المــــــــــسرح الذي ســــــــــنراه


حاتم محمودي

لقد وضعت الاحتفالات الجماعية تعبيرات الإنسان الأولى وتمثّلاته ورؤاه الممعّنة للعالم، لحظة تَعقْلُنِ الفكر البشري، وخروجه من حريم الأسطورة ومرحلة الدين البدئي إلى صالونات الفلسفة، مولودها الذي أطلقت عليه اسم المسرح، بما هو ضدّها النوعي، لكن يبدو أن الراهن الحاليّ يكشف عن ترهّل هذا الجنين، فقد شاخ بدوره وعمّر طويلًا؛ ما يدفع إلى التساؤل عن ضدّه النوعي ووليده هو الآخر، وما إذا كان يحبل بجنين يدمجه في أشكال فنّية جديدة؛ إذ كفّ قرينه –الشّعر- منذ حقبة طويلة نسبيًا عن اشتغاله وفق الجانب الميثيولوجيّ. وإذا كنّا نتّفق أنّ ما يسود عصرنا الحاليّ لا يتعدّى “اضطراب العالم” بعبارة “جون بودريار”، فإنّ مهمّة الشاعر لا تتعدّى بحثه عن خلاص ذاتيّ، كأن تصبح الكتابة وجودًا لغويًّا يقول ما لم يفصح عنه العدم، أو لنقل قد حدث نوع من الطلاق بين المسرح والشعر، منذ نهاية التمثّل الأسطوريّ للعالم، فلم يعد ثمّة ذلك التراجيديّ الذي يسرد كينونة النوع البشريّ، بقدر ما نحن الآن ندخل طور “صناعة الثقافة” بعبارة “أدورنو”، حيث لا يوجد غير حظيرة من الأسواق والتجّار، انتحلوا صفة المسرحيين والشعراء؛ ما دفع “والتر بنيامين” إلى الإعلان عن تداعي هالة الفنّ.

لقد كانت عملية ولادة المسرح الأولى مقترنة بانتفاخ بطن الأشكال الفرجوية (الخصب الباخوسيّ) تجاه الأشياء والعالم، حيث نشيد المزارعين ضدّ الجدب، وهم يقدّمون قرابينهم إلى سيّد الكروم: ذلك القديم من التمثّل الأسطوري لراهنهم، ثمّ تزاوجها -فيما بعد- مع تراجيديات الشعراء الغابرين، وفلاسفة دفعوا الفكر الآدمي إلى ضرورة منطَقة الأشياء، أمّا أن يضع مولوده الخاص، فذلك مقترن بمحاولة تشغيل دماء حضارتنا الآنية: ما الذي يكتبه شعراء هذا العصر الذي تسوده خيام الموت ونزاع الهويّات؟ أيّ قصيدة تكتب الآن في حضرة المسرح، يمكنها إعادة ضخّ السلوك الإنسانيّ فينا؟ وهل ثمّة شعراء حقيقيّون يقيمون في قرى الإنسانيّة بدل “أرذال الجيوش”؟ وهل ثمّة مسرحيون يمتلكون بدائل جديدة في هذا العالم عوضًا عن سلوكهم البافلوفيّ ضدّ وحشيته، أو انخراطهم في معادلة أسواقه؟ أم هل علينا النظر إلى حياتهم باعتبارها أثرًا فنّيًا في حدّ ذاته: وهكذا سيتسنّى لنا الضحك تجاه خصوماتهم الإنتاجيّة وتفاهة رثاء بعضهم لبعض، أمام يافطات ذلك الكائن الميتافيزيقي “عزرائيل”، كلّما أخذ أحدهم؟ مَنْ مِنْ هؤلاء يمكنه مسرحة هذا العنف الكوني بترجمته لغويًّا، ثم زراعته في أوصال اللحم المسرحي؟ ما المسرح الذي نبحث عنه، وأيّ نصّ يمكن أن يسكنه، ثم في أيّ فضاء يمكننا قذفه، وبوجه من؟

دعنا يا صاحبي نؤجّل كلّ هذه الأسئلة، فالإجابة عنها موجودة -سلفًا- في الكتب ورفوف المكتبات، وبدل ذلك، اقترب وتخيّل معي:

بعد مليون سنة من الآن! كيف سيكون سطح البسيطة، وتلك الأجرام المعلّقة كعناقيد الذهب على صرّة السماء، وهذه الأنهار والمدن والمسارح والشاشات العملاقة، وهذه الكتب والمدارس وقاعات السينما؟ بعد مليون سنة من الآن فقط، ونحن نسبح في هذا النسيج الكوني الذي نخيطه، ولا يضيق خرقه، ونحن في سديم الغازات لعالم لا يرضيه إلا مصافحتنا في جفنة مليئة بالدم، في كون ينقلب على نفسه باستمرار مثل طفل يعشق العبث.

تخيّل يا صاحبي!

حاول أن تنسى جوعك الآن، ومدينتك التي شطبتها الحرب: بعد مليون سنة فقط، ماذا سنصير؟ هواء آخر، سماء أخرى، دولًا أخرى، فقراء وماركس آخر، أم ضربًا من البنوك الأخرى لكنها أكثر تعقيدًا، أو لنقل كائنات أخرى شبيهة بكلب الجحيم “سربروس”، صاحب الأشداق الثلاثة؟؟

ماذا لو صار الكائن البشري، في خضمّ هذا الطوفان المتدفّق بالكوارث، في خضمّ هذه التحوّلات المرعبة، في خضمّ هذا الجنون الهستيري، في خضمّ تخصيب الجينات وعوالم موازية، ماذا لو صار مستذئبًا، أو مصّاص دماء، أو نجمة، أو حشرة تتناسل بين أجفان قوس قزح، أجل فقوس قزح هو الآخر ستصير له أجفان على سبيل المثال، أو ربّما فراشة لها جناحان عملاقان مثل جناحي طائر البراق، أو ربما عصفورًا صغيرًا يحطّ على غصن نخلة اسمها المرّيخ، تخيّل يا صاحبي أن يصبح هذا الكوكب المرعب شجرة نخل!

ولا تتخيّل الآن معي، فأنت مدعوّ إلى طرح الأسئلة المستحيلة في هذه اللحظة: ماذا ستكون عليه ثقافتنا حينئذ وكيف سنمارس الفعل المسرحي وما هو شكل الركح (الخشبة) الذي سيكون؟

لنفترض، تخيلًا، أنّ كلًّا منّا سيمتلك كوكبًا بمفرده، أنّ لكلّ منّا جيش من الوحوش المدافعة عن دولته، وحوش من فصيلة الفيزياء: أن تصير للفيزياء -أيضًا- إحساسات، فتحبّ وتكره وتطلق الرصاص وتخطّط للمعارك والحروب، ولكنّها حروب بشكل آخر، كأن يكون الرقص -مثلًا- أو ممارسة الجنس؛ الضدّ النّوعي للقتل والغزوات ونهب الثروات.

ياااه! سيكون ذلك مذهلًا أو ربما أجمل من القيامة.

وماذا عن الخرافة والسينوغرافيا والدراماتورجيا وعلاقة المخرج بالممثلّين والهياكل التي ستنتج الأعمال المسرحية؟ الآن سيؤلمك رأسك يا صاحبي! ولكن لا. لنقهقه يا قريني، ولنضحك عاليًا بكلّ ما أوتينا من سخرية واستهتار عنيف لا يلجمه حتى الله، ولندحض بقوّة موغلة في التشفّي والكره والحقد، كلّ هذا الإسطبل الفنّي الذي نراه اليوم.

انتبه يا صاحبي: لسنا هنا بصدد الحديث عن الجدوى من فنّ الراهن، ما نحن إلا أطفال نلهو، نبحث عن المسرح الذي نحبّ أن نراه، ولنعد إلى المستقبل!

تقول الخرافة إنني هناك أقيم مملكتي بين ثقبين أسودين، وحبيبتي تفرك نهديها في مثلث “بارمودا”، وعلينا أن ننجب طفلًا من فصيلتنا الجديدة: نحن الآن -مثلًا- يرقات حجمنا أكبر من الجبال، سأرسل لها خلّية من دمي مشبعة ومغمّسة بالحيوانات المنويّة، على أن تتحوّل إلى جزيرة في ذلك المثلّث، وعلى حبيبتي أن تغرس نخلة هناك، كي تشدّ بجذعها مثلما فعلت أمّ المسيح.!

ستقول وضعيات المسرحية وشكلها الدرامي، بغياب الصراع في مفهومه الأرسطي، ذلك أننا سنمارس الجنس عن بعد، كأن أرسل لحبيبتي خليّتي وأنساها، هكذا كي لا أكون مقلّدًا أو محاكيًا لفعل الربّ بشكل أعمى، فأنا -أيضًا- ربّ، ربّ جديد ولي حكمتي، وتذكّر يا صاحبي: إن كلّ ما يحدث حولنا الآن من حروب وويلات ودم، هو نوع من استحضار الألوهة الكامنة فينا.

ستكون السينوغرافيا من ذرّات الرّمل الساخن في تلك الجزيرة، أمّا الإضاءة فستشعّ من عيون الديناصورات بعد أن عادت إلى الحياة، ولك أن تسأل يا صاحبي عن تلك الشريحة المستهدفة من ذلك العرض، أيّ جمهور سيراقب ويتفرّج؟

إنهم فعلًا معشر البشر القدامى، أولئك الذين رفضوا تقدّمنا مليون سنة إلى الأمام، فهجرناهم وتركناهم على الأرض، وقد صارت عجينًا مدنّسًا في ذاكرة الغبار البشريّ.

فكن مستقبليًّا يا صاحبي! فما ذلك إلا مسرح سنراه!




المصدر