لتسقط ذهنية العسكر
13 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
جمال الشوفي
[ad_1]
تأخر العقل العربي في تقديم رؤية واضحة لمجريات الهزيمة المدوية عام 1967، وعندما نقول “العقل” نقصد كليته الجامعة في إنتاج منظومة ثقافية قابلة للعيش والتداول والانبساط في مؤسسات الدولة والمجتمع، حيث سُمّيت حينئذ “نكسة” نظرًا للاعتقاد السائد بأنها مخالفة لسير الحدث العسكري وقوة الأمة وعواطفها الجياشة في تحرير فلسطين. وحيث إن النكسة هي مفعول نفسي، مفاده جني نتائج خلاف الأحلام والأماني العاطفية التي كانت متعلقة على وعود العسكر وأنظمتهم المؤججة لمشاعر العنف والعسكرة وطبول الحرب، على أنها قادرة على رمي اليهود في البحر وتحرير تراب فلسطين من رجسهم، لتنبري بعدها “مؤسسات” تلك السلطات لوضع جُمل لانهائية من مبررات الهزيمة تلك، من مؤامرة وغيرها مما يرضي طفح الشعور القومي آنذاك ويسكن أوجاعه وأحلامه الخائبة.
حركات التحرر الوطني لم تكن بعيدة المنهل عن جماع الأمة وتصوراتها! فالشعور العربي العام وخياله الجمعي الذي شكل محتوى الحاضنة العامة للفكر المجتمعي وثقافته، قبل حزيران 1967، والمستمر إلى اليوم، لم يرَ من تاريخ حركات التحرر الوطني من دول الاستعمار الغربي، أو ما سمّته اصطلاحًا غرضيًا الأمم المتحدة “الانتداب”، بدايات القرن العشرين، لم يرَ سوى القدرة على الفعل العسكري دون السياسي والمدني والحقوقي. فالفعل السياسي، وحسب ثقافة الانفعال وموروث التضحية والشهادة، فعلٌ ترَفي في موروث هذه الأمة التي رهنت مصيرها للتعلق بالقادة وكاريزميتهم الشخصية متأثرة بمفاعيل العمل الوطني التحرري، فمن فوهة البندقية تولد السلطة، تبعًا لماوتسي تونغ. وحقيقة الأمر أن من فوهة البندقية يمكنها إنتاج أفضل القيادات وأكثرها كمالًا فحسب، لكن الشيء الوحيد الذي لا تنتجه البندقية هو السلطة السياسية، حسب حنة أرندت! ما جعل المنظور العاطفي لدول المنطقة وشعوبها يعتقد أن حكام دولهم هم أبناء قادة التحرير الوطني آنذاك، كعبد القادر الجزائري، وعمر المختار، وسلطان الأطرش وغيرهم الكثير من رموزه؛ فساهمت تلك الثقافة في تكريس حكم الديكتاتوريات وعززت وجودها، برصيد قومي أو ممانع زائف، فهل ما يزال العقل العربي وثقافته قادرين على الثقة بحكم العسكر، خاصة أن نتاجه اليوم بعمر الربيع العربي نتاج مدمر لا ماديًا وحسب، بل وطنيًا وديموغرافيًا وثقافيًا؟
قلة ممن أدركوا بالعمق أنها هزيمة مجتمع، لم يبنِ مؤسساته الحديثة بعد في ضوء ثقافة التنوير والحداثة، ثقافة حقوق الانسان ودولة المؤسسات، مجتمع لم يختر بعد مقومات وجوده الحضارية، وأن الحرب ليست امتدادًا للسياسة بأدوات أخرى، كما كان يردد كلازوفيتش، بل هي خلاصة تجربة مجتمعية في الإنتاج على كل المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والصناعية، وعند ذلك يمكن للمقومات الذاتية للدولة أن تشكل مقومات ردع بديلة عن فعل الحرب العنيف والمدمر. وقلة من مفكرينا كأمثال ياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبد الله العروي وغيرهم ممن تداركوا حجم الكارثة، وتوجهوا لدراسة بنى المجتمع ونقده؛ فحوصر فكرهم من صانعي الهزيمة وطغم عسكرها، وعُمل على تحييدهم وتهميشهم عن ساحة الفكر الجمعي؛ لتذهب مؤلفاتهم في أدراج ومكاتب القلة القليلة من أبناء المجتمع، هم ومن يحمل مشروعهم، مُتهمين بالخيانة العظمى ووهن الشعور القومي وإضعافه! ولم يدرك العقل العربي إلى اليوم أنه قد علق مشنقته وأسس لمحرقة المجتمع، حين ارتهن لحكم الفرد ومن ورائه العسكر.
اليوم، ألم يأن الأوان بعد لسقوط العسكر؟ وسقوط العسكر يعني سقوط ذهنية وثقافة التصنيف والتراتبية والشخصانية والتبعية والعدوانية؟ هذا التساؤل الإشكالي لا يتعلق بالعسكر والجيش، ولا يعني أن الجيش هو بذاته هو الإشكالية، بل يتعلق بثقافة مجتمع ومشروع وطني يستبدل مقومات تلك الذهنية، وينتقل بها من اندفاعاتها العاطفية المصابة بالانكسارات المتتالية إلى مصاف العقلانية:
من ذهنية التصنيف إلى التخصص: من أحكام القيمة المبينة على التصنيف في الأفضل والأمثل والقادر على كل شيء، القيمة التي صبغت على الرئيس صفات وأسماء الله الحسنى، لا يأتيه العيب لا من تحت ولا من فوق، وهي الذهنية ذاتها التي يتعاطى فيها معظم المشتغلين بالشأن السياسي والمعارض لليوم، فكل يرى نفسه الأفضل، ومن دونه لا قيمة للمجتمع والعمل السياسي، ولم ندرك بعد ضرورات التحول إلى التخصص والقدرات المختلفة والمتمايزة والمتكاملة في بناء الدولة والمؤسسات.
من التراتبية إلى المساواة القيمية: من ذهنية الشيخ والزعيم والقائد الذي يأمر وينهى، من مقولة العسكر “نفّذْ ثم اعترض”، واستحداثاتها في كل مؤسسات الدولة حيث مدير أي مؤسسة هو بالصفات ذاتها المستوحاة من شخص القائد في إدارته لمؤسسته؛ ما أنتج المحسوبيات وأدواتها في الانتفاعية من وساطات ورشا وفساد، إلى حكم المتساوين في القيمة البشرية أولا، والإنسانية ثانيًا والقانونية بالضرورة.
من الشخصانية إلى الموضوعية: حيث إن النقد تهمة شخصية تكلف المرء حياته في المعتقلات، والحكم على أهله من بعده بالذمية السياسية، واليوم باقتلاعه من بلده ووطنه، إلى العقلانية الموضوعية في مقاربة الحقائق بمنهجية تحكم المصلحة العامة والوطنية، وأن حرية التعبير والنقد بالضرورة أهم أسلحة البناء في المجتمعات، لأنها تكشف العماء عن الأخطاء والمظالم التي دمرت البلد وتحوله إلى ركام.
من التبعية إلى التشاركية والمؤسساتية، حيث حول المجتمع بمؤسساته إلى أتباع ورعايا مصفقين مهللين، لا بل مريدين أيضًا، لم يفتأ مثقفو البلاط: للديكتاتور العادل، للقائد الملهم، لمنطلقاته النظرية في الفكر والقيادة، وتحولت معها مناهج التعليم والتربية والبحث إلى مؤسسات وهمية، غايتها تكريس تبعية العموم المجتمعي لمركزية السلطة في شخص رئيسها، بعيدًا عن التشاركية في المسؤولية والمؤسساتية التي تفترض كل مقومات المدنية والتفاعلية وتوازع الأدوار وتبادلها في سياق الدولة والمجتمع.
ومن سيكولوجيا العدوانية إلى الاحتواء والقبول، من نموذج التقوقع والكراهية، من الخوف من الحرية، كما الخوف من المجتمع وحركته، حتى كانت مقولة محاربة الإرهاب وإعلان الحرب على مجتمع الثورة تكريس لعدوانية لا تبررها سوى ذهنية التسلط والقهرية والتعسف وصلف الحكم، وهي الذهنية ذاتها التي تناصب العداء لكل رأي مختلف لدرجة القطيعة، والذهنية ذاتها التي تحكم معظم مفاعيل القوى السياسية المعارضة في تحاجزها ونفي كل طرف الآخر فيها.
اليوم، ألم تتحسس بعد المفاعيل المجتمعية عدمية وخراب ما قدمته هذه الثقافة من تحطيم وتهشيم لكل مقومات الدولة، وليس فقط بل كل إنجازات التحرير الوطني السابقة، حين أصبغت بصبغة النظام والفرد القائد؟ ألم تدرك البنى المجتمعية مقدار فوات ذهنيتها هذه وخطورتها على أي مشروع وطني، وألم تر مدى الكارثة التي تحل بدول المنطقة وما ساقه حكم العسكر من ويلات لها؟ وإلى متى سيبقى النقد وثقافة البديل الوطني أسيرة الفكر النظري وفقط؟
مضى خمسون عامًا على هزيمة حزيران، ولم يسقط حكم العسكر بعد، ولن يسقط إلا بسقوط الذهنية المولدة والمنتجة له، وثورات الربيع العربي والثورية السورية خاصة ليست حدثًا عابرًا فيها، بل إنها تكاد تزعزع كل هذه الأرضية الموروثة في العفن التاريخي والتأخر المهزوم، ويبدو أنها في عالم المتغيرات الكبرى لن تأتي بنتائجها السياسية والثقافية والمؤسساتية؛ ما لم تصل حواملها المجتمعية والسياسية والمعارضة منها، لقناعة تامة بنفي مقدمات الذهنية التسلطية العسكرية تلك، والانتقال معها لذهنية الحقوق والمواطنة والتشاركية على أنها ضرورات أولى لأي عمل سياسي وطني.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]