بعد مصائد الفقر… أطفال سورية في شباك سوق المهن الخطرة


علاء كيلاني

قد تبدو آفاق الحياة بالنسبة للأطفال العالقين في مصائد الفقر والحرمان، وفي شباك سوق العمل الموازي، أشبه برحلة لا مستقبل لها. تزداد خلالها معاناة جيل، افقدته الحرب طفولته، وقررت من سيموت منه، أو من سيمتلك ما يكفي من الطعام، أو من سيستطيع الذهاب إلى المدرسة والطبيب، أو اللعب في ساحة مكشوفة، عن طريق صواريخ وقذائف قد تنفجر في لحظة ما.

تلك هي بعض تفاصيل حياة أكثر من 9 ملايين طفل، يشكلون 80 بالمئة من أطفال سورية، داخل البلاد أو خارجها، كلاجئين في الدول المجاورة، تأثروا جميعهم بتداعيات حرب قذرة، يشنها نظام الأسد بمساعدة قوى حليفة، مضى عليها نحو سبع سنوات.

قبل عامين، وجد راغب نفسه فجأة وجهًا لوجه أمام أحد عناصر الشرطة الأردنية، استدار مسرعًا محاولًا الفرار بما يحمل بين يديه في الاتجاه المعاكس، لكن عنصرًا آخر أمسك به، على بعد أمتار قليلة. خضع لتحقيق انتهى بإخلاء سبيله، شرط ألا يعود إلى نشاطه المعتاد في جمع الخردوات والنفايات المعدنية من حاويات القمامة في شوارع مدينة المفرق، شمال الأردن.

 بدأت قصة انخراط الطفل السوري راغب (14 عامًا) في سوق العمل، في وقت مبكّر. فقد قُصفت بلدته الواقعة على بعد عشرة كيلومتر شمال مدينة درعا. كان يحلم بمواصلة تعليمه ليدخل الجامعة، ويعود إلى أسرته بشهادة التخرج التي طالما رسم لها مستقبلًا ورديًا مع زملائه على مقاعد الدراسة. لكن مخاطر الحرب التي عانت أسرته منها طويلًا، دفعت الجميع إلى مغادرة البلدة، واجتياز الحدود الأردنية هربًا من براميل الموت التي كانت تلاحقهم في كل مكان.

في أواخر عام 2013، أصبح راغب مع أسرته وعدد من أقربائه على لائحة سجلات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأردن. ولأول مرة شعر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، عندما تعرض والده الذي يعمل في قطاع الإنشاءات لحادث أثناء العمل، وأصبحت الأسرة عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها، كتسديد أجرة المسكن، وفواتير الكهرباء والماء.

يُعدّ راغب واحدًا من عشرات الآلاف، ممن يعملون في سوق العمل غير النظامي. كما أنه واحد من 2.8 مليون طفل ومراهق سوري في الأردن ولبنان وتركيا، تعطل تعليمهم، بعد أن قُصفت مدارسهم، أو خَطفت الحرب ذويهم؛ فهربوا خارج البلاد، ليلقوا مصاير، انتهكت فيها براءتهم وحقوقهم، وتحولوا إلى عمال صغار في بيئة صعبة، لم تراعِ دوافع لجوئهم، أو هربهم من بلد يعاني الأهوال تحت سلطة ديكتاتور، حرق مدنهم وبلداتهم ومنازلهم، وحولها إلى أطلال تفتقد الحياة.

في اليوم العالمي الذي تنظمه الأمم المتحدة لمكافحة عمل الأطفال، ويصادف اليوم 12 حزيران/ يونيو، تبدو صورة الأطفال السوريين أكثر قتامة؛ فوفقًا لمصادر حكومية في عمّان، دخل نحو  60ألف طفل سوري لاجئ سوقَ العمل غير الرسمي، يشكلون نحو 70 بالمئة من مجموع عمالة الأطفال في الأردن. وهناك نحو نصف مليون طفل سوري في لبنان، 18/3سنة، 59 بالمئة منهم، دون تعليم، أغلبهم لجأ لسوق العمل، بدافع الحصول على مدخول يغطي احتياجات أسرهم اليومية. كما انخرط آلاف الأطفال في تركيا، دائرة الحياة العملية، ومارسوا العمل ضمن مهن مختلفة، على الرغم من جدية مساعي حكومة أنقرة، في استقطاب العدد الأكبر منهم في مدارسها الرسمية.

 حينما تلتقي بأي من الأطفال، ستلحظ اليوم في عيونهم بريقًا باردًا، ونظرات مكتئبة، ومشاعر ميتة، قد لا تلحظها لدى نظرائهم في أي مكان آخر من العالم، يضيف الخبير في علم التربية والنفس إسماعيل المعري: “أكثر ما يدعو إلى الإحباط أن مشكلة هؤلاء تخطت البعد الإنساني، وأصبحت بمنزلة صدمة اجتماعية خطرة، قد تمتد ذيولها سنوات طويلة. يضيف لـ (جيرون): توقف الأطفال عن التعليم، والتحاقهم بسوق العمل -بصرف النظر عن الدوافع- سيؤثر على مستقبل الحياة التعليمية والاجتماعية في البلاد مستقبلًا، كما سيؤثر في نموهم الفكري، وفرصهم المستقبلية في مرحلة ما بعد الحرب، وهي مرحلة مهمة تحتاج إلى جيل متعلم، واع، يمتلك المؤهلات التي تمكنه من إدارة مرافق البلاد ومؤسساتها.

لم تكن الحرب التي يشنها الأسد بمفردها وراء نشوء ظاهرة عمل الأطفال، فقد عانت البلاد تحت حكم البعث، طوال فترتَي رئاسة الأسد الأب والابن، من نمو هذه الظاهرة، في أعقاب سياسات اقتصادية، متضاربة، كانت تفتقر لعدالة توزيع الدخل الوطني، بالتزامن مع ضعف الأجور والرواتب، وانكماش التنمية، وسيطرة الطبقة المتنفذة في السلطة على مقدرات البلاد، واستثمارها لصالح مشاريع، بعضها سلطوي وبعضها الآخر شخصي، مقرب من الرئاسة، أو من مراكز القوى الحاكمة.

فقد بلغ النمو الوسطي السنوي للاقتصاد السوري، خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1980/2008 بحسب معلومات رسمية، نحو 2.87 بالمئة، مقابل نمو سكاني سنوي في الفترة نفسها بلغ نحو 2.94 بالمئة، ما يعني أن حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي كانت ضعيفة، وهذا بدوره همش فئات كبيرة من السكان. وخلال السنوات 2004/2003-1997/1996 تراجعت عدالة توزيع الدخل الوطني بشكل واضح، بالنظر إلى ارتفاع معامل جيني وفق نتائج مسح أجرته “الحكومة” لدخل ونفقات الأسرة السورية، من 0.33 إلى 0.37، في دلالة على انحدار فئات سكانية جديدة إلى مستوى خط الفقر أو ما دونه.

يربط الخبير الاقتصادي محمد الزعبي انتشارَ ظاهرة عمل الأطفال، في فترتي الأسد الأب والابن، بالوضع الاقتصادي السيئ الذي عاشته سورية؛ لأن تدني الوضع المالي للأسر كان عاملًا مهمًا لدخول الأطفال سوق العمل، وكلما تراجع المستوى الاقتصادي ازدادت فرصة عمل الأطفال. أضاف لـ (جيرون): حتى الأسر ذات الدخل المتوسط آنذاك، دفعت أطفالها للعمل، من أجل تأمين مردود إضافي يجنبها العوز والحرمان، ثم جاءت الحرب لتزيد الطين بلة، وتدمر مستقبل جيل بأكمله، لم ير في حياته غير الطائرات والدبابات والصواريخ والانفجارات، وذلّ العمل في مهن لا تصلح لأعماره، لم يكن يتوفر غيرها، داخل سورية أو في بلدان اللجوء.

تكشف المسوحات المختلفة، عن توزع عمل الأطفال النازحين واللاجئين، في سورية والأردن ولبنان وتركيا ومصر والعراق، على خمسة قطاعات اقتصادية (الصناعة، والزراعة، والبناء، والخدمات، والحرف) يحتوي بعضها على عدد من المهن الخطرة للغاية.

وتصف منظمة العمل الدولية عمل الأطفال بالمهن الخطرة، بأنه أسوأ أشكال عمل الأطفال، بموجب المادة 3 (د) من الاتفاقية رقم 182، وتتضمن حسب التوصية رقم 190: العمل الذي يعرض الأطفال للإيذاء الجسدي والنفسي، أو الجنسي، كالعمل تحت سطح الأرض وتحت الماء، وعلى ارتفاعات خطرة، أو في أماكن ضيقة. العمل مع الآلات والمعدات والأدوات الخطرة أو التي تنطوي على أحمال ثقيلة. العمل في بيئة غير صحية تعرض الأطفال لمواد خطرة أو لدرجات حرارة ومستويات عالية من الضوضاء. العمل في ظل ظروف بالغة الصعوبة، مثل العمل لساعات طويلة أو أثناء الليل أو العمل ضمن شروط متشددة عقديًا من قبل صاحب العمل، على نحو غير مقبول.




المصدر