on
حرب الخامس من حزيران/ يونيو كما عايشتها
حبيب حداد
مدخل
تكاد تُجمع النخب العربية الفكرية منها والسياسية، على امتداد العقود الأربعة الماضية التي أعقبت حرب الخامس من حزيران/ يونيو، أو حرب الأيام الستة كما روجت وسائل الإعلام العالمية على وصفها، أن تلك الحرب بنتائجها المباشرة والبعيدة كانت بلا ريب إحدى الكوارث التي حلت بالأمة عمومًا، وبحركة التحرر الوطني العربية بصورة خاصة.
في هذا السياق، وإذ يجري بين الحين والآخر استعراض الانتصارات والإخفاقات التي شكّلت منعطفات حاسمة في مسار المشروع النهضوي العربي، تسترجع بطبيعة الحال سلسلة تلك الانكسارات التي وقعت خلال نصف القرن الماضي ابتداء بالنكبة عام 1948، ومرورًا بانفصال سورية ومصر عام 1961، وحرب حزيران/ يونيو 1967، وإجهاض نتائج حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ومن ثم اتفاقات (كامب ديفيد) وملحقاتها (اتفاقات أوسلو، ووادي عربة)، وانتهاء بحروب الخليج التي قادت إلى احتلال العراق وتدمير دولته.
وفي كل عام، بمناسبة ذكرى الخامس من حزيران/ يونيو الأليمة، تطالعنا مختلف وسائل الإعلام باستعادة وقائع هذه الحرب والأسباب والمقدمات التي سبقتها، والنتائج والانعكاسات التي تمخضت عنها، وكذلك الأهداف التي رمت لتحقيقها، كما يجري عادة في هذه الذكرى استعراض ما قامت به الدول العربية من مواقف وإجراءات عملية لمواجهة تبعات هذه الحرب، سواء بالنسبة للدول العربية المعنية مباشرة أي التي كانت ضحية العدوان، والتي احتلت أراضيها، أو على صعيد العمل العربي المشترك استجابة لمتطلبات الأمن القومي وتلبية لدواعي المصير العربي الواحد.
من وجهة نظري، إنّ ما كُتب وما قيل خلال هذه المدة الطويلة وحتى اليوم عن حرب الخامس من حزيران/ يونيو، قد تضمن الكثير من الوقائع والحقائق، يوحي بعضها أن يكون قراءات جادة لهذا الحدث الجلل، وخاصة من قِبَل الجيل الذي عايش تلك الحرب، أو من قِبَل أولئك الذين كانوا في مواقع المسؤولية السياسية والإعلامية والفكرية، لكنني مازلت أعتقد، من خلال متابعتي لتلك الشهادات والروايات ووجهات النظر، أنها كانت في معظمها تفتقر إلى حد كبير إلى الموضوعية المطلوبة، سواء في تناول وقائع تلك الحرب ومجرياتها، أو في تقويم نتائجها وأهدافها، وهذا الأمر يرجع -في رأيي- إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولها: غياب المنهج العلمي النقدي في دراسة هذا الحدث من كافة جوانبه وبمختلف أبعاده.
ثانيها: عدم الإحاطة الكافية بالمعطيات المتعلقة بهذه الحرب، الإحاطة التي لا بد منها لتكوين موقف سليم.
ثالثها: وهو الأخطر كما أرى، أن تقويم هذا الحدث، شأن غيره من الأحداث الأخرى المفصلية في حياة الأمة، كان ضحية استخدام المنطق الأيديولوجي العصبوي، وبالتالي كان موضوع قراءة انتقائية قاصرة وغير مستوعبة لم تساعد كما هو منتظر في استخلاص الدروس والعبر المفيدة، وهكذا، ونتيجة ذلك، فإن العديد من القوى الوطنية والتقدمية، وبخاصة القوى المعارضة لكل من النظامين القائمين في مصر وسورية، حمّلت هذين النظامين المسؤولية الكاملة عن هذه الحرب ونتائجها، وذهبت قوى أخرى إلى أن الدرس الوحيد المستخلص من هذه الحرب هو سقوط دور البورجوازية الصغيرة في قيادة حركة التحرر العربية، وأن الطبقة العاملة هي وحدها الجديرة والمؤهلة للاضطلاع بهذا الدور وفي هذه المرحلة بالذات.
بالتأكيد، يتحمل هذا النظامان جانبًا كبيرًا من مسؤولية هذه الحرب ونتائجها المدمرة، وهو الأمر الذي سأحرص على توضيحه وإلقاء الضوء عليه في المقالات التالية.
لكن ما أود الإشارة إليه هنا، هو خطورة سيادة ذلك المنهج الأيديولوجي العصبوي، وذلك الخطاب الشعبوي بالنسبة إلينا، نحن في مختلف التيارات الرئيسية في حركة التحرر العربية خلال نصف القرن الماضي: القومية اليسارية والماركسية وحتى الليبرالية، ما وقعنا في إساره، سواء في نظرتنا وتفاعلنا مع الأحداث أو في ممارساتنا وعلاقاتنا المشتركة، هو ذلك المنهج الذي حصر اهتمامه في رجم الواقع وإدانته دون تحديد الأسباب العميقة التي كانت وراء الوصول إلى هذا الواقع، ودون محاولة تلمّس وصياغة البدائل المطلوبة لتجاوز هذا الواقع، سواء على صعيد الفكر والسياسة أم على صعيد التدبير والعمل.
هكذا كانت الحال في أعقاب كل الأحداث الكبرى التي عاشتها شعوبنا، حيث كانت استجابة مختلف فصائل حركة التحرر العربية في أغلب الأحيان لا تتجاوز ردات الفعل المرحلية، دون تخطيط علمي صحيح ودون نظرة شاملة ومستقبلية.
منذ طرحت مجتمعاتنا على نفسها أواخر القرن التاسع عشر أي في بداية عصر النهضة السؤال المركزي الأساسي: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا نحن! ظل هذا السؤال الشغل الشاغل للعقل السياسي العربي عبر صيرورة العملية النهضوية الشاملة التي رفعت رايات التحرر والحداثة والوحدة. بيد أن الوعي السياسي العربي كان، في مختلف الأقطار، يواصل تطوره مستفيدًا من تجاربه، ومتفاعل مع ظروف بيئتها من جهة ومع الفكر الإنساني من جهة أخرى، سواء في مرحلة الكفاح ضد الوجود الاستعماري المباشر أم في مرحلة بناء دولة الأمة بعد نيل الاستقلال الوطني، المرحلة التي عايشها جيلنا، كان العقل السياسي يواجه دائمًا وفي كل المجتمعات العربية أسئلة أخرى متفرعة عن السؤال المركزي، سؤال التقدم والتخلف، وهكذا ظلت مسيرة تطور الوعي السياسي العربي في اتجاه إيجابي متصاعد بهدف استكمال مقومات بنيته المعرفية والعلمية حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي تقريبًا، لكن ما حدث بعد ذلك من ترد وتراجع نوعي إنما طال كافة مناحي حياة مجتمعاتنا، ولعل الظاهرة الأخطر في هذا الوضع الذي نعيشه اليوم هي هيمنة الفكر الديني الغيبي والفكر القومجي الشعبوي، فالمنهج العلمي النقدي في حالة انحسار وانكفاء، والفكر السياسي العربي في اتجاهاته الرئيسية اليوم ما يزال يفتقر النظرة التاريخية البنيوية، وما يزال أبعد ما يكون عن امتلاك المنهج العلمي النقدي.
أكيد أن هذا الواقع الذي يعيشه الفكر السياسي العربي لن يكون في منطق التاريخ سوى مرحلة انتقالية عابرة، لكن تجاوز هذه المرحلة يتوقف على توفر جملة من الظروف الذاتية الموضوعية التي ليس هنا مجال التطرق إليها.
كثيرة هي الأحداث والتطورات النوعية التي شهدتها المنطقة العربية في أعقاب حرب الخامس من حزيران وحتى الآن حيث البشرية تقف على أعتاب القرن الواحد والعشرين، وكثيرة هي التطورات الكبرى والعميقة التي شهدها الوضع الدولي خلال هذه الفترة الزمنية، ولنتذكر هنا أن معظم تلك التطورات التي حدثت في أوضاع الأنظمة العربية على امتداد هذه الحقبة الزمنية إنما جاءت حسب إدعاء القائمين عليها كردٍّ على هزيمة الخامس من حزيران، ومن أجل تحرير الأرض المحتلة واستعادة الحقوق المغتصبة ومواصلة إنجاز مهمات التقدم والوحدة.
لكن السؤال الذي ظل يطرح نفسه على الدوام وعلى امتداد العقود الأربعة الماضية وحتى يومنا هذا: ترى هل كانت الاستجابة سواء على مستوى النظام العربي الرسمي أو على مستوى المجتمعات العربية في مستوى التحديات المطروحة؟ كيف كانت طبيعة تلك التطورات والتحولات في الوضع العربي الرسمي والشعبي؟ هل كانت في حصيلتها ومردودها تعبيرًا لقدرات الأمة، وتصليبًا لإرادتها في تدعيم مقومات التحرر والاستقلال؟ أم أن تلك التحولات لم تساعد إلا في إعادة إنتاج وضعية التخلف والاستبداد وتكريس حالة التجزئة والتبعية؟
إنني أعتقد أن حرب الخامس من حزيران، هذا الحدث الخطير الذي يمثل واحدًا من المنعطفات غير العادية الني مرت بها الأمة العربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي والذي ما تزال تعاني من تأثراته وتبعاته حتى الآن إنما يحتاج منا إلى إعادة قراءة موضوعية وعقلانية.
فمن دون معرفة صحيحة بطبيعة وأبعاد وقائع التاريخ القريب والبعيد لا يمكن للفكر السياسي العربي أن ينجح في تعيبن مهمات الحاضر والمستقبل، ولا في وضع الآليات وصياغة البرامج الكفيلة بإنجاز تلك المهمات. وتزداد عملية إعادة قراءة واستيعاب تاريخنا القريب أهمية وإلحاحًا إذا اتفقنا أن الأجيال العربية الحالية التي ولدت خلال العقود الأربعة الأخيرة لا تعرف إلا صورة مجتزأة مشوهة عن وقائع وحقائق هذا التاريخ، وذلك بسبب انعدام الحياة الديمقراطية وغياب حرية الرأي والتعبير، وافتقاد شروط البحت التاريخي والعلمي. هذا الوضع الشاذ الذي سيطر على مجتمعاتنا العربية حتى قبل سنوات قليلة، والذي يؤمل أن تساعد ثورة الاتصالات والمعلومات في عملية التسريع على الخلاص منه. والحال إنّ ما اطّلعَ عليه الناشئة، في مختلف العلوم الإنسانية وبخاصة في التاريخ وعلم الاجتماع السياسي، في الكثير من الأقطار العربية التي ما زالت تتحكم فيها الأنظمة الشمولية، هو الصورة التي يرسمها لها النظام الحاكم. صورة الرأي الواحد والخطاب الواحد واللون الواحد، حتى أصبح تاريخ كل شعب هو تاريخ رأس النظام، القائد الأوحد الذي يتوقف مصير الأمة على وجوده، والذي اندمج تاريخها بسيرته الشخصية.
هناك مسألتان أجد أن الأمانة العلمية والإخلاص للحقيقة يستدعيان مني، وأنا بصدد الحديث عن حرب الخامس من حزيران، إعادةَ التوكيد عليهما:
أولًا: إنني كواحد من الذين أتاحت لهم الظروف -بوصفي كنت عضوًا في القيادة القطرية للحزب ما بين عامي 1965 ونهاية 1970- أن يعايشوا حرب الخامس من حزيران، وأن يشاركوا في عضوية مؤسسات أسهمت بحكم الواقع في اتخاذ القرارات والتدابير التي كان من شأنها مواجهة الآثار والنتائج التي ترتبت على عدوان الخامس من حزيران وإفشال أغراضه لو عرفت طريقها إلى حيز التنفيذ، أكرر وجهة نظري في أن عدوان الخامس من حزيران لم يحظَ حتى اليوم بمراجعة صحيحة ولم يتم التوصل إلى تقويمه تقويمًا علميًا سليمًا في هذا المجال، فإن ما أطمح إليه هنا ليس إلا المساهمة المتواضعة في هذا المسعى المطلوب، فما تزال حرب الخامس من حزيران تستدعي مساهمة العديد ممن عايشوا بصورة مباشرة أحداث هذه المرحلة وذلك قبل أن ينأى بهم قطار الزمن وقبل أن يغادروا هذه الدنيا.
ثانيًا: سأحرص قدر الجهد على محاولة التزام المنهج العلمي النقدي في هذا الاستعراض التاريخي الذي سيكون مرجعي الرئيسي فيه، هو كل ما تسعفني به الذاكرة، فإنني لا أدعي أنني سأكون حتمًا مؤهلًا على تجسيد هذا الالتزام والإيفاء بمتطلباته، لكنها رغبة دائمة وقناعة أكيدة تكونت لدي في أن أقوم بتنفيذ هذه المهمة، وشعورًا مني بواجب وطني كان عليّ تأديته، بلا شك، قبل الآن دون أن أتذرع بالظروف الصعبة والاستثنائية التي كانت تحول دون ذلك.
في ختام هذا المدخل، وقبل الدخول في استعراض تاريخي لوقائع هذه الحرب ونتائجها المباشرة، أرى من المناسب، إذ -وكما يلاحظ القارئ- إني تجنبت حتى الآن استخدام تسمية معينة لوصف حرب الخامس من حزيران/ يونيو، أي هل كانت هزيمة شاملة أم مجرد نكسة عابرة، كما تباينت في استخدام أحد هذين المصطلحين الأدبيات السياسية في المرحلة الماضية، أرى من المناسب ضرورةَ إجلاء هذه النقطة في بداية هذه الدراسة، وإن كان الأمر لن يظل موضع تساؤل في سياق استعراض تقويمنا لنتائج وانعكاسات هذه الحرب في القسم الخاص بذلك. هذه التسمية ليست إشكالية تتعلق بعلم المصطلحات. لكنها بكل بساطة تتعلق بالموقع الفكري ونمط الرؤية لمن يتناول تقويم ودراسة هذه الحرب من حيت أهدافها ونتائجها.
فالبعض رأي فيها مجرد نكسة، والبعض الآخر قال إنها الهزيمة الكبرى أين منها أي هزيمة أخرى! فهل كانت حرب الخامس من حزيران عام 1967 نكسة أم هزيمة؟ نكسة لمن، وهزيمة لمن؟
من المعروف أنه إذا كانت هناك ثورة اجتماعية في بلدٍ ما، أو عملية تنمية وإصلاح، وإذا كان هناك مشروع نهضوي يسير في طريق تحقيق أهدافه، وإذا صادف أن أيًا من هذه الحالات قد عرف بعض الفترات التراجعية، كأن يكون هناك أزمةٌ ما، أو فشل وإخفاق في جوانب الخطة التنموية أو الإصلاحية بفعل الصعوبات والعقبات التي قد تكون متوقعة أو غير متوقعة، فإن هذه النتيجة يعبر عنها بالنكسة أو الانتكاسة التي تلحق بالمشروع الثوري أو الإصلاحي، وغالبًا ما يتم تدارك عوامل الفشل ومعالجتها حيث تتواصل عملية الإصلاح أو التنمية أو المشروع النهضوي في منحى متصاعد. لكن حرب الخامس من حزيران، بأهدافها ونتائجها، كانت بلا شك هزيمة كبرى، فهي من جهة كانت كاشفًا لمدى هشاشة بنية المجتمعات العربية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية -المجتمعات العربية بصورة عامة، وفي الأقطار التي استهدفتها هذه الحرب بصورة مباشرة- ومن جهة أخرى فقد برهنت هذه الحرب على مدى قصور فاعلية نظام الأمن الإقليمي العربي.
حرب الخامس من حزيران/ يونيو كانت إذن هزيمة شاملة لبنى الوضع العربي آنذاك، هذه حقيقة لا جدال فيها، أكدتها تطورات الواقع الملموس، غير أن هناك حقيقة أخرى ينبغي عدم إغفالها وهي: أن الحرب لم تكن حربًا مخططة ومعدّة قام بها النظامان المصري والسوري، إضافة إلى النظام الأردني الذي أصبح طرفًا فيها، قبل أيام معدودات من اندلاعها، نتيجة اتفاق الدفاع المشترك الموقع بين عبد الناصر والملك حسين، إن حرب الخامس من حزيران/ يونيو، من الناحية العسكرية، كانت عدوانًا مُدبرًا من قبل “إسرائيل” باتفاق وتنسيق تام مع الإدارة الأميركية في ذلك الوقت، ولقد جاءت تلك الحرب في سياق استراتيجية الحروب الاستباقية التي كان يمارسها الكيان الصهيوني؛ لتنفيذ أهدافه المرحلية المعلنة منها وغير المعلنة.
ماذا كانت طبيعة تلك الأهداف من وراء حرب حزيران؟ وماذا كانت الذرائع والمبررات التي استخدمتها “إسرائيل” لتضليل وكسب الرأي العام العالمي، بحجة أن وجودها كان مستهدفًا، وكيف تصرفت الأنظمة العربية المعنية إزاء ذلك؟ هذا ما سنسلط عليه الأضواء تاليًا.
أسباب ومقدمات حرب الخامس من حزيران:
قد يرى البعض أن التركيز هنا، على أسباب ومقدمات حرب حزيران، لا يعفينا من إعادة التذكير بالأهداف الأساسية للمشروع الصهيوني في الوطن العربي، والتذكير بمحطاته التاريخية، المحطات التي مهدت لقيامه أو تلك التي كانت تمثل خطوات عملية في طريق تنفيذه.
وهنا لا بدّ أن تسترجع البدايات التي وجهت الأنظار نحو هذا المشروع منذ حملة نابليون على مصر؛ ومن ثم في تصدي الدول الأوروبية، نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر، لإفشال مشروع محمد علي، في توحيد مصر وسورية والحيلولة دون ارتباط مشرق الوطن العربي بمغربه، إلى وعد بلفور واتفاقات سايكس-بيكو. ثم نكبة فلسطين وقيام “إسرائيل” التي طبقت منذ قيامها استراتيجية إبقاء المنطقة العربية في حالة استنزاف دائم لمقدراتها وإمكاناتها كي لا تركز الأقطار العربية المحيطة بـ “إسرائيل” جهودَها أساسًا على تنمية وتحديث مجتمعاتها. مسار هذا المشروع، بمختلف محطاته ومراحله التاريخية، ينبغي أن يظل دائمًا حاضرًا في وعينا وفي ذاكرتنا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأهداف التي رمى إليها والوظيفة التي اضطلع بها منذ تأسيسه، كقاعدة متقدمة لحماية المصالح الغربية (البترول – الطرق الاستراتيجية)، وهي: قيام كيان حاجز بين مشرق الوطن العربي ومغربه، وقد اضطلعت “إسرائيل” بكفاءة بهذا الدور وخاصة في مرحلة الحرب الباردة.
بيد أن ما يعنينا هنا، قبل أي شيء آخر، هو التذكير بتطور الأحداث التي توالت متسارعة في تلك الفترة الزمنية وساعدت في تهيئة الأجواء أمام “إسرائيل” لتنفيذ عدوانها وشن تلك الحرب الاستباقية هذا من جانب، أما من الجانب الآخر فإن الشيء المهم في هذا المجال هو التعرف على وضع النظامين المصري والسوري اللذين واجها تلك الحرب وكيف كان مستوى الاستعداد والتحضير العسكري والشعبي في البلدين لدرء أي اعتداء أو خطر محتمل. أما ما يتعلق بمستوى الإعداد والأداء بالنسبة للجيش الأردني فإنني سأتطرق إلى دوره بصورة عرضية في المكان الخاص بذلك، لأنني لا أملك معلومات كافية عن هذا الموضوع.
أولًا: حال النظام المصري
لقد ظل عبد الناصر -كما يتفق الكثيرون- دائمًا تحت تأثير عقدة بقاء القوات الدولية في مضائق تيران التي كفلت تأمين حرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة، وهذا الوضع كما هو معروف كان إحدى نتائج العدوان الثلاثي عام 1956. لقد لعبت المزايدات السياسية دورها في استثارة هذه المسألة، وخاصة في عهد الانفصال خلال مؤتمر شتورا الذي انعقد لتسوية العلاقات بين البلدين اللذين كانا قبلًا يشكلان إقليمَي دولة الوحدة، حيث أتقن فرسان مؤتمر شتورا من الجانبين هواية التراشق بالتهم والانتقادات الموضوعية وغير الموضوعية، ولم يكن أمام الوفد السوري أفضل من استخدام ذلك النوع من الدعاية الممجوجة: بتكرار التذكير بتأمين حرية الملاحة الإسرائيلية في مضائق تيران وخليج العقبة، كدليل على تواطؤ عبد الناصر وتقاعسه عن تحرير فلسطين!
ولنتذكر هنا أيضًا، في إطار الوقائع التي سبقت حرب حزيران/ يونيو، أن الجيش المصري، خلال خمس سنوات، أي منذ قيام الثورة اليمنية عام 1962، كان يقاتل في اليمن لدعم النظام الجمهوري، وقدرت تلك القوات آنذاك بنحو ثلث تعداد الجيش، وضمّت خيرة قطاعاته، لكن استمرار حرب اليمن طوال تلك المدة ودون الوصول إلى نهاية لها، نظرًا للظروف الجغرافية وتركيبة المجتمع اليمني القبلية، كل هذا جعل القوات المصرية في حالة إنهاك واستنزاف دائمين.
لقد عادت العلاقات الثنائية بين مصر وسورية إلى أفضل حالاتها، صيف عام 1966، بعد فترة انقطاع وبرود أعقبت انهيار ميثاق الوحدة الثلاثية نيسان/ أبريل عام 1963 بين مصر وسورية والعراق، وقد انعكس هذا التحسن على العلاقات بين البلدين في توقيع ميثاق الدفاع المشترك، ولنتذكر هنا الموقف القومي الملتزم الذي كان الرئيس عبد الناصر يؤكد عليه في كل مناسبة وتصريحاته الواضحة، خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت حرب حزيران/ يونيو، بأن أي عدوان على سورية يعدّ عدوانًا على الجمهورية المتحدة التي حافظت على اسمها بعد الانفصال، وحتى مجيء السادات. من المعطيات والوقائع التي ينبغي ذكرها والتي ساهمت في رسم صورة المشهد السياسي العام، عشية حرب حزيران التي كان طلب الرئيس عبد الناصر من الأمين العام للأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية الفتيل في سلسلة الأحداث اللاحقة، أن عبد الناصر وثق بالتعهدات الدولية، واعتمد على مواقف الدول الكبرى التي كانت تدعو للتهدئة والحلول الدبلوماسية، وخاصة موقف الجنرال ديغول المعروف، بأن فرنسا ستقف ضد الطرف الذي يبدأ الحرب، وبطبيعة الحال فقد اعتمد قبل ذلك على موقف الاتحاد السوفياتي الذي كان يدعو للتهدئة وتجنب الحرب، تلك كانت أبرز المعطيات التي يمكن ملاحظتها عشية حرب حزيران في الجانب المصري، غير أن ما لم يكن معروفًا من قبل وأصبح واضحًا وجليًا لكل مواطن مصري بعد الهزيمة ذلك الوضع غير الطبيعي في هرم السلطة في النظام المصري. لقد تكشفت هزيمة حزيران عن ذلك الوضع المزمن وغير الطبيعي، وهو ازدواجية السلطة ويرى كثيرون من مسؤولي النظام المصري آنذاك أنها كانت السبب الأول في حجم الهزيمة التي لحقت بالقوات المسلحة المصرية. لقد تبين أن النظام المصري كان يعيش ازدواجية كاملة في السلطة، عمرها نحو عشر سنوات، حيث إن السياسة التي يمثلها الرئيس عبد الناصر كانت في عزلة شبه تامة عن ممارسة صلاحياتها في القوات المسلحة التي كانت تحت سيطرة المشير عبد الحكيم عامر ومجموعته (انظر مذكرات عبد اللطيف البغدادي ومذكرات الدكتور مراد غالب).
ثانيًا: حال النظام السوري
كان هناك النظام الذي انبثق عن حركة 23 شباط عام 1966 والانشقاق الذي حصل في حزب البعث الذي كان في السلطة. ليس المجال هنا بطبيعة الحال لمناقشة أو إثبات مشروعية هذه الحركة أو للحكم في ما إذا كان النظام الذي أقامته يقاد من قبل المؤسسات الحزبية أو تسيطر عليه الظاهرة العسكرية؛ فتلك وغيرها مسائل تتعلق بالنظام الداخلي لأي حزب سواء أكان في السلطة أم خارجها، لكن ما يهم الشعوب ومصالحها العليا، وما يجسد إرادتها، فتلك هي النتائج المتحققة على أرض الواقع، والتاريخ يحكم على مشروعية أي حركة سياسية، وعلى صحة أي برنامج سياسي على هذا الأساس.
لقد ذهبت القيادة التاريخية اليمينية، بواسطة حركة 23 شباط/ فبراير، ونحن يسار الحزب إلى السلطة، ولكن ماذا كانت تعني هوية اليمين واليسار، في تلك المرحلة، سواء على صعيد الفكر أو على صعيد الممارسة؟ وما هي المعايير التي كانت تستخدم لتصنيف اليمين واليسار، سواء بالنسبة إلى قوى وفصائل حركة التحرر العربية أو على الصعيد العالمي. اليوم، وإذ نعود بوعينا الراهن إلى مراجعة تلك التصنيفات التي سادت في تلك المرحلة وبخاصة خلال الصراع المتعدد الجبهات بين المعسكرين أو ما يسمى مرحلة الحرب الباردة، فإننا ندرك إلى أي مدى كانت تلك التصنيفات والتقويمات غير موضوعية وغير عملية، ولا تنسجم مع حقائق الواقع في أغلب الحالات؛ لأنها جاءت نتيجة سيطرة المنهج الأيديولوجي الإرادوي على فكرنا.
ما أود التذكير به والتوكيد عليه هنا هو أن هوية اليسار هذه التي كنا حريصين في حركة 23 شباط/ فبراير على تجسيدها آنذاك كانت بدورها الصفة المميزة لسياسات وممارسات كل الأجنحة المتطرفة في الحركات السياسية. هكذا كان الوضع بصورة عامة فلم يقتصر الأمر على الحزب بعد حركة 23 شباط/ فبراير، بل شمل العديد من فصائل حركة التحرر العربية، سواء داخل الأحزاب الشيوعية العربية أم في حركة القوميين العرب أم في اليمن الديمقراطي أم في فصائل اليسار في الثورة الفلسطينية. وكذلك فصائل عديدة في حركة التحرر الوطني في العالم الثالث، كان هدف التميّز بالنسبة لهذه الحركات، التميز في المواقف السياسية وفي الممارسات العملية، هدفًا بحد ذاته كي تعطي المشروعية لتميزها عن الحركات الأم التي جاءت من رحمها أو عن غيرها من الحركات الأخرى المتواجدة في ساحة عملها.
كنا نتصور أن العملية الثورية التي تلقى علينا مهمة قيادتها تسير دائمًا إلى الأمام وفي منحى متصاعد، وأن ليست هناك أي فسحة للمساومة أو المهادنة أو التراجع في قاموسنا؛ لأن ذلك كله يتناقض مع منطق العمل الثوري، ولأن مصلحة الشعب والقضية التي بعثنا القدر لأن نكون الأداة المؤهلة لتحقيقها تتعارض مع ذلك. هكذا كان معظمنا يؤمن بكل صدق وإخلاص. كنا ننطلق، في نظرتنا تلك وفي سلوكنا وممارساتنا، من أن شعبنا صاحب قضية عادلة في تحرير وطنه وتحقيق طموحه المشروع في التقدم والوحدة، لكننا عمليًا لم نكن ندرك أن القضايا العادلة لا يمكن أن تنتصر لمجرد أنها قضايا عادلة، وأنه لا يكفي أن نكون أصحاب حق، بل المهم أن نكون جديرين بهذا الحق، وهذا يتوقف أولًا، وقبل كل شيء على مدى ما ننجزه في المعركة الأشمل معركة التقدم والحضارة، وتجاوز حالة التخلف والفوات التاريخي.
كما تعلّمنا فيما بعد، من دروس التجربة الفيتنامية الظافرة، أنه لا يكفي أن تتبنى أي حركة سياسية أو نظام حكم ما أهداف وقضايا عادلة ومشروعة، ولا يكفي أن تكون الاستراتيجية التي تضعها لتحقيق تلك الأهداف صحيحة، بل إن النجاح أو الفشل في ذلك إنما يتوقف إلى حد كبير على برامج العمل وآليات التنفيذ، وعلى صحة التكتيك الذي يستخدم في تنفيذ تلك الاستراتيجية. كان أكثر ما يرضينا وما يبعث الاعتزاز والثقة في نفوسنا ما كانت تردده وسائل الإعلام العالمية أن سورية في ذلك الوقت أصبحت كوبا الشرق الأوسط.
كنا كمن آمن بسياسة حرق المراحل، ونجد لهذا الإيمان سندًا وتبريرًا في تجارب العديد من الشعوب، في منتصف القرن الماضي، دون أن ندقق في طبيعة الظروف الخاصة والعامة التي عاشتها كل واحدة من هذه التجارب: وهنا أتذكر أن الشعار الذي كان عزيزًا على قلوبنا والذي كان يلخص أبعاد رؤيتنا المستقبلية الشعار الذي تمحورت حوله مقررات أول مؤتمر قطري، وأول مؤتمر قومي بعد حركة 23 شباط/ فبراير هو “ثورة أو لا ثورة، هي القضية التي تواجه حزبنا وشعبنا” ثورة أو لا ثورة تلك التي أجملنا هدفها العام ببناء مجتمع عربي اشتراكي ديمقراطي موحد، أما ما هي آلية تحقيق أهداف الثورة، وما هي مراحلها، وما هي أدواتها وحواملها الاجتماعية، وما العلاقة بين القطري والقومي في مسار تحقيق تلك الأهداف، وما هو دور الأوضاع الإقليمية أو الدولية التي يمكن أن تساعد أو تعرقل إمكانية تحقيق أهداف هذه الثورة، فتلك أمور لم يكن الوعي الذي تسلحنا به لا نحن ولا غيرنا من فصائل حركة التحرر العربية، وأخص بذلك قوى اليسار منها، قادرًا على إعطاء تصور واضح لها. لقد كانت الصيغة المثلى بالنسبة إلينا وإلى فصائل اليسار العالمي في تلك المرحلة، الصيغة التي اخترناها لتنظيم حياة شعوبنا هي الديمقراطية الشعبية والنقابات المهنية والعناصر التقدمية، وكانت تلك الصيغة تعني في الواقع عسكرة المجتمع، وإلغاء الرأي الآخر وتصفية أي معارضة باعتبارها تمثل خروجًا على الخط الوطني الذي ترسمه سياسات الحزب العامة، لذلك نظرنا إلى الديمقراطية البرلمانية في أحسن الحالات كصيغة متخلفة باعتبارها ديمقراطية الطبقة البرجوازية، كما أنها بالأساس بضاعة غربية، لا تتواءم ومسار التطور المنشود لمجتمعاتنا. خلاصة القول إن الطابع الأساسي للوعي الذي امتلكته مختلف قوى اليسار العربي في تلك المرحلة سواء منها القومية أم الماركسية، كونه يجسد في جوهره خطابًا أيديولوجيًا شعبويًا وحماسيًا، افتقد إلى أهم عناصر الوعي العلمي النقدي، وهو العقلانية والمنهجية العلمية على صعيد الفكر والممارسة معًا.
ومن أخطر مظاهر ذلك الوعي الذي تجلى في سلوك فصائل اليسار العربي، في تلك المرحلة، الاستخفافُ بنهج المرحلية وبأهمية التكتيك المناسب في مسيرة إنجاز المهمات والأهداف الكبرى ولتبرير ذلك كنا نرد دائمًا بعض المنطلقات الماركسية بأن الشعارات الثورية، عندما تطرح على الشارع، تصبح ملك الجماهير التي تعبر عن إرادتها، وتتحول هذه الشعارات مع الوقت إلى قوى مادية لا يمكن حتى للذين طرحوها أن يتحكموا في مسارها اللاحق، ولا أن يساوموا عليها أو يتراجعوا عنها. هكذا إذن كانت الإرادوية والرغبة الفوقية هي التي تسير توجهات قوى اليسار العربي، سواء ما كان منها في السلطة أو خارجها، وذلك بدل الانطلاق من الإدراك الصحيح لمعطيات الواقع الموضوعي واستيعاب ظروف الوضع الإقليمي والدولي.
رأيت أنه كان لا بد من هذه الوقفة النقدية في محاولة لتقويم طبيعة النظام السوري، في أثناء حرب حزيران، وتقويم أبعاد سياساته. والدافع لهذه الوقفة النقدية اتفاقي مع الكثيرين الذين يرون أن السياسات التي انتهجها النظام، وخاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية وتبني استراتيجية حرب التحرير الشعبية، وذلك قبل إنجاز وتهيئة ما تتطلب من تحولات ومن مرتكزات، ولنقل أيضًا، من شبكة أمان في أرض الواقع، إن تلك السياسات ربما قد أسهمت في إعطاء “إسرائيل” الذرائع التي استخدمتها لتعبئة الرأي العام العالمي، بأنها كانت على وشك التعرض لعدوان يستهدف وجودها من قِبل مصر وسورية، هذه الوقفة النقدية إنما يستدعيها واجب الالتزام بالمنهج العلمي في قراءة وقائع التاريخ والابتعاد في الوقت نفسه عن استخدام نظرية المؤامرة والفكر الغيبي في تفسير تلك الوقائع. فكما ترشدنا إلى ذلك الهيغليّة ليس غير العقل لفهم معطيات الواقع الموضوعي، وليس غير العقلانية لاستكشاف آفاق المستقبل.
هكذا إذن كان الوضع الذي تعيشه المنطقة خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت حرب حزيران. لكن تسارع الأحداث وتصاعد نذر الحرب كان العامل الأبرز الذي ميز تلك الفترة العصيبة، والذي جعل مواقف القيادتين في مصر وسورية أقرب ما تكون إلى ردات الفعل دون توفر الوقت الكافي لتحقيق التنسيق والتخطيط الذي تفترضه مثل هذه المواجهة. وكما تبين فيما بعد، فإن هاتين القيادتين لم تتصرفا على أن الحرب واقعة لا محالة، أو أنها ستكون في وقت أبكر من كل توقع.
المصدر