on
عشية حرب 1967
مروان حبش
اتخذت القيادة السياسية في المتحدة قرارها الاستراتيجي، بمساندة سورية، في مواجهة احتمالات العدوان الإسرائيلي عليها.
في الساعة 11 من صباح يوم 14 أيار/ مايو، صدرت عن قيادة جيش المتحدة التعليمات الحربية رقم 1/ 67، وفيها: (تؤكد المعلومات من مصادرها المختلفة نية “إسرائيل” في العدوان على سورية، وفي ضوء اتفاقية الدفاع المشترك بين الـ ج.ع.م، والـ ج.ع.س، قررت القيادة العليا للقوات المسلحة في الـ ج.ع.م التدخلَ جوًا وبرًا في حال قيام “إسرائيل” بعدوان شامل على الأراضي السورية بقصد احتلالها أو جزء منها أو تدمير القوات الجوية السورية.
إن هذا القرار استثنى حالات الاعتداءات الإسرائيلية المعتادة، أي الإغارات على سورية التي لا تستهدف احتلال أراض، أو تدمير شامل للقوات السورية، لإسقاط أي ذريعة للصهاينة، قد يتخذونها للبدء بالعدوان.
كما اتخذت كلٌّ من المتحدة وسورية عدة قرارات وإجراءات للتأهب لمواجهة التهديد بالعدوان، ومما تضمنته: التعبئة العامة في القوات العسكرية -رفع درجة استعداد القوات- تحريك القوات باتجاه الجبهات والتمركز في المواضع المحددة لها في الخطط العسكرية- تجهيز الخطط “التعرضية، والهجومية، والدفاعية” المتفق عليها بين قيادتي الجيشين -سرعة استكمال مطالب أجهزة الدفاع الوطني والمدني -التأهب للقيام بعمليات تعرضية ذات مهام محدودة داخل “إسرائيل”- إعداد خطة بحرية محدودة بالنسبة للمتحدة.
وفي 15 أيار/ مايو، بعث الدكتور جورج طعمة إلى رئيس مجلس الأمن، رسالة أعلن فيها أن تصريحات الحرب التي يُدلي بها رئيس حكومة “إسرائيل” ليفي أشكول ووزير الخارجية آبا إيبان تصل إلى حد يجعلها أشبه بإعلان صريح للنية بشن أعمال عدوانية واسعة النطاق ضد القطر العربي السوري.
وفي موسكو استدعى نائبُ وزير الخارجية السوفييتي فلاديمير سيميونيف، السفيرَ الإسرائيلي، وسلّمه في 27 أيار/ مايو 1967، رسالة تحذير من حكومة الاتحاد السوفييتي جاء في مقدمتها: (إن الحكومة السوفييتية تمتلك معلومات بخصوص القوات الإسرائيلية التي حُشدت مؤخرًا على طول الحدود مع الدول العربية، وأن حشد هذه القوات ينطوي على طابع خطير، خاصة أن ذلك يتم في وقت واحد مع حملة دعائية في “إسرائيل” معادية لسورية).
ولاستمرار “إسرائيل” في التمويه على قرارها في العدوان، نقل سفيرها في واشنطن، إلى دين راسك وزير الخارجية الأميركي، أن لدى حكومته معلومات أكيدة مفادها بأن هجومًا مصريًا – سوريًا سيقع ليلة 26 – 27 أيار/ مايو، واتصلت الخارجية الأميركية بنظيرتها السوفييتية؛ وتم الإيعاز إلى سفيريهما في المتحدة بتسليم رسالتين إلى الرئيس عبد الناصر بعد منتصف ليلة 26 – 27 أيار/ مايو، تتضمنان مناشدة حكومتيهما ضبط النفس وعدم بدء مصر بالعدوان، ومما ورد في الرسالة السوفييتية: (إن رئيس الوزراء كوسيغين ينصح الرئيس ناصر بعدم البدء بالهجوم، وألا يستمع إلى ضباطه الذين يحرضون على البدء به).
ونتيجة لهذا التحرك الديبلوماسي السريع والمباشر للدولتين العظميين توصلت القيادة السياسية في الـ ج.ع.م إلى قناعة بأن استعادتها لحق الـ ج.ع.م الشرعي في ممارسة سيادتها على المضائق ستسلك طريق الحل السياسي.
في هذه الأجواء، ومن خلال هذه المعلومات والتصريحات التهديدية والأعمال العدوانية، اجتمع وزير الخارجية السوري، يوم 13 أيار/ مايو، على عجل مع سفراء الدول الكبرى لاطلاعهم على التهديدات الإسرائيلية بغزو دمشق، كما نشطت الاتصالات بين القطرين، على المستويين السياسي والعسكري، لتنسيق المواقف ومواجهة العدوان المرتقب ووضع الخطط العسكرية المطلوبة، حسب اتفاقية الدفاع المشترك، لصد أي هجوم صهيوني، وضمن هذا التوجه كانت زيارة الفريق صدقي محمود قائد السلاح الجوي في الجمهورية العربية المتحدة يوم 10 نيسان/ أبريل 1967، بعد الغارة الجوية الإسرائيلية على مطار ضمير العسكري، وصدر بيان مشترك عقب الزيارة أعلن: (أن سورية والمتحدة تؤكدان تصميمهما على التصدي المشترك لـ”إسرائيل”).
وأعلن الرئيس عبد الناصر، في خطاب له يوم 1 أيار/ مايو، أن مصر لم تتدخل في المعركة الجوية التي جرت يوم 7 نيسان/ أبريل، بسبب أن السوريين أبلغوه بعدم حاجتهم للتدخل من جهة، ولأن مدى مقاتلات المتحدة لا يصل إلى الأجواء السورية من جهة أخرى.
وكان الفريق محمد فوزي قائد القوات المشتركة، حسب الاتفاقية، قد زار سورية في 16 آذار/ مارس 1967 لمناسبة انعقاد مجلس رؤساء أركان الجيش في سورية والمتحدة، وفقًا لنصوص اتفاقية الدفاع المشترك، وتمّ بحث بعض الخطط والأمور العسكرية المتعلقة بتنسيق العمل العسكري بين المتحدة وسورية، وكانت زيارته الثانية، يوم 14 أيار/ مايو، وبحث مع وزير الدفاع ورئيس الأركان موضوع الحشود والأمور المتعلقة بالخطط العسكرية لمجابهة أي عدوان صهيوني مباغت، بهدف إسقاط أو تحجيم المد القومي الذي تقوده الأنظمة التقدمية؛ وبالتالي إظهار عجزها أمام شعوبها، ومحاصرة هذا المد الذي بدأت ملامحه تظهر في أغلب الأقطار العربية، كما أن، من أهداف العدوان المرتقب، دفن فكرة حرب التحرير الشعبية والعمل الفدائي في مهده، إضافة إلى الأحلام الصهيونية باحتلال أراضٍ في المتحدة وسورية وفلسطين غير المحتلة، للمساومة عليها؛ وبالتالي تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية بإخراج مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني، والسيطرة على مصادر المياه في الجولان، وضم القدس غير المحتلة، والسيطرة على ما تبقى من فلسطين.
بعد العدوان الثلاثي، وضع وزير خارجية كندا تصورًا لإيجاد قوات طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة لمراقبة الانسحاب البريطاني – الفرنسي، ثم الإسرائيلي من الأراضي المصرية، ونشرها على الحدود المصرية-الإسرائيلية في قطاع غزة وشرم الشيخ المطلة على مضائق تيران، وعلى السماح للسفن الإسرائيلية، بعبور المضائق.
أعلن الرئيس عبد الناصر، يوم 23 أيار/ مايو، إغلاق مضائق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية، دون إطلاع القيادة السورية، أو التشاور معها لتنسيق الخطوات اللاحقة، وبذلك انتقلت إدارة الأزمة وقيادة المعركة إلى القاهرة، ولمعرفة ما يجري وما يفكر به قادة الـ ج.ع.م، وما هو المطلوب من سورية للمشاركة في دعم ما تريده المتحدة، وتنفيذ ما يقع عليها من مسؤوليات، قررت قيادة الحزب في اليوم نفسه، إرسال وفد سوري إلى القاهرة، ضم رئيس الوزراء يوسف زعين، ووزير الخارجية إبراهيم ماخوس، ورئيس الأركان العامة اللواء أحمد سويداني.
توالت الاتصالات وزيارات الوفود، وكان آخرها، قبل العدوان، الوفد الذي وصل من الـ ج.ع.م إلى سورية، يوم 1 حزيران/ يونيو 1967، برئاسة السيد زكريا محيي الدين نائب رئيس الـ ج.م.ع، وأمين الهويدي، وحسن صبري الخولي، والفريق عبد المنعم رياض، واجتمع هذا الوفد بالقيادة السورية السياسية والعسكرية، دعمًا للتنسيق على المستويين السياسي والعسكري.
ومما أورده أمين الهويدي، في كتابه (الفرص الضائعة) عن هذه الزيارة، ما نصه: (وقد حدث شيء غريب أثناء زيارتنا سورية، فقد كان في استقبال الوفد في مطار المزة عبد الرحمن خليفاوي وزير الداخلية، وعبد الكريم الجندي رئيس الاستخبارات* وقد رافقت الجندي إلى قصر الضيافة في عربته، وأكّد لي عدم وجود حشود إسرائيلية على جبهتهم واستنكر إثارة الموقف بالطريقة التي تتم بها، وكان هذا تأييدًا لمعلوماتٍ كان الفريق فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة قد عاد بها عند زيارته سورية، في الأيام الأولى لإثارة الأزمة، حيث تأكّد من عدم وجود أي حشد عسكري على الحدود السورية الإسرائيلية)(*).
(*) لم يكن خليفاوي وزيرًا، بل كان ضابطًا عالي الرتبة في الأركان السورية، وعبد الكريم الجندي كان عضوًا في القيادة القطرية ورئيسًا لمكتب الأمن القومي فيها.
(*) وليس معنى هذا أن العدوان الصهيوني لم يكن مخططًا له، بل القصد أين وكيف سيقع العدوان.
وفي خضم هذا التوتر، وصل يوم 25 أيار/ مايو، إلى دمشق رئيس أركان الجيش الجزائري العقيد طاهر الزبيري، حاملًا إلى الرئيس الأتاسي رسالة من الرئيس بو مدين، تضمنت: (إن معركة سورية هي معركة الجزائر، ونحن طرف فيها)، واجتمع خلال زيارته هذه مع كل من وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد ورئيس الأركان اللواء أحمد سويداني.
كما وصل، يوم 27 أيار/ مايو، وفد عسكري من العراق برئاسة العميد محمود عريم، لإطلاع القيادة العسكرية السورية على الاستعدادات العسكرية التي اتخذها العراق في مواجهة التهديدات العسكرية الصهيونية لسورية.
كان الملك حسين يتبادل المعلومات مع “إسرائيل” حول نشاط الفدائيين في الضفة الغربية، وبأن سورية تدعم هذا النشاط، وعندما بدأت “إسرائيل” تهديداتها بغزو سورية، أدرك الملك بان نشوب حرب في المنطقة سيكون نتيجتها احتلال الضفة، ونتيجة كهذه قد تكلفه تاجه.
وفي اجتماع وزير خارجية الأردن أحمد طوقان مع السفير الأميركي بيرنز قال: (تستطيع “إسرائيل” أن تهاجم أراضي المملكة دون أن تُعاقب، ونحن نواجه خطرًا محتملًا أكبر، ألا وهو قيام مصر بتوجيه الضربة الأولى، فإذا ما صُدّ الهجوم سيجعل عبد الناصر من الأردن كبش فداء، وربما يتمرد الفلسطينيون، وربما يتمرد الجيش كذلك ويطيحون بالنظام ويضعون منظمة التحرير الفلسطينية مكانها، ومن ناحية أخرى، فإذا ما نجحت مصر فإن قواتها ستقطع النقب وتتابع تقدمها نحو عمان).
هذا التخوف دفع بالملك حسين إلى أن يؤكد للأميركيين بعدم وجود نوايا عدوانية عنده تجاه “إسرائيل” وأن يُطمئنوها بهذا الشأن، وناشد الولايات المتحدة مرارًا كي تصدر بيانًا لا لبس فيه، يؤكد سلامة أراضي المملكة في حال نشوب حرب، ولكن محاولاته ذهبت عبثًا لأن مثل هذا التأكيد يتناقض مع الجائزة التي وُعد رابين بالحصول عليها من الحرب.
اجتمع الملك، يوم 22 أيار/ مايو، بشكل طارئ مع الوزراء وهيئة أركان الجيش، وأبلغهم بأن المملكة ستنأى بنفسها إذا وقعت الحرب بين سورية و”إسرائيل”، أما إذا تورطت مصر فيها فإنه سيشارك رمزيًا وبصورة غير مباشرة، ويكون ذلك بإرسال بعض الوحدات العسكرية إلى سيناء.
أبلغ الملك حسين سفيرَ مصر في الأردن، يوم 28 أيار/ مايو، رغبته بزيارة القاهرة فورًا، وعاد السفير بعد اتصاله مع وزير الخارجية، لينقل إلى الملك موافقة بلده على الزيارة في حال وعدٍ منه: (بمقاومة أي محاولة إسرائيلية لمهاجمة سورية من الأردن، وسماحه للقوات العراقية التمركز في الضفة، واعترافه بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل لشعب فلسطين)، ولمّا وافق الملك على ذلك، كانت زيارته يوم 30 أيار/ مايو إلى القاهرة ونجم عنها توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، وهذه الزيارة وإن لم تكن لغزًا للقيادة السورية كما كانت للرئيس أبو مدين، لكنها أدهشت القيادة السورية وأثارت قلقها، ولم يكتف ملك الأردن بذلك، بل أصرّ على اصطحاب الفريق عبد المنعم رياض معه إلى عمان ليكون قائدًا للجبهة الأردنية، كما اصطحب معه أحمد الشقيري أيضًا.
وأراد الملك حسين من هذه الزيارة المثيرة للجدل، ومن توقيعه على اتفاقية الدفاع المشترك، أن يظهر أمام الشعب في المملكة وأكثريته من جذور فلسطينية، بأنه إلى جانب القوى العربية المعادية للصهيونية.
لم يكن في حسابات السياسية الأردنية، حسب رأي الفريق عبد المنعم رياض، أن تشارك في يوم من الأيام في معارك ضد الكيان الصهيوني، ولكن الأردن كان يستفيد من اشتراكه بالعمل العربي لما يدره عليه من منافع خاصة، وكانت أول خطوات الملك بعد عودته إلى عمان، أن أصدر تعليماته بنقل طائرات الـ “ستار فايتر” الأميركية من المطارات الأردنية إلى القاعدة الأميركية في تركيا عبر بيروت وقبرص.
وجرى تحرك باتجاه الدول الأجنبية الصديقة لإطلاعها على وجهة النظر العربية في الأحداث الجارية، ولهذا الغرض سافر وفد سوري رفيع المستوى برئاسة الأمين العام للحزب رئيس الدولة بتاريخ 29 أيار/ مايو إلى الاتحاد السوفييتي، ونتيجة المباحثات مع القادة السوفييت، أعلن الاتحاد السوفييتي دعمه لموقف سورية إلى أبعد الحدود.
وكان الرئيس عبد الناصر، بالتشاور مع المشير عامر، قد أرسل إلى موسكو، في 25 أيار/ مايو، وفدًا برئاسة وزير الحربية شمس بدران لحث القادة السوفييت على تلبية طلب المتحدة المتعلق بتزويدها بالسلاح، وكذلك معرفة الموقف السوفييتي من الأزمة القائمة، وتم إبلاغه بنوايا الاتحاد السوفييتي في مساعدة الشعوب العربية، وادعى بدران في مذكرة قدمها بعد عودته، إلى الرئيس عبد الناصر، بأن وزير الدفاع المارشال غريشكو قد أبلغه، وهو يودعه أمام سلم الطائرة: (أريد أن أؤكد لكم أنه إذا حدث شيء واحتجتم لنا فمجرد إرسال إشارة نحضر لكم فورًا في بور سعيد أو في أي مكان). وقد حصل بعد انتهاء الحرب، لغط وشكوك حول مصداقية شمس بدران في نقل هذا التأكيد.
وقام وزير الخارجية الدكتور إبراهيم ماخوس يوم 2 حزيران/ يونيو، بزيارة إلى باريس سلّم خلالها إلى الرئيس ديغول رسالة من الرئيس الأتاسي تتناول الأوضاع في المنطقة، والمخططات الأنكلوأميركية – الصهيونية التي تحضر لعدوان واسع على الشعب العربي، وأبلغ الرئيس الفرنسي وزير الخارجية أن فرنسا ليست طرفًا مع أي من الدول المعنية، وأن الدولة التي تبدأ باللجوء إلى السلاح لن تحصل على تأييد فرنسا.
انتقل وزير الخارجية بعدها، إلى الجزائر لاستعراض الأوضاع المستجدة مع الرئيس بو مدين الذي أعلن استعداد بلاده لوضع جميع إمكانياتها لخوض المعركة الكبرى ضد العدوان الصهيوني.
وكان وزير الخارجية، قبل ذلك، قد استقبل في 28 أيار/ مايو السفيرَ الأميركي الذي نقل إليه وجهة نظر حكومة الولايات المتحدة حول الوضع الراهن في المنطقة وملخصها:
– أن حدة التوتر ارتفعت في المدة الأخيرة بين البلاد العربية و”إسرائيل”.
– أن الحكومة الأميركية لا تعتقد بوجود نوايا لارتكاب العدوان من قبل “إسرائيل”.
– أن الحكومة الأميركية تشعر بالقلق الخاص مما أسمته بأعمال “الإرهاب”، أي العمل الفدائي الفلسطيني، وتعتبره مغايرًا لاتفاقية الهدنة.
– أن الحكومة الأميركية قلقة من انسحاب قوات الطوارئ الدولية وتعتبره عملًا غير مشروع وتعمل على إعادة وجود الأمم المتحدة على خط الهدنة بين الـ ج.ع.م و”إسرائيل” بأي صورة من الصور.
– أن الحكومة الأميركية تعتقد بأن حشد القوات يزيد من حدة التوتر.
– أن الحكومة الأميركية تتمسك بحرية المرور في خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية وجميع الدول الأخرى وتعلن أن تدخل الـ ج.ع.م ضد الملاحة الإسرائيلية يؤدي إلى أوخم العواقب.
– أن الحكومة الأميركية تؤكد عزمها على التدخل والمقاومة الشديدة لكل اعتداء في المنطقة بأي شكل، علني أو خفي، تقوم به مجموعات نظامية عسكرية أو غير نظامية.
ويبدو من وجهة النظر هذه، أن ما تدعوه أميركا اعتداءً، ينطبق على ما يقوم به الجانب العربي فقط، ولا ينطبق ذلك على ما قامت وتقوم به “إسرائيل” بدءًا من اغتصاب الأرض إلى اعتداءاتها المستمرة على الدول العربية.
وأبلغه الدكتور إبراهيم ماخوس وجهة نظر الجمهورية العربية السورية، وهي: (إن حكومة الـ ج .ع .س تؤكد بأن حكومة الولايات المتحدة الأميركية ليس لها ما يميزها عن غيرها من الدول الأعضاء حسب ميثاق الأمم المتحدة ولا تملك حق التدخل في شؤون المنطقة أو فرض وصايتها عليها).
أشارت المذكرة الشفهية الأميركية إلى أن التوتر قد ارتفع مرة أخرى على خطوط الهدنة بين البلاد العربية و “إسرائيل” في خلال الأيام الماضية، ولكن الواقع أن هذا التوتر لم يرتفع خلال الأيام الأخيرة فقط، وإنما لازم المنطقة العربية منذ فرض الاحتلال الإسرائيلي الذي قام على غزو جزء من الوطن العربي بالقوة وتشريد المواطنين الفلسطينيين العرب، والذي يعتبر المصدر الدائم للتهديد والفوضى والخطر المباشر على الأمن والسلام في هذا الجزء من العالم.
وإن وزارة الخارجية للجمهورية العربية السورية تؤكد نية العدوان لدى “إسرائيل” لأن مواقفها السابقة، منذ الاحتلال الصهيوني عام 1948 حتى يومنا هذا، شكّلت سلسلة من أعمال العدوان التي أدانها مجلس الأمن أكثر من مرة وعدّها تهديدًا خطيرًا للسلم والأمن الدوليين، وأما القول بأنه لا توجد لدى “إسرائيل” نية للعدوان، وأن حشودها ذات هدف دفاعي فتنفيه التصريحات العدوانية الهجومية الوقحة التي صدرت عن مسؤولين بالأرض المحتلة وجميع الظروف الموضوعية التي رافقت ذلك.
إن حوادث العدوان الخطيرة التي ارتكبتها “إسرائيل” ضد البلاد العربية قد أصبحت معروفة للعالم أجمع، ولا يمكن تجاهل أن العدوان الثلاثي على مصر الذي كانت “إسرائيل” أداته المجرمة العميلة، كان سيجر العالم إلى حرب ثالثة، كما أن الاعتداءات الغادرة التي اقترفتها “إسرائيل” ضد سورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بشكل خاص، والتي استخدمت فيها الطيران على نطاق واسع وألقت خلالها قنابل النابالم المحرقة مستهدفة المدنيين والمشاريع الإنمائية المدنية، دليل قاطع على أن نية العدوان لدى “إسرائيل” مستمرة، وكان آخر هذه الأعمال العدوانية ما حدث يوم 7 نيسان/ أبريل الماضي، ثم تهديد الناطقين الرسميين الصهاينة المبتذل باحتلال دمشق وإسقاط نظام الحكم الثوري فيها.
إن حكومة الـ ج.ع.س لجأت أكثر من مناسبة إلى مجلس الأمن الدولي لوضع حد لهذه السياسية العدوانية وإدانة “إسرائيل”، فكان موقف الولايات المتحدة المنحاز باستمرار لـ “إسرائيل” هو تبرير اعتداءاتها وحمايتها، مما شجعها على المضي في هذه السياسة الخطيرة، وأن تصريحات أشكول الأخيرة والمتكررة حول وضع الأسطول الأميركي السادس تحت تصرف السلطة الإسرائيلية لحماية عدوانها دون صدور أي تكذيب من السلطات الأميركية لهذه التصريحات برهان قاطع على أن “إسرائيل” مطمئنة تمامًا إلى مساندة الحكومة الأميركية لها في سياستها العدوانية.
إن التعبئة الشعبية والعسكرية الكاملة التي نُفذت في كل من الـ ج.ع.س، والـ ج.ع.م تنفيذًا لاتفاقية الدفاع المشترك والتزامًا بالمصير القومي الواحد كانت أمرًا حتميًا تفرضه ظروف الدفاع للوقوف في وجه التهديد بالعدوان التي تجلت في الحشود الإسرائيلية الضخمة على حدود القطر العربي السوري والتي ما كانت لتتم لولا تشجيع الإمبريالية الدولية، وأن هذه التعبئة الشعبية في القطرين والتي التفّت حولها جماهير الشعب العربي وحكوماته التقدمية نابعة من تصميم الشعب العربي على الرد على العدوان، وأن إجراءات الدفاع هذه هي حق مشروع كفله ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية بممارسة كل دولة تحترم نفسها لحماية شعبها من الخطر.
أما ما وصفته المذكرة الشفهية بأعمال الإرهاب المستمرة التي تجري ضد “إسرائيل”، فإن حكومة الـ ج.ع.س تؤكد ما سبق وأعلنته أكثر من مرة بأنها ليست مسؤولة عما يقوم به الشعب العربي الفلسطيني المشرد، الذي يناضل في سبيل استرداد حقوقه وتقرير مصيره الذي كفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة وقراراتها بعد انتظار 19 عامًا من حلول النكبة وبعد وقوف بعض الدول الكبرى وبصورة خاصة أميركا في المنظمة الدولية دون إيصاله إلى هذه الحقوق.
والواقع أن هذا الشعب لا يزال ضحية عدوان صارخ مستمر، وأن ما يقوم به من أعمال تستمد شرعيتها من حقه في الحياة الحرة الكريمة في وطنه كغيره من شعوب العالم، ومن تطلعه إلى التخلص من المأساة التي أُنزلت به والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
وإننا نؤكد بإصرار على الفارق الكبير بين نضال هذا الشعب من أجل التحرير وتقرير المصير وهو أمر لا يمكن أن يسمى إرهابًا أو عدوانًا، وبين العدو الغاصب المعتدي الذي احتَل أرضه وشرده من وطنه، بينما ترتفع الأصوات في أميركا وبعض الدول الغربية محاولة تشويه الصورة حيث تساوي بين المعتدي والمعتدى عليه، وتخلق المبررات الدائمة ليستمر المعتدي في عدوانه، في حين تجد في كل خطوة يخطوها الشعب العربي الفلسطيني المضطهد مادة للتشهير والتهويل والتهديد بالغزو.
وإن هذا الشعب الذي كان -ولا يزال- له كيانه الخاص قبل الاحتلال وبعده والذي ما يزال في حالة حرب مع العدو المحتل، ليس طرفًا في اتفاقيات الهدنة، ولا يقبل الوصاية عليه من أي جهة كانت؛ وبالتالي فإن أحكام هذه الاتفاقيات لا تنطبق عليه ولا تقيده بشيء.
ونود أن نتساءل بهذه المناسبة ماذا يكون موقف أي ولاية أميركية مثلًا، لو فوجئ سكانها بالطرد والتشرد ليحل محلهم شعب غريب آخر، هل يُعدّ نضالهم للعودة إلى وطنهم إرهابًا وعدوانًا ضد الشعب الغريب المحتل؟ ولماذا لا يتجلى كرم الولايات المتحدة الأميركية وعطفها على اليهود بإعطائهم ولاية نيويورك مثلًا، بدلًا من دعم الاحتلال الصهيوني في فلسطين وعلى حساب الشعب العربي الذي شرد من وطنه الأصلي؟
أما ما أشارت إليه المذكرة من قلق حكومة الولايات المتحدة الأميركية من أن يؤدي انسحاب قوات الطوارئ الدولية إلى جعل مشكلة المحافظة على السلام أكثر صعوبة، فإن حكومة الـ ج.ع.س تؤكد حق الـ ج.ع.م المطلق في سحب موافقتها على بقاء هذه القوات حين تشاء، وأن الأمين العام للأمم المتحدة قد التزم بهذا الحق القانوني الواضح في استجابته الحكيمة لطلب الـ ج.ع.م الذي جاء منسجمًا مع مصلحة الشعب العربي ورحب به بحرارة، والذي سيقاوم جميع المحاولات التي تبذل لإعادة هذه القوات بشكل أو بآخر، لأن أي محاولة من هذا النوع تعتبر خرقًا لسيادة الـ ج.ع.م وتحويلًا لمهمة هذه القوات إلى صفة الاحتلال، الأمر الذي نرفضه وبحزم.
إن حكومة الـ ج.ع.م قد مارست حقها المشروع في إعادة سيطرتها على خليج العقبة الذي يُعدّ خليجًا مغلقًا من الناحيتين التاريخية والدولية ومياهه مياهًا إقليمية عربية، أما وصف ممارسة الـ ج.ع.م لسيادتها على هذا الخليج بأنه تدخل في شؤون الملاحة الدولية فهو محاولة مكشوفة لخلق مبررات للعدوان وتضليل الرأي العام الدولي عن حقيقة الموضوع، لأن هذه الممارسة لم تخرج عن كونها إزالة لأثر من آثار الغزو الثلاثي عام 1956 والذي أدانته الأمم المتحدة، وعودة إلى الوضع الطبيعي السابق الذي كان معمولًا به قبل العدوان، وأية محاولة لإعطاء هذا العدوان الثلاثي صفة الاستمرار والأمر الواقع والحق الدولي في الملاحة أمر مرفوض وعودة لتأكيد ذلك العدوان وتثبيته، الأمر الذي نقاومه بشدة مع جماهير الشعب العربي في كل مكان.
إن السلام الذي نحرص عليه ونكافح من أجله هو السلام القائم على العدل واسترداد حق الشعب العربي في أرضه وحريته المطلقة في التخلص من جميع آثار التجزئة والتخلف ومختلف صور الاستعمار القديم والجديد في الوطن العربي.
إن السلام، بالنسبة إلى الشعب العربي، هو المناخ الطبيعي لكي يبني حياته الجديدة، ولكنه لا يمكن أن يتم والعدوان مستمر في الوطن العربي، وإذا كانت الولايات المتحدة جادة في الحرص على السلام؛ فيجب أن تتخلى عن انحيازها الواضح الدائم للاحتلال الإسرائيلي والعدوان الذي يتعرض له الشعب العربي من قبل “إسرائيل”، وأن تمتنع عن حماية هذه القاعدة وتزويدها بالسلاح وأسباب القوة الأخرى التي تزيد من طاقتها العدوانية وتهديدها للسلم والأمن في المنطقة.
وختامًا، فإننا نكرر ما سبق وأعلنه المسؤولون مرارًا برفض وصاية الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى على الوطن العربي وعلى نضال الشعوب التحرري وحقها المطلق في تقرير مصيرها وبناء مجتمعها كما تشاء، وأن احترام هذه القاعدة الأساسية في العلاقات الدولية هو الطريق الطبيعي لحماية الأمن والسلام في العالم.
لم تكن لا سورية ولا المتحدة ترغبان في خوض حرب لم تستكملا استعدادهما لها، ولهذا فان تحرك جيش المتحدة نحو سيناء يوم 14 أيار/ مايو، كان في وضح النهار ومرّ في القاهرة، وعلى مرأى من السفارات ووسائل الإعلام بهدف ردع العدوان الإسرائيلي قبل وقوعه، ولقد صرح أحد موظفي السفارة الأمريكية إلى الصحافي أريك رولو، الذي كان في تلك الفترة متواجدًا في القاهرة: (من البديهي أن ناصر كان يريد أن يوهمنا أنه مصمم على الدفاع عن سورية مهما غلا الثمن، كان يوجه إلينا نوعًا من الإنذار وكان يعتقد أن من شأن ذلك أن يحملنا على ممارسة الضغط على “إسرائيل” لإنقاذ نظام دمشق).
لما بلغ جيش المتحدة الحدود مع فلسطين المحتلة، طلبت رئاسة الأركان في المتحدة يوم 16 أيار/ مايو، من قائد قوات الأمم المتحدة الجنرال ريكيه إبعاد رجاله عن الحدود، مؤقتًا، وتجميعها في قطاع غزة إلى أن تنتهي الأزمة، ولم تطلب حكومة المتحدة هذا الأمر من الأمين العام للأمم المتحدة أوثانت، حتى لا يتخذ الطلب الصفة الرسمية التي لا رجوع عنها، لذلك لم تكن القضية إجلاء “الخوذ الزرقاء” عن المتحدة، وكان جواب الجنرال ريكيه: أنا لا أتلقى الأوامر منك، كما أنني لست المخول باتخاذ مثل هذا القرار. ونتيجة ذلك طلبت حكومة المتحدة من السيد أوثانت سحب “الخوذ الزرقاء” من الحدود دون الإشارة إلى سحبها من شرم الشيخ، حتى لا تزداد الأجواء توترًا، وتبقى في حدود الضغط كي لا ينفذ العدوان.
كان جواب السيد أوثانت موجزًا: (لا أستطيع الموافقة على طلبكم لأن دوري هو صيانة السلم، فإذا كنتم تصرون على سحب القوات الدولية المرابطة على الحدود يجب أن تتقدموا بطلب سحب كل القوات الدولية عن أراضيكم).
لقد وضع أوثانت العربية المتحدة في وضع لا يمكنها فيه إلا أن توافق على طلبه، ووصلت قوات المتحدة، يوم 22 أيار/ مايو، إلى شرم الشيخ واحتلت مواقعها على خليج العقبة.
وهنا يثار سؤال مهم وخطير حول الدور الذي لعبه السيد أوثانت لتهيئة العوامل للعدوان الإسرائيلي ومدى تنسيقه ذلك الأمر مع إدارة جونسون، لأن واجبه كأمين عام للأمم المتحدة هو صيانة السلم وهذا يتطلب منه أن يحاول كسب الوقت ليستشير الدول الكبرى أو مجلس الأمن، بدلًا من إحراج المتحدة والموافقة الفورية على طلبها بسحب كل القوات الدولية من أراضيها، وهناك رأي آخر يقول بأن الدافع لقرار أوثانت هو رغبته في إحراج الولايات المتحدة ودفعها للخروج من فيتنام.
على ضوء هذه التطورات اجتمع الرئيس عبد الناصر، ليل 21 أيار/ مايو، مع كبار قادة الجيش، وأبلغهم بأنه إذا كان طرد قوات الطوارئ الدولية زاد فرصة نشوب الحرب 20 بالمئة؛ فإن إغلاق المضائق سوف يرفع ذلك الاحتمال إلى أكثر من 50 بالمئة.
وبعد الاتصالات المكثفة بين المتحدة وسورية أعلن البلدان عن حالة الاستنفار لقواتهما المسلحة. وفي اليوم نفسه أعلن أوثانت في مجلس الأمن أنه أمر بانسحاب قوات المراقبة الدولية وأن الخطر في الشرق الأوسط هو أشد من أي وقت مضى منذ نشوب أزمة 1956.
تجاه هذا التطور المفاجئ، أوفدت القيادة السورية، يوم 18 أيار/ مايو، وزير الخارجية إلى القاهرة واجتمع هناك مع الرئيس عبد الناصر لمعرفة نوايا المتحدة بعد قرارها بسحب القوات الدولية، وأبعاد هذا القرار، كما نقل إلى الرئيس وجهة النظر السورية بضرورة التهدئة.
كان الرئيس عبد الناصر يعرف أن إغلاق مضائق تيران ومنع سفن الكيان الصهيوني من عبورها، وشمل هذا المنع السفن التابعة لجنسيات أخرى والتي تحمل عتادًا عسكريًا أو موادًا استراتيجية إلى هذا الكيان -وكان الرئيس ناصر قلقًا من تدفق البترول الإيراني عبر الخليج إلى مفاعل ديمونة- ستعتبره “إسرائيل” إعلانًا للحرب، غير أن قرار السيد أوثانت الغريب والمريب، والمتسرع وغير المفهوم، ساهم في دفع العربية المتحدة لاتخاذ هذا القرار، يضاف إلى هذا أن الولايات المتحدة كانت قد تعهدت عام 1956 بضمان حرية المرور في مضيق تيران، وتعهد وزير خارجية أميركا دالاس “لإسرائيل” أن بلاده ستعتبر أية محاولة مصرية لإعادة فرض الحصار على مضائق تيران عملًا حربيًا يحق لـ “إسرائيل” أن تردّ عليه دفاعًا عن النفس. بينما كان وعد همرشولد للرئيس عبد الناصر، أن يكون لمصر الحق في طلب إخراج قوات الطوارئ.
كانت القاهرة تعرف هذا كله، وكانت تعرف أن الموضوع يتعلق بأمور جدية، ولكن انطلاقًا من الأمر الواقع، وبفضل الضغوط الدولية، كان الأمل في إيجاد تسوية تحفظ للعربية المتحدة حقوقها وتبعد شبح العدوان المخطط له من قبل إدارة جونسون والأركان الإسرائيلية، هذا العدوان الذي يستهدف النظامين في القاهرة ودمشق، ورغم الأمل الضعيف بأنه من الممكن تحاشي العدوان بالتأثير على الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين تدعمان “إسرائيل” أعلن الرئيس ناصر أن المتحدة ستغلق قناة السويس أمام سفن الدول التي تساعد “إسرائيل”، مما سيؤدي إلى قطع إمدادات البترول عنها.
لقد تحقق لجنرالات الجيش في “إسرائيل” ما خططوا له بجر جيش الـ ج .ع .م إلى المعركة، ولقد قال دايان لرابين، فيما بعد: (إن الأركان اقترفت خطًا خطيرًا بإضعافها مركز ناصر تجاه العالم العربي، إن المستوى الذي وضعنا الأعمال الثأرية التي مارسناها ضد سورية والأردن لم يترك للرئيس من خيار سوى الدفاع عن هيبته سواء داخل بلاده أم إزاء البلدان العربية الأخرى مما تمخض عن تصعيد شبه محتوم)، وكان دايان مقتنعًا من جهة أخرى بأن ناصر لن يلبث أن يتخذ إجراءات أخرى لا رجعة فيها، كإغلاق مضائق تيران، وبأن “إسرائيل” لن يكون لها عندئذ من خيار سوى الرد على التحديات.
فور تحرك بعض وحدات جيش المتحدة باتجاه سيناء، وفور إعلان المتحدة إغلاق مضائق تيران، وفور قرار قيادة الجيش السوري بتعزيز مواقع قواتها وبحظر مراقبي خطوط الهدنة وبقية الأجانب من التوجه إلى مدينة القنيطرة، طالب رابين بتعبئة احتياط الجيش، ويقول في مذكراته: (ولئن رأيت نفسي ذات يوم ملومًا لأني طالبت باكرًا جدًا بتعبئة الاحتياط، موشكًا بذلك أن أجعل وضع البلاد الاقتصادي في خطر)، واستغل رابين وجنرالات الجيش هذه التعبئة المبكرة للضغط على الحكومة الإسرائيلية لإقرار بدء العدوان.
قاد رابين حملة التحريض للإسراع في بدء الهجوم واعتبر أن حرية “إسرائيل” في الملاحة ليست وحدها في خطر، بل أيضًا، إن عزمها وقابلية تصديقها وقدرتها على ممارسة حقوقها في الدفاع المشروع هي كلها اليوم على المحك.
وأقرت اللجنة الوزارية الإسرائيلية المصغرة، في يوم 23 أيار/ مايو، قرارًا يمكن تلخيص نقاطه الأساسية بـ:
1 – تنظر اللجنة الوزارية إلى إغلاق مضائق تيران كعمل عدواني موجه إلى “إسرائيل”.
2 – تأجيل القرار المتعلق بطبيعة الرد على هذا العدوان 48 ساعة.
لم يلق هذا القرار ارتياحًا عند الجنرالات، وقال رابين، في رده على وزير الداخلية “شابيرا” من الحزب الوطني المتدين: (إن ناصر قد تحدانا تحديًا خطيرًا، فإذا لم نرد على تحديه فان قدرة قواتنا على الرد ستنعدم وتكون “إسرائيل” قد تحملت إهانة جسيمة… إننا سنقاتل للحفاظ على حق حرية الملاحة، لقد هدد ناصر اقتصاد “إسرائيل”، ولن يلبث جيشه أن يهدد وجودنا بالذات، لا ينفك العرب بتقوية أنفسهم مع استمرارهم في مضايقتنا مضايقة مذلة).
ولتفنيد حجته، أجابه شابيرا: (عليك أن تقدم إيضاحات، لقد أُغلقت المضائق في عام 1950 وفي عام 1951، أيضًا، فهل اندفعت “إسرائيل” إلى الحرب؟ هذه المضائق نفسها بقيت مغلقة حتى عام 1956 فهل عرّض ذلك أمن “إسرائيل” للخطر؟ وحتى عندما راح المصريون يساندون علنًا هجمات الفدائيين لم يشن بن غوريون الحرب).
لقد نقل آبا إيبان جواب وزير خارجية أميركا دين راسك، وملخصه: (إن الولايات المتحدة لا تملك أية معلومات تجيز لها الاعتقاد بأن المصريين يستعدون لأعمال هجومية، وإذا قررت “إسرائيل” أن تأخذ زمام المبادرة في القيام بعمليات فإن الولايات المتحدة ستصطدم بأعظم الصعوبات لمساعدتها، حتى على الصعيد السياسي الصرف.
ولكن الجنرالات، وخاصة رابين، وايزمن، ياريف، بارليف، آميت، استمروا في بداية الثلث الأخير من أيار، في ضغوطهم على السياسيين، وبالذات على رئيس الوزراء ووزير الدفاع أشكول، وعلى وزير الخارجية إيبان، وكانوا يوهمونهم بأن العالم العربي يستعد لشن حرب شاملة ضدنا، وأن وقت المناقشات السياسية قد مضى، وكرّر الجنرال ياريف قوله: (بأننا إذا لم نشن هجومنا، في يوم 26 أيار/ مايو، فإن المصريين سيكونون قادرين على الهجوم وسيكون وضعنا حرجًا جدًا آنذاك). ولتأكيد وجهة نظرهم، سرّبوا معلومات، نقلتها حكومتهم إلى الإدارة الأميركية بأن الـ ج .ع .م، والـ ج .ع .س ستبدآن هجومهما، ليلة 27 أيار/ مايو.
اجتمع يوم 27/ 5 أشكول مع الجنرالات، وقدم أمين عام وزارة الخارجية تقريرًا عن محادثات جونسون – إيبان، كما علق على مذكرة عنيفة جدًا وصلته من رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي كوسيغين، ورسالة قاسية من الجنرال ديغول تحذران “إسرائيل” من أية محاولة للقيام بهجوم وقائي، ولكن رابين، عاد وأكّد في هذا الاجتماع: (إذا لم نرد على العدوان المصري، فإن أمن بلادنا سيتعرض إلى خطر جسيم والزمن يعمل ضدنا).
بعث الجنرالات، في صباح يوم 28 أيار/ مايو، دون علم رئيس الوزراء، رئيسَ الموساد الجنرال مائير آميت إلى واشنطن، لاستطلاع حقيقة الرأي من جيمس آنجلتون وإجلاء الملابسات، من جهة، ولإبلاغ مكتب الأمن القومي والـ (سي .آي .إيه) بأن الوقت المناسب لإطلاق العنان “لإسرائيل” هو هذه الساعة وليست أي ساعة أخرى.
طلب رابين، مساء الأحد 28 أيار/ مايو، من أشكول أن يأتي بشخصه، ليواجه الجنرالات الذين هاجموه يشكل منظم، واتهموا الحكومة بالعجز، وبأن السياسيين متمسكون بالأوهام وباقون على اعتقادهم بإمكان تجنب الحرب، وحين حاول أشكول أن يحتج، قام وايزمن بحركة مسرحية ألهبت مشاعر زملائه، لقد هب واقفًا من مقعده وخلع وسامًا كان معلقًا على سترته العسكرية وألقاه على مكتب أشكول، قائلًا: (لا يعتقد أنه أو غيره يحق لهم الاحتفاظ بأي وسام إذا كان العجز عن العمل هو ردهم على الخطر). وتدخل رابين فقال: (إنه لا يستطيع أن يضمن السيطرة على القوات إذا ما تأخر صدور الأمر لهم ببدء القتال، وهو يضع هذه الحقيقة كرئيس لأركان الحرب أمام السلطة السياسية لكي تأخذها في اعتبارها وهي تتخذ قرارها النهائي).
تحقق للجنرالات ما أرادوه من حكومتهم، وبحسب عبارات برقية الوزير المفوض لـ “إسرائيل” في واشنطن يوم 1/ 6 نقلًا عن والتر روستو رئيس مكتب الأمن القومي في البيت الأبيض، اعتبرها العسكريون الصهاينة بأنه ليس عليهم أن ينتظروا شيئا من الولايات المتحدة.
كان لا بد من تغطية تواطؤ الأمين العام للأمم المتحدة وتواطؤ الولايات المتحدة الفاضحين، بالتظاهر بالقيام بتحرك دبلوماسي، رغم ضغط العسكريين الإسرائيليين على حكومتهم بضرورة المباشرة بالعدوان دون تأجيل، فقد وافق الرئيس عبد الناصر فورًا على برقية أوثانت، يوم 22 أيار/ مايو، والتي يطلب فيها مقابلته، أملًا من الرئيس أن يصل إلى حل مشرف، وفي القاهرة تم تفاهم سري لم يصل إلى درجة اتفاق على الأسس، بل اقتصر على التدابير التي يجب أن تُتخذ للتهدئة، وكانت أبرز نقاط التفاهم:
– أن يمتنع الطرفان المعنيان عن كل إجراء من شأنه زيادة التوتر.
– أن يقبل الرئيس عبد الناصر بتسمية أوثانت ممثلًا خاصًا يُكلف بالتنقل بين القاهرة وتل أبيب لإيجاد مجال للتفاهم حول الخلاف على مضائق تيران.
– أن يوجه أوثانت نداء إلى جميع الدول البحرية لتمتنع عن شحن المواد الاستراتيجية عن طريق إيلات، وأن يتم الشحن عن طريق حيفا، كما كان الأمر قبل 1956، بانتظار إيجاد تسوية.
لجأ الرئيس جونسون، قبل أن يطلق يد جنرالات إسرائيل في بدء عدوانهم، وفي الوقت الذي كان مائير آميت في واشنطن يرتب ذلك الأمر، إلى التظاهر بأنه يريد الوصول إلى حل سياسي للأزمة، لكي يوهم الرأي العام الأمريكي وأعضاء الكونغرس والرأي العام الدولي بأنه يبذل كل جهد ممكن، كما يريد أن يصل إلى إضعاف مناورة الاتحاد السوفييتي وتحييده. ولكي يوهم قادة الـ ج.ع.م في صدق جهوده أوفد في 1 حزيران/ يونيو إلى القاهرة ممثله الشخصي شارل يوست، في زيارة سرية دامت حتى يوم 3 حزيران/ يونيو، اجتمع خلالها مع وزير الخارجية محمود رياض، وتم بينهما اتفاق مبدئي على نقاط ثلاث:
– أن تستمر الجهود الدبلوماسية لحل المشكلات حلا سلميًا.
– أن يُحال الخلاف على تيران إلى المحكمة الدولية في لاهاي.
– أن يقوم نائب رئيس الجمهورية زكريا محي الدين، يوم 5 حزيران/ يونيو، بزيارة إلى الولايات المتحدة للتفاوض حول إيجاد تسوية يقبل بها الطرفان.
وإمعانًا في التمويه، أكد يوست للمتحدة بأن “إسرائيل” لن تهاجم ما دامت الجهود الديبلوماسية قائمة، وهو المطلع على أن الحكومة “الإسرائيلية” كانت تؤكد بأنها قد حصلت على حق المرور في مضائق تيران بعد معركة سيناء 1956، ولن تسمح للـ ج .ع .م بأن تطرح على بساط البحث مرة ثانية ثمن انتصارها.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده، يوم الأحد 28 أيار/ مايو، أكد الرئيس ناصر في رده على الولايات المتحدة وبريطانيا اللتين كانتا تتظاهران بأنهما تسعيان إلى تشكيل قوة بحرية لفرض ما أطلقتا عليه حرية الملاحة في خليج العقبة قال:
– إن قرار منع السفن التي ترفع العلم الإسرائيلي وسفن البلدان الأخرى التي تحمل “لإسرائيل” موادًا استراتيجية من المرور في خليج العقبة، هو قرار لا عودة فيه.
– إذا تدخلت الولايات المتحدة فسنقاومها بكل قوة، ولتكن هناك قناة سويس ثانية.
– لا نقبل بوصاية الدول الكبرى ولن تستطيع قوة مهما بلغ جبروتها أن تمس حقوق سيادتنا.
– حقوق شعب فلسطين يجب أن تعاد إليه ولا نقبل بالتعايش مع “إسرائيل”.
– إذا تحرشت “إسرائيل” بسورية أو أي بلد عربي آخر فسنرد بقوة وإذا أرادت الحرب فنحن مستعدون لها.
كما أكد الرئيس ناصر: (بأننا لن نكون أول من يضرب، فنحن لا نريد الحرب، أما إذا كنا ضحية العدوان فسيكون في ذلك تدمير دولة “إسرائيل”)، وقدم الرئيس اقتراحين ملموسين كان من شأنهما أن يمهدا الطريق أمام إعادة الأمور إلى وضعها المألوف:
1 – أن تستأنف لجنة الهدنة المصرية –الإسرائيلية نشاطها في الحال.
2 – أن يجري بحث إجمالي للمشكلة الفلسطينية والتفاوض عن طريق دولة وسيطة حول جميع المشكلات المعلقة.
وأكد الرئيس في هذا المؤتمر بأن الخصومة على تيران هي مظهر ثانوي للنزاع العربي – “الإسرائيلي” لكن الحكومة الإسرائيلية المصممة على العدوان لم تتعاط مع أي من الاقتراحين، كما أن الصحافة الإسرائيلية لم تذكر من التصريحات سوى ما تعلق منها بتدمير دولة “إسرائيل”.
كما صدرت في القاهرة تصريحات عديدة مفادها: (إذا تعهد الإسرائيليون علنًا بعدم مهاجمة سورية فنحن مستعدون من جانبنا لسحب جيوشنا من الحدود).
وفي خطابه أمام مجلس الأمة، يوم 29 أيار/ مايو، أوضح الرئيس عبد الناصر، استعداد العرب لمواجهة “إسرائيل” واستعادة حقوق شعب فلسطين كاملة، وأن الاتحاد السوفييتي يقف مع العرب ولن يسمح لأي قوى خارجية بالتدخل، وقال: (إننا سنقرر الوقت وسنقرر المكان ولن نتركهم يقررون الوقت والمكان، علينا أن نستعد لننتصر… وقد تمت هذه الاستعدادات، ونحن على استعداد لمواجهة “إسرائيل”).
وفي سورية، كان وزير الدفاع اللواء حافظ الأسد قد صرح، يوم 20 أيار/ مايو، عن استعداد الجيش السوري، وذكر أن القوات أصبحت مستعدة ليس لرد العدوان فحسب، وإنما لنسف الوجود الصهيوني.
هيوني.
المصدر