يعرف سوريّة عن كثبٍ وعن معايشةٍ لأحوال شعبها، ولأوضاع الناس في ظلّ سلطة الطغيان، يعرف لماذا -من بين مختلف الشعارات التي رُفعت فجر الثورة- اُختير للهتاف: “الشعب السوري ما بينذل”.

شرعت السلطة، منذ بداية انقلاب الأسد الأب، في العمل بدأب على محاور طغيانٍ عدَّة، أوّلها وأهمّها سياسة الإذلال. إذلال الشعب السوري، وإهانته: أمام نفسه، وأمام غيره من الشعوب العربيّة، وأمام شعوب العالم على اختلافها. وهو نهج سلطوي له جذوره وشؤونه وخلفيَّته وشجونه، في صميم الكائنات المُجسّدة للهرم الحاكم.

سياسةُ استبدادٍ مُستخلَصة من كبرى أنظمة الاستبداد والطغيان في العالم -كوريا الشماليّة في عَهْدَي كيم إيل سونغ الشهير وابنه، مثلًا- وممّا وصلتْ إليه أيادي مستشاري الأسد وابنه في هذا الحقل، من وصايا وتعليماتِ كتب السياسة والترهيب في التاريخ، ومن الغلّ الدفين في شخصيَّتي الحاكمَين -الأب وابنه- تجاه الشعب السوري.

في كلّ شأن من شؤون الحياة (لا أعني السياسيّة بشكل رئيس، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل حياة السوريين برمّتها، من أصغر شأن إلى أكبر شأن) عمدت السلطة الطاغية إلى التغلغل والهيمنة والوصاية والترهيب والتَّعسّف والتخريب. في أيّ صعيد، وعلى أيّ مستوى، يجد السوريّ نفسه أمام غول السلطة. في كل مرفق، وحقل، وميدان، ومجال؛ في الأندية، والمدارس، والجامعات، والمؤسَّسات، والهيئات؛ في الشارع، وسيّارة الأجرة، والدّكان، وموقع العمل… يجد السوريّ شبح السلطة الطاغية والفساد.

على هذا النهج، عملت السلطة على تقزيم شأن السوريين، وتهميشهم، وتغييبهم، وصولًا إلى النظر إليهم بصفتهم مجرَّد قطيع، لا يُقدّم، ولا يؤخّر، ولا يُؤثّر، بل يمتثل وينصاع ويخضع ويخاف فحسب. يخاف إلى حدّ الظنّ -وفقًا لإشاعة طابور المخابرات- أن الهاتف الأرضيّ يُمكن أن ينقل الحديثَ الدائر في المنازل، حتى وهو مغلق!!

وقد سعت السلطة إلى ذلك؛ ليس من جرّاء فقرٍ في دولة مثل سوريّة غنيّة بمواردها الطبيعيّة والبشريّة، وهي تكفي -إذا ما رُفع تعمّد إذلال أهلها- أضعافًا مضاعفة من عدد سكّانها، ولا لأنّ إقامة دولة حديثة يحتاج إلى استقرار السلطة، فقد استقرَّت لطغيان آل الأسد أربعين عامًا، قبل حلول 2011. ولا لأنها كانت مشغولة بتحرير الأرض؛ إذ لم تُحرر إلاّ أجهزة مخابراتها لقمع الناس. ولا لأيّ سبب أو علَّة إلاّ إنجاز المَهمَّة/ الغاية التي كُلّف الطغيان، وسُلّم السلطة، ودامت حمايته منذ 1970 إلى الغد: إذلال الشعب السوري.

كلّ ما ذكرته آنفًا لا يعدو أن يكون كلامًا إنشائيًّا، يحتاج -بالنسبة إلى غير المُقدّرين حجمَ تغوّل آل الأسد في أوضاع السوريين- إلى معلومات، ووقائع، وتواريخ، وأرقام، وأسماء… الأمر الذي يجعلني أشير، في هذا السياق، إلى الكتابين المهمّين اللذين جهد الصديق الكاتب خطيب بدلة لجمع موادّهما وتحريرها والتقديم لها، وذلك كوثيقة من لحم ودم ومعلومات وتجارب، عاشها وعانى منها وشهد عليها جمعٌ من كتَّاب البلد؛ الأوّل “حكايات سوريّة لها علاقة بالاستبداد”، صدر عن دار نون 2015، والثاني “كوميديا الاستبداد” وهو قيد الطباعة الآن.

وعلى غنى المعلومات والوقائع الواردة في الكتابين، فإن أبرز ما فيهما التركيز على ما عانت منه البلاد، واكتوى به السوريون، خلال أربعين عامًا قبل الثورة. إذ إن هذه المعاناة تحت وطأة الاستبداد القاهر هي الخلفيّة العريضة، غائرة الجذور، التي أسَّست وحثَّت على النهوض والثورة على الطغيان الحاكم، الثورة التي كان لا بدَّ منها، ليس لما سيأتي فحسب، بل -أيضًا- لحقيقة أن “الشعب السوري ما بينذل” مثله في ذلك مثل أيّ شعب حرّ آخر معتدّ بكرامته..




المصدر