on
تناغم أم تنافس بين أستانا وجنيف؟
عقاب يحيى
ديمستورا، المبعوث الأممي في زيارته لموسكو ولقائه بوزير الخارجية الروسي، يشيد بـ “إنجازات” أستانا، خاصة لجهة “تخفيف وتيرة إطلاق النار”، وقصة “تخفيف التصعيد”، وبما يُظهره وكأنه يرحب باستمرار أستانا طريقًا “مكملًا”. بينما يتخوّف -كما صرّح مرارًا- من أن يصبح بديلًا، أو موازيًا يسحب معظم البساط من تحت مسلسل جنيف الذي ما زال يدور في الشكليات، ولم يدخل صلب العملية السياسية؛ بما يزيد من مخاوف ديمستورا من فشل مساعيه.
قصة أستانا تثير ملاحظات عديدة لدى المعارضة، ملاحظات على صعيد الائتلاف الذي لم يخفِ تحفظاته بدءًا، وعلى امتداد الجولات الأربع، وما تطرّقت إليه الجولة الرابعة من النصّ على مناطق تخفيض التصعيد المبهمة المضمون، والجغرافيا، والهدف، أو من قِبل الهيئة العليا للمفاوضات التي أصدرت بيانًا وجهت فيه عددًا من الانتقادات والتخوفات، أو من قِبل الفصائل العسكرية المشاركة وغير المشاركة التي تقدّمت بعدة اعتراضات، خاصة بالاحتجاج على اعتبار إيران طرفًا ضامنًا، أو لجهة غموض الهدف من وراء تحديد ما يسمى المناطق “منخفضة التصعيد”، وملاحظات على صعيد التسمية التي لا تعني وقفًا شاملًا لإطلاق النار، أو عدم ذكر مناطق ساخنة أخرى، تتعرّض للقصف والتهجير والتغيير الديمغرافي، أو الخوف من أن تصبح أستانا بديلًا عن جنيف.
نعلم أن مشروع أستانا جاء بمبادرة روسية، كنتاج للهزيمة في حلب، واختلال ميزان القوى لصالح النظام وحلفائه، خاصة الجانب الروسي الذي عدّ نفسه المنتصرَ الأكبر في حلب، وبالتالي من حقه أن يحصد بعض النتائج على الصعيد السياسي، وفي مجال ترتيب أوضاع يكون له فيها دور مهم، ومناطق نفوذ، وتحقيق مصالح يسعى للوصول إليها.
لم يكن خافيًا مساعي الروس للدفع باتجاه أن تصبح أستانا الممرَّ العملي لترتيب الأوضاع السورية بما يتجاوز الجانب العسكري الميداني إلى السياسي، وفرض بدائل عن القوى السياسية بأخرى عسكرية مضعضعة الأوضاع، ويمكن إجبارها على توقيع اتفاقات يرفض السياسيون إبرامها.
لذلك كان الاهتمام الروسي كبيرًا بإقحام الملفات السياسية والسيادية في جدول الأعمال لجميع الجولات، بدءًا من محاولة اعتبار الفصائل العسكرية هي المرجعية دون العودة للهيئات التمثيلية كالهيئة العليا للمفوضات، أو الائتلاف، وتوقيع بعض الوثائق المجحفة بحقوق الثورة، مرورًا بمحاولات وضع عدد من القضايا السياسية السيادية، كطبيعة وشكل الحكم، والدستور، والمفاوضات المباشرة مع النظام، وصولًا إلى ما يعرف بـمناطق “تخفيف التصعيد”، وفرض إيران طرفًا ضامنًا، بما يتنافى وطبيعة الدور الإيراني في التدخل المباشر، وحماية النظام، وفي مشاريع التطييف والتغيير الديمغرافي، واستقدام الميليشيات الطائفية وما تفعل في بلادنا.
وفي حين يصرّ وفد المعارضة العسكرية على حصر مهمات أستانا بوقف إطلاق النار ومتابعته عبر لجان مختصة، ومحاسبة من يخرقه باستمرار، يحاول الطرف الروسي العبور من بعض الثغرات، ومن واقع الفراغ الحاصل، وعدم تقدّم العملية السياسية ومسار جنيف الذي يراوح في الشكليات، وهو يعمد كل مرة لزجّ بعض المسائل الخارجة عن النطاق المحدد.
تركيا الحليف الأكبر للثورة السورية في أستانا كانت، ولأسباب متداخلة، مضطرة للعبور من بوابة أستانا بهدف تحقيق بعض الأغراض المتعلقة بإيقاف، أو تخفيف عمليات القتل والتدمير اليومي، وطرح بعض الملفات الكبيرة الخاصة بالميدان ومستقبل سورية، بالتأكيد على وحدتها الجغرافية واستقلاليتها، وقيام نظام تعددي بديل لنظام الفئوية والاستبداد، ومحاولة التوصل لنوع من التفاهمات مع روسيا وإيران، طالما أنهما لاعبان مهمان بالمسألة السورية ولهما وجود كثيف على الأرض، إضافة إلى الخطوط الحمراء التركية حول حجم ودور ومساحة عمل الـ (بي ـ واي ـ دي) الذي لم تصل تركيا إلى تفاهمات بشأنه مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تناقلته وكالات الأنباء عن نتائج زيارة الرئيس التركي للإدارة الأمريكية الجديدة المصرّة على تسليح “قوات سورية الديمقراطية” ومنحها دورًا كبيرًا في معركة “تحرير الرقة” وفي التحضيرات للمرحلة التالية.
أستانا، في ظل جمود العملية السياسية في جنيف، وعدم وجود أي اختراقات فيها حتى الآن تنقلها من الشكليات والجزئيات إلى مضامين المفاوضات والانتقال السياسي، تبقى طريقًا منافسًا يحقق بعض الخطوات.
لكن أسبابًا مستجدة أدّت إلى تأجيل الموعد الذي كان مقررًا في الثاني عشر من هذا الشهر لأجل غير مسمى، ويبدو أن تطورات الخلافات في مجلس التعاون الخليجي، والإجراءات التي اتخذتها بعض دوله تجاه قطر، وانعكاس ذلك على الموقف التركي، وبعض الخلافات حول مساحة ومضامين مناطق تخفيض التصعيد، والخروقات اليومية، وما تشهده درعا من قصف شامل، ومناطق سورية أخرى.. أسهمت أيضًا في هذا التأجيل، بينما لا تلوح هناك مواعيد قريبة لجولة جديدة في جنيف.
يحاول ديمستورا جاهدًا إيجاد شيء من التناغم بين جنيف وأستانا؛ فيطلق بعض النعوت الإيجابية على ما يتحقق هناك، ويرى أنه مكمل لجنيف وليس بديلًا عنه، في حين أن استمرار تجويف جولات جنيف، ووصوله إلى الباب المسدود، سيطلق عنانًا أكبر لأستانا، والطموح الروسي غير مخفي لتحويله إلى ممر لترتيب الأوضاع السورية، وفق موازين القوى الحالية التي ليست لصالح الثورة السورية.
المصدر