on
العجوز الذي يريد قتلي
مصطفى تاج الدين الموسى
لستُ صديقًا لأحد، لا أحب زيارة الآخرين، وإن زارني أحدهم يَضيقُ صدري على أنفاسي، ومكواةٌ ساخنة تمشي على مزاجي.. أيضًا، لديّ مشكلة مع النساء، لا أحب الحياة معهن أبدًا، إلا نصف ساعة كلّ أسبوع.. على الفراش، لأسباب تصنف لدى العامة على أنها أسباب قذرة.
شاهدته عن كثب -أول مرّة- في جنازة عمي، الشهر الماضي، عجوزٌ بوجهٍ بشعٍ كان يرمقني بشكلٍ غريب من بعيد، عندما انتبه لنظراتي غاب في ازدحام المعزين، تبًا لعمي وجنازته وأناسه والعجوز البشع، وكلّ هذا القرف.
أعيش وحيدًا في بيتي، أحب الطعام ومباريات كرة القدم، أرتاد المطاعم القريبة وبيتًا للمتعة في زقاق مظلم قريب من سوق المدينة.
مات أبي عندما كنتُ طفلًا، ثمّ ماتت أمي منذ سنتين تقريبًا، أُنفقُ على حياتي من إيجارات لعقارات ورثتها عن أبي في سوق المدينة، وأعتني جيدًا بموهبتي في الكسل.
أعتمد على وديع -الشاب الحانوتي تحت بيتي- في الحصول على حاجاتي مقابل مبلغ من المال.. خادمٌ مطيع هذا الـ وديع، مثل كلب أليف.
أحيانًا تزورني خالتي لترتب البيت وتغسل ثيابي، وتنشر “غلاظاتها” مع ثيابي على حبل الغسيل، ترهقني بإلحاحها على ضرورة الزواج، أتجاهلها لأتابع مباراة على التلفاز، وأسخر في سرّي من هذه المخلوقات السخيفة التي لا تحتمل: المرأة، الحب، الزواج، العائلة، ركلة جزاء غير صحيحة يا حيوان..
كلّ مساء أخرج إلى الشرفة، لأرش نباتات أمي بالماء، أجلب النرجيلة وأدفع طاولة التلفاز إلى الخارج، أدخن وأشاهد بمتعة المباراة، ثمّ أرمق بسخرية البشر في الشارع، البشر رائعون، لكن عن بعد.
جارتي أم محمود تهمس لجاراتها إنني الشخصية الوحيدة المتبقية على قيد الحياة من شخصيات مسلسل قديم (حكايته مخيفة) عُرضَ بالأبيض والأسود منذ عقود، محللة دراما خطيرة هذه الـ أم محمود.
أمام بناء بيتي، على الطرف الثاني من الشارع توجد فيلا قديمة، بناها أحد المغتربين منذ عقود ثمّ مات، الورثة كانوا متناثرين في أمريكا ولم يهتموا لأمر هذه الفيلا. لتصير مهجورة، تلعب بين غرفها العتمة مع الغبار في الفراغ.
خلال طفولتي سمعتُ الناس يتهامسون على حياءٍ: إن بعض المراهقين والمراهقات يتسللون سرًّا إلى داخلها ليمارسوا الرذيلة، عندئذٍ؛ أغلق رجال حارتنا بوابة الفيلا بجدارٍ عالٍ وصار من الصعب دخولها، إلا بتسلق جدرانها العالية والقفز إلى حديقتها.
لمحته للمرّة الثانية هناك، لا أعرف كيف دخلها، لا أزال أتذكر وجهه البشع في جنازة عمي، كنتُ على الشرفة أرش نباتات أمي بالماء، عندما انتبهتُ لذلك العجوز يراقبني عن كثب، من زاوية نافذة في الطابق الثاني من الفيلا المهجورة، عندما انتبه لي ابتعد مسرعًا مسدلًا ستارة عتيقة على النافذة.
لم أكترث للأمر، لكن.. في مساءات متتالية لمحته عدة مرّات يراقبني خلسة من زاوية النافذة، استغربتُ كثيرًا هذه التصرفات الغامضة لهذا العجوز اللعين، يبدو أنه متشرد، يعيش وحيدًا في الفيلا المهجورة، أعتقد أنه كان من أولئك المراهقين الذين دخلوها سرًا مع عشيقته، من أجل بعض المتعة منذ عقود، وفي منتصف شهوته في عتمة الفيلا، الرجال في الخارج أغلقوا البوابة نهائيًا بجدارٍ عالٍ، ليظل سجين الفيلا.
راقتْ لي الفكرة؛ فضحكتُ شارد الذهن على الشرفة، سرعان ما ابتلعتُ ضحكتي عندما لمحته يرمقني، ليختفي فورًا بمجرد أن نظرتُ إليه.
إطلالاته الكئيبة السرّية ومراقبته لي صارتْ تزعجني وتثير داخلي زوابع من شكوك.
منذ أسبوع، خرجتُ ليلًا مخمورًا من بيت المتعة، مشيتُ على الرصيف مترنحًا منتشيًا أنتظر وديعًا، ليأتي بسيارته ويأخذني إلى البيت.
عندما أشعلتُ سيجارة هوت عليّ من الخلف قبضة تحمل سكينًا تجاوزتها بأعجوبة، التفتُ خائفًا لأعرف من هذا الذي ينوي قتلي على الرصيف.
كان أمامي، مثل شبح، العجوز ذو الوجه البشع.
– أيها الحقير..
– أرجوك، أعذرني -بكى بصمت دموعًا خرساء لا تفسير لها، ثمّ أردف بصوت مخنوق- أريدُ أن أنقذكَ..
– تنقذني بأن تقتلني؟!
يا إلهي، إنه مجنون.. هجمتُ عليه ناويًا خنقه لكنه أسرع هاربًا، على رصيف بيت المتعة، في مطاردة متواضعة، العجوز كان أسرع من المخمور.
جاء وديع وساعدني على ركوب السيارة، انتبه لحالتي السيئة، ظن أنني تعرضتُ لمشاجرة مع المخمورين من رواد بيت المتعة.
لم أستطع أن أنام ليلتها، غيرتُ ثيابي وشربتُ القهوة مع السجائر، خرجتُ إلى الشرفة، كان هناك، على زاوية تلك النافذة، العجوز الغامض، يراقبني على الضوء الشاحب للقمر. ما إن انتبه لي حتى ابتعد في الحال عن النافذة.
وهكذا، بهواجس وشكوك مرّت الأيام، هو يراقبني من نافذة الفيلا، وكلما انتبهتُ له يختفي فجأة، مثل سراب في صحراء، عجوز حقير.. متأكد، سوف أنال منه قريبًا، لأعزف على وجهه البشع بمنشارٍ صدئ لحنًا دمويًا يُطرب له مزاجي الضيق.
شرح لي كلبي الأليف، وديع: أستطيع أن أجلب أجمل العاهرات لنتسلى معهن في الغرفة الخلفية من حانوتي، على راحتك، أفضل من الذهاب إلى بيت المتعة، الأمر يكلف نقودًا أكثر، لكنه ممتع أكثر، ما رأيكَ؟
غمزني بعينه بخبث، (موافق) أجبته وقد راقتْ لي فكرته.
في المساء رنّ وديع جرس بيتي، هتف سعيدًا:
– السهرة جاهزة وننتظر انضمامك، رتبتُ كل شيء..
ارتديتُ بيجامة جميلة وأخذتُ علبة السجائر، نزلتُ معه لندخل من ممر بنائنا عبر باب جانبي إلى الغرفة الواقعة خلف حانوته.
فتاتان جميلتان شبه عاريتين بابتسامات شهوانية، طاولة مليئة بالأطعمة والخمور والفواكه، مقاطع تمثيلية داعرة على التلفاز. سهرة متكاملة الفحش تليق بمزاجي.
شربنا وسكرنا ولهونا بجنون حتى ساعة متأخرة، صرخات ولهاث وخمر يسيل مع قطرات العرق على وجوهنا، ودعتهم ضاحكًا بأن لوحتُ لهم وأنا أتمايل، وكنت أشد بيجامتي على جسدي، خرجتُ لأصعد الدرجات مخمورًا، متعثرًا بساقيّ.
حاولتُ دسّ المفتاح في الباب انتبهتُ لشيءٍ ما خلفي، التفتُ فهوتْ عليّ سكين حادة نجوتُ منها بأن سقطتُ أرضًا، لتسقط جانبي تلك السكين من أصابع العجوز ذي الوجه البشع.. رمقته غاضبًا بعينين غاضبتين.
همس لي بحسرة:
– أريدُ أن أنقذكَ..
طارتْ السكرة، يريد أن ينقذني بأن يقتلني؟! ما أسخف هذا المزاح الثقيل، التقطتُ السكين عن الأرض وصرختُ به:
– سوف أقتلك أيها العجوز البشع..
أسرع لينزل على الدرجات، رغم تعبي تحاملتُ على نفسي، نهضتُ والسكين في يدي ونزلتُ خلفه، في الممر توقفتُ صدفة أمام باب غرفة وديع، سمعته يهتف بصخب للعاهرتين:
– إنه غبي، يعيش وحيدًا ولا يحب الناس، لا يزور أحدًا ولا أحد يزوره.. أنا صلة وصله مع العالم، وأربح منه نقودًا كثيرة..
امتزجتْ في أذنيّ قهقهاته مع قهقهات العاهرتين.
حقدٌ أسود صرخ داخلي كوحش بدائي: سوف أذهب لطعن ذلك العجوز، وعندما أرجع سوف أطعنك مع العاهرتين، يا وديع.
مبللًا بسوائلي خرجتُ إلى الشارع ليصفعني هواء الليل البارد، العجوز كان على حائط الفيلا المهجورة، كيف تسلقها رغم سنواته الهرمة؟ عندما شاهدني قفز إلى الداخل، أسرعتُ لأتسلق الحائط بصعوبة وأقفز إلى داخل الفيلا، وقفتُ منهك القوى لألتقط أنفاسي في الحديقة المهملة، كنتُ وجهًا لوجه مع العتمة، مشيتُ بتعب وأنا ألوح أمامي بالسكين، دخلتُ الفيلا على ضوء القداحة، وصعدتُ إلى الطابق الثاني، كنتُ متأكدًا أن هذا الوغد العجوز مختبئٌ في تلك الغرفة التي يراقبني منها.
مشيتُ مع أوجاعي التي كانت تزداد بعد كلّ خطوة، في ممر الطابق الثاني، بهدوءٍ.. على الضوء الخافت للقداحة، كانوا بوجوههم الشاحبة المتناثرة على أبواب الغرف المعتمة على جانبي الممر، يشيرون لي بأيديهم إلى تلك الغرفة.
جثة أبي، جثة أمي، جثة عمي، جثث أخرى لأناسٍ أعرفهم ماتوا في أوقات مختلفة.
بدا لي وكأنني في نزهة سوداء داخل كابوس بشع بين القبور.
خلال هذه الخطوات، بدتْ لي حياتي على ضوء القداحة وكأنها رحلة داكنة، لا أعرف من ورطني بها.
وصلتُ غرفته، دخلتها بحذرٍ وأنا ألوح بالسكين، لم أعثر عليه، أين تبخر هذا الوغد؟ تعبُ ألف سنة فتك بكلّ جسدي، وكأن عبوري للممر بين غرف جثث الأهل والأقارب والمعارف قد استغرق مني ألف سنة.
انتبهتُ للنافذة، الهواء في الخارج كان متواضعًا، لم يعكر كثيرًا مزاج ستارتها، عن زواياها كان ضوء النهار يتسلل بخجل.
مشيتُ ببطءٍ مثل سلحفاة وأنا أتوجع بصمت، أزحتُ برأس السكين قماش الستارة القديمة، أزعجني قليلًا ضوء النهار.
رمقتُه بأسى، بكيتُ بصمت، خوفي عليه أربكَ عينيّ فتأملته وكأنه حلمٌ صار بعيدًا، راقبته طويلًا.. يبدو أنه ليس صديقًا لأحد، همستُ بحسرة:
– أريدُ أن أنقذكَ..
ذلك الشاب، وهو يرش النباتات بالماء على الشرفة المقابلة لنافذتي انتبه لي، تراجعتُ بخوف مع السكين، تاركًا الستارة العتيقة تُسدل على النافذة.
المصدر