ثقافة الحقيقة المطلقة ومخاطرها على المجتمع التعددي..


عبد الرحمن شرف

تُعرف الثقافة -أكاديميًا- بأنها الأنماط السلوكية والتفاعلات الهيكلية المعرفية والتفاهمات المشتركة التي يتعلّمها الإنسان، من خلال عملية تواصل اجتماعية بين مجموعة معينة من البشر، تستخدم هذه الأنماط لتحديد هويتها وإعلان تميزها من غيرها من المجموعات البشرية.

وهذا التميز في إعلانها وهويتها يتحول في معظم الأحيان إلى لغةٍ، إما أنا أو أنت، ولغة عنف وكسر عظم، أكثر من لغة حوار وتقارب وجهات النظر، في رؤية المتشابه والمختلف، وبناء واقع جديد عليه.

مجتمعاتنا، بتنوعها الديني والعرقي والقومي وما يجمعها من أسس مشتركة وغير مشتركة بثقافتها، ما زالت راسخة تحت سلطان الحقيقة المطلقة في النص الديني أو الشريعة والدين، وتربط بها ثقافتها وهويتها وسلوكها بغالبيتها العظمى التي تمتلكها كل جماعة متواجدة، تجمعها أرض واحدة ووطن واحد.

القاعدة الأكثر ظهورًا في تاريخ المجتمعات أن الحق يتلاشى ثم يظهر، وأن التاريخ يسير إلى التخلص من العبودية إلى الحرية والوعي. أو بمعنى آخر الحقيقة ليست ثابتة، بل متغيرة، وهذا يأخذنا إلى أنه لا يوجد حقيقة مطلقة تبقى ثابتة إلى الأبد بل هي متغيرة، ويتغير معها مفهوم الهوية والحرية والثقافة والعديد من الجوانب في المجتمع.

مامعنى هذا الحديث والطرح في الإطار العام لأي مجتمع وثقافة؟

الحق هو قوة الإرادة الشعبية العامة المدركة لهذا الشأن في مفهوم الحقيقة المطلقة المتغير وأبعادها، ويكون فاعلًا عندما يكون بشكل فردي يكرس لحرية الفرد ضمن الجماعة أو خارج إطار الجماعة.

الإرادة الشعبية تصل إلى مرحلة في المجتمع، تعدم وتسحق بالقديم وتراكمه بالكثير من الأسس المطبقة على المجتمع بالمفاهيم الدينية واللادينية وبثقافتها وبمؤسسات التنشئة الاجتماعية في المجتمع. وما زال هذا حاضرًا في مجتمعاتنا، ويؤثر في القوانين واستقرار الدولة وهدوئها، كما يحصل في مصر واليمن ولبنان والعراق وسورية والسعودية وإيران.

وتشكيل الدولة والقانون والمؤسسات هو ثقافة مجتمع في نهاية المطاف، في الإرادة الشعبية العامة لها.

ثم إن هذه الإرادة الشعبية تتجه لنهضة وصحوة تحركها عدة أحداث، ولإرادة الحياة والتغيير، وهي حق كامل في الحرية والمساواة وتحقيقها وضمانها وتنظيمها، عبر مؤسسات المجتمع وقوانينه، وهذا ما تحقق بشكل نسبي في الثورات بهذه الإرادة.

ومن الآثار التي تتركها ثقافة الحقيقة المطلقة على المجتمع.

-اغتراب الإنسان عن ذاته ونفسه، وهذا يُلحق به التخبط والضرر؛ فلا يكون الإنسان الفرد هو مقياس كل شيء ومركز الكون، وبعيدًا من النقد والشك والمعايير الموضوعية للعلم، والتسليم بشكل كامل لمسلّماته وبديهياته وأسسه الموروثة، ولما يحيط به وابتعاده عن التغيير والتجديد وبداهته الكونية الحيوية وجوهره الإنساني.

-تكرس ارتكاب الجرائم والتعاطف مع الجريمة وتشجيعها ضد الآخر المختلف، ومصادرة حرية الآخر المختلف في الثقافة، وتكفيره في اختلاف الطرح والإيمان عن الآخر، كما حصل منذ فترة في مصر بتصرفات (داعش) ضد الأقباط، وتصرفات وسلوك الحركات العنصرية التي تعتمد هذا النهج كالإخوان المسلمين والحركة الصهيونية والنازية والشوعية. حتى الحركات المذهبية المناضلة من أجل قضية الحرية التي تبني توجهها على هذه ثقافة تتناحر فيما بينها ضمن هذا المفهوم للحق المطلق وامتلاكه بوجود شخص هو يملك الحق في التفسير وتوجيه العقيدة والدين. وكما نجد ذلك في الصراع السني الشيعي المبني على ثقافة الحقيقة المطلقة وامتلاكها في الدين والنص الديني وملكية تفسيره بين جماعة وأخرى والاختلاف على هذه الملكية، والصراع الفقهي والسياسي على الرغم من أنها تؤمن بالحقيقة نفسها.

-تكرس هذه الثقافة الديكتاتوريات والاستبداد الديني والسياسي للدين وإطالة أمد أفراد في البقاء في مناصبهم وأدوارهم في المؤسسات الدينية والمدنية الممثلة بالجماعة، لأن الجماعة تنظر له على أنه موازٍ للحقيقة المطلقة أو ممثل لها ومدافع عنها، وأنه يمتلك تلك الحقيقة ويجب الحفاظ والدفاع عنها من خلال الحفاظ على هؤلاء الأفراد الممثلين في الجماعة، بعيدًا عن إرادتهم الحقيقية بحريتهم واستقلاليتهم، لذلك نجد الكثير من الشيوخ والكهنة يفتون ببقاء أنظمة وشخصيات ارتكبت جرائم بحق الشعوب أو بإبقاء حكمهم إلى الأبد في السلطة، كما حصل في سورية، ورجال الدين هؤلاء يبقون فترات طويلة، ومن الممكن أن يورثوا أولادهم وأقربائهم مناصبهم الدينية والشرعية.

-تكرس ثقافة الولاء والبراء وثقافة قصيرة الأمد لا تفكر في المستقبل وتحدياته، وليس على الحرية للفرد، وآفاقه تعتمد على هذا حلال وذاك حرام، وتطبيق ضوابط صارمة وتعرقل مفهوم الحرية والإبداع وتماهيها مع المطلق غير الثابت -كما ذكرت- دون الأخذ بالحسبان تغيرات نسبية لأبعاد المجتمع والوجود ومفهوم المنطق.

-تكرس لسلطة الشريعة التي تصبح خامدة تسحق روح الجماعة والمجتمع مع مرور الزمن والمطالبة بتطبيق الشريعة في الدستور أو الحكم بها.

-تبعد الفرد والجماعة عن العلمانية ومفهومها وعن الروح التشاركية والأخوية الإنسانية والقيم الإنسانية في المجتمع وصياغة واحترام القانون. وتؤثر على ديمقراطية المجتمع وتطورها في المؤسسات وعلى اقتصاد وإنتاج المجتمع وثرواته وتوزيعها توزيعًا عادلًا.

-تكرس البيروقراطية في المؤسسات المدنية الخاصة والعامة؛ ممّا يعطل فاعلية المؤسسة وإبداعها وحداثتها وإنتاجها، لأننا لا يمكننا فصل الفرد، في طريقة عمله وسلوكه وإنتاجه في المؤسسة التي يعمل بها، عن ثقافته.

-أيضًا تكرس استغلال هذه الثقافة على منابر الإعلام بسلطته وتأثيره وبأيادي خارجية، تريد أن تحقق أهدافها من خلال الدين وثقافة الجماعة، ويكون هذا نوع من أنواع الاستعمار الخارجي للجماعة والمجتمع، لذلك نجد آلاف القنوات الدينية التي تعمل على هذا الشأن سواء كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.




المصدر