فاسبيندر.. المخرج الذي أرعب ممثّليه


تُصادف اليومَ الذكرى الخامسة والثلاثون لوفاة المخرج الألماني رينر فيرنير فاسبيندر، إثر جرعة مخدّرات زائدة أودت بحياته شابًا عن عمر لا يتجاوز الـ37 عامًا. برز اسم فاسبيندر في ألمانيا خلال فترة السبعينيات، إلى جانب أسماء مخرجين آخرين كـ فيم فيندرز وفيرنر هيرتزوغ وغيرهم من روّاد السينما الألمانية الجديدة، إلا أن فاسبيندر، كان أغزرهم إنتاجًا، إذ أنتج خلال مدّة لا تتجاوز الخمسة عشرَ عامًا، أكثر من أربعين عملًا مختلفًا تنوّعت بين السينما والمسرح والتلفزيون.
لم يكتف فاسبيندر باتخاذ المواقف النقدية تجاه التاريخ والمجتمع فحسب، بل رأى أن على الفنان أن يكون شعبيًا أيضًا، عليه أن يكون رائجًا بقدر كونه نخبويًا. إلا أن الشهرة الواسعة التي نالها المخرج في منتصف السبعينات كانت حافزًا له لإدراك أهميّة أعماله على الصعيدين المحلي والعالمي، ودافعًا لفهم أعمق لشعار: “أن تكون ألمانيًا”، فالمخرج الذي كان يهوى السينما الهوليودية وسينما “النوع”، ويحتفي بإدخاله الميلودراما الهوليودية إلى صناعة السينما الأوروبية، تحوّل إلى نسخة أكثر نضجًا عن نفسه، وأكثر استجابة لمتطلّبات المرحلة التي كثرت بها محاولات العثور على سينما ألمانية وطنية أصيلة.

توجّه الأنظار إلى حياته
مع نهاية مرحلة السينما الألمانية الجديدة التي توازت، كما يرى بعض النقاد، مع نهاية فاسبيندر ووفاته في عام 1982، توجّه الاهتمام لينصب على حياة المخرج الشخصية، أو بشكل أدقّ، على نمط حياته. صحيح أن صانع الأفلام الشهير، الممثل حينًا، والمؤلف حينًا آخر، لم يكن رجلًا عاديًا على الإطلاق، فحياته القصيرة نسبيًا، كانت موضع جدل استمر حتى الآن، إدمانه على الكحول والمخدّرات، إلى جانب الإعلان عن ميوله الجنسية المزدوجة، جعل منه شخصية مستفزّة للعامة قبل وفاته حتى، لكن ما أثار حوله السخط الأكبر، هو التفاصيل التي رواها وتذكّرها، أو ربّما اختلقها أصدقاؤه وعشّاقه السابقون بعد وفاته.

ففي مقابلة حديثة لها مع صحيفة الغارديان، وصفت الممثلة الألمانية هانا شيجولا نفسها بأنها أحد الناجين من فاسبيندر الذي حوّل حياة الكثيرين إلى جحيم أرضي.

المبدع الذي تناول في أعماله موضوعة السلطة وتجلياتها على الأفراد، والعلاقة بين المضطهِدين والمضطهَدين في ظل المجتمع الألماني ما بعد الحرب، يظهر على ألسنة المقربين منه كوحش ومضطهد، يعتدي عاطفيًا ونفسيًا على كل من حوله. من بينهم الممثل غونثر كوفمان الذي هدّده فاسبيندر بإيذائه لرفضه إقامة علاقة معه، والمصوّر الشهير مايكل بالهاوس الذي كان فاسبيندر يهينه في موقع التصوير، والممثلة إرم هيرمان التي ارتبط بها فاسبيندر لمدّة ثم أجبرها على دخول مهنة التمثيل وعنفها جسديًا في كثير من المرّات.

كما تُربط به حادثة انتحار الممثلة أرمين ماير عقب انفصاله عنه، وغيرها من الأحداث التي تكشفت تدريجيًا، واسترعت انتباه علماء النفس الذين حاولوا دراسة شخصيته عبر التحليل الفرويدي، وكتّاب السيرة الذاتية الذين أرخوا لحياته المروعة بشيء لا يخلو من المتعة. ظهر فاسبيندر كبعبع في نظر البعض ممن لم يطلّعوا على أعماله حتى، بل وحاولوا بسذاجة ربط مثليته الجنسية، وتبنّيه للثقافة الفرعية، بسلوكه العنيف تجاه الآخرين.

شريط سينمائي، أم حياتي؟
تتداخل حياة فاسبيندر بشكل كبير مع أعماله الفنية، مما يجعل فهم أحداها يعزّز من فهم الأخرى، إذ أزال المخرج الحدود بين المهني والشخصي بشكل كامل، فتورّط في علاقات عاطفية مع العديد من العاملين في أفلامه، واستغل مكانته كمخرج لإذلال الآخرين، بمن فيهم والدته التي خصّص لها الأدوار الصغيرة في معظم أفلامه، انتقامًا لماضي طفولته. لقد أرعب ممثّليه، تصف شيجولا الأمر: “كان العمل معه كالعيش في ظل نظام فاشي”.

نستطيع أن نرى انعكاس ما تتحدّث عنه الممثلة واضحًا في فيلمه “احترس من العاهرة المقدسّة” خصوصًا مع شخصية “جيف” المخرج الطاغية المتحكّم بطاقم العمل، الذي يرتدي طوال الفيلم، كفاسبيندر في الحياة، سترة جلدية ضيّقة.

لكن الأمر المثير للاهتمام والجدل أيضًا، هو ربط الكثيرين سلوك فاسبيندر العدائي بقدرته الإبداعية، ليبدو أن تلاعب فاسبيندر بمن حوله وإيذاءه لهم كان مقصودًا وهادفًا، ففي الفيلم ذاته تقول إحدى الشخصيات المستاءة من سلوك المخرج لنفسها: “يمكنك معاملتي كما تشاء، لأن النتيجة ستكون عظيمة”. لقد أراد فاسبيندر شيئًا من هذه المعاملة القاسية لمن حوله، كانت “النتيجة” هي هدفه، فسعى إلى تحفيز الآخرين عبر إطلاق العنان لجنونه، وقسوته على الآخرين كانت لاعتصار شيء ما منهم، أو على الأقل هذا ما ظنه العديد من المحيطين به، ففي وثائقي عام 2000 “نساء فاسبيندر”، تقول الممثلة أورسولا ستراتز حول هذا الموضوع: “كانت هذه الإساءات بمثابة اختبار ناجح للذكاء، على الرغم من قسوتها، إلا إنها طريقته في إيقاظ الوعي”.

كل هذا يضعنا مجددًا أمام المعضلة الأبدية في العلاقة بين الفنان وعمله الفني. فاسبيندر الذي لم يصوّر الواقع بقدر ما استخرجه من نفسه، حتى غدا سهلًا الخلط بين ما هو أسطوري، وما حصل حقيقة في حياته، يشكّل نموذجًا خاصًا يزيد من تعقيد هذه المسألة. إذ تبدو قراءة أعمال الفنان في ضوء حياته إستراتيجية نافعة، إن نجحت في الربط المنطقي بين حياته وفنّه. وفي حالة فاسبيندر، فإن محاولة الفصل بين حياته وأعماله الفنية هي أمر صعب ولا منطقي، إن لم يكن مستحيلًا. فهما يشكّلان سوية السحر الذي يخصّ فاسبيندر. إن الانسجام بين الاثنتين يجعل منه رجل الثنائيات بلا شك، فقد استطاع المخرج أن يخلق تعايشًا لا مثيل له بين الحب والكره، وتناغمًا خالصًا بين العمل والموت. لتكون وفاته المبكرة والمأساوية مدعاة للسؤال: ما الذي كان سيفعله فاسبيندر لو عاش حياة أطول؟



صدى الشام