سندويشة عبد الله بين يديّ نصر الله


عبد الحميد يونس

عندما لا تكون في بيتك، ولا في بريّتك، ستسمع نباحًا كثيرًا، وفي كل مرة تسمع نباحًا، تتوهم أن أحدًا يدقّ عليك الباب.

عندما لا تكون فوق أرضك، ولا تحت سمائك، لا تستطيع أن تسمّي التسكّع ترحالًا! سيسميك التسكع مهاجرًا، أو مهجّرًا، أو مشرّدًا، أو مجهول النسب.

عندما لا تكون في فرشتك، ولا في سريرك، ولا تحت لحافك، فكل قطن العالم عاجز أن يدفئ عظامك!

*

عبدلّا ليس في بيته، ولا فوق أرضه، ولا تحت سمائه، ويسمع نباحًا كثيرًا، ولا يعرف مَنْ يدقّ عليه الباب.. ويتسكّع.

يجلس في مكان ما، لا على التعيين، وكيفما اتّفق، ويطلق العنان لرجليه نيابة عن مرّ الكلام، أو يطلق مرّ الكلام نيابة عن رجليه.. ويتسكّع!!

ذات غروب، بعد أن تغيّر لون شجرة الأحلام، من اللون الأخضر الربيعي، إلى اللون الأصفر الخريفي، كان عبدلّا يتسكع، كما أيّ غريب هائم على وجهه، في إحدى المدن الأعجمية، وكانت محتوياته الداخلية في حالة ربما ليس لها شبيه، يتمازج فيها الحزن، والغضب، والحيرة، وفقدان الهدف، والمعقول، وغير المعقول؛ لذا كانت خطواته بدورها تفكّر مزيجًا من الخيال، والواقع، والحلم، والوهم.

ترك رجليه تقودانه على غير هدى، بعد أن تساوى عندهما الجدوى وعدم الجدوى، والشّك، واليقين، والحاضر، والماضي، والمستقبل، وربما الأمل، واليأس، وفقدان الصواب.

بعد حين لم يعرف مدى حَينه! توقفت قدماه قدام محلّ، انتبه أنّ اسمه محلّ نصرلّا، يقدم وجبات سريعة. نظر إلى العامل الأحول، الذي يقف وراء الطاولة، فرآه نظيفًا أنيقًا، ورأى حوله شابًا يعرفه، كان يبيع الفلافل في محلّ طالما تردد إليه في إحدى الحارات الشاميّة؛ فتنزّلت مباشرة تحت ثيابه زخّةُ مطر منعشةٌ، قادمة من جبال الساحل السوري، وتفككت عقدة لسانه، فإذا به يتكلم اللغة الأعجمية، كما أهلها ويزيد. ترددت قدماه لحظة الدخول، لكنّ لسانه تحرّك من تلقاء نفسه، وهو في الباب!

دخل عبدلّا محلّ نصرلّا

وجلس ينتظر.

فَرَش عامل المطعم رغيفًا ناضجًا، من “خبز التنور البلدي!”، على الوجه الرخامي الصقيل، فقدّر عبدلّا أنّ قمحه وفد من الجزيرة السورية، ومن سهول الحسكة تحديدًا.

وضع عامل المطعم على وجه الرغيف مباشرة بضعة أقراص من الفلافل الناضجة الشهية، لا محروقة، ولا مسلوقة، فتأكّد عبدلّا! أن الحمّص الذي تكوّرت منه الأقراص، لا بدّ أن يكون بلديًا من الريف الطرطوسي.

الرائحة الذكية هي ما أوحت أنه منقوع جيدًا على الأصول، ومخلوط بما يكفي بالبهارات الحلبيّة.

وضع الشاب فوق أقراص الفلافل، بعد أن هرسها، بضع شرائح من المخلللات المورّدة، بلونها الطبيعي، فهمس عبدلّا: هذه والله من مخللات محافظة اللاذقية.

أضاف الشابّ بعدئذٍ، “كمشة” ملفوف ناعم، مفروم، أخضر، معافى من السموم، والمبيدات الحشرية، فقال قائل في رأس عبدلّا: هذا ملفوف قادم من سهول الريف الحمصي.

وزّع العامل قطعًا صغيرة من البندورة الحمراء الناضجة نضوجًا طبيعيًا، فعرف عبدلّا مباشرة أنها من البندورة الدرعاوية، غير البلاستيكية.

العامل يتبسّم، وهو يراقب عبدلّا بطرف عينيه، كيف يراقبه عبدلّا بمجمع نظره، فقدر عبدلّا أن العامل في محلّ نصرلّا، عرف ما يفكّر فيه، وقرأ ما يلملمه من مصادره التي جاء منها، مع كل إضافة جديدة؛ فهز عبدلّا رأسه موافقًا على اطّلاع العامل على ما يتنبّت في خياله، فهزّ رأسه العامل، دلالة الفهم والانسجام. توسّعت بسمة عبدلّا، فصارت ضحكًا صريحًا؛ فضحك العامل بدوره من باب واحدة بواحدة، لكن عبدلّا هذه المرة، لم يتأكّد على وجه اليقين، إن كانت ضحكة العامل لنجاحه في عمله، وإحساسه بالمهارة، أم لمتابعته ما يرتسم على شاشة خيال عبدلّا!

بعد ذلك رأى عبدّلا، العاملَ في محلّ نصرلّا، يمرر فوق مكونات السندويشة بشكل سريع، لا يخلو من استعراض الخبرة، بضع قطرات من زيت الزيتون البلدي الأدلبي، ثم يرشّ رشّة لا غير من الملح الصخري الديري.

نظر العامل إليها، وهي ممددة أمامه، ليتأكّد أنه لم ينس شيئًا يستحق الذكر، وحين اطمأن، جعل يلفّ المحتويات برشاقة، فتأكّد عبدلّا أن عامل نصرلّا تعلم أصول المهنة من الخبرة الحموية.

أخيرًا سحب العامل ورقة بيضاء نظيفة، لا يخالطها ريب، هي بلا شك وافدة من إحدى المطابع الدمشقية الشامية.

وحين باتت السندويشة جاهزة، تمتم العامل بضع كلمات، وهو يرفعها، فطنّت في ذاكرة عبدلّا أطرافٌ من اللهجة الحورانية.

مد يده يتناولها، فخطر في باله للحظة خاطفة كلمح البرق سؤال، فنطق فمه

نظر العامل بطرف عين ضاحكة ذكيّة وغمز:

*

العامل في محلّ نصرلاّ لم يفهم على عبدلّا

وهو لم يقل صحّة، ولا قال عافية

ولم تكن مكونات السندويشة من المحافظات السورية

وعبدلّا في الحقيقة لم يطلب سندويشة

ولم يدخل مطعمًا في الأساس

فقط كان لا يزال يتسكّع، وهو جالس في سرير ليس سريره، في غرفةٍ ليست غرفته، في بيت ليس بيته، في مدينة ليست مدينته، في بلد ليس بلده، في عالم لم يعد عالمه.

وعبدلّا ما يزال لا يعلم حقيقة إن كان مسافرًا، أم مهاجرًا، أم مهجّرًا، أم لاجئًا، أم لا يزال على قيود وطن، له محل من الإعراب في قواعد اللغة العالمية.

من يدري قد يكون عبدلّا موجودًا بغير المعنى المألوف للوجود

القصّة أنّ قصّة عبدلّا قصّة إشكالية!!

فهو لم يكن يومًا كما حلم أبوه أن يكون، وأبوه لم يكن يومًا كما حلم جده أن يكون، وجده لم يكن يومًا كما حلم جدّ جده أن يكون.

وكل ما هو فيه من وسوسة، كان يمكن ألا يكون، لكنه الآن هو كائن، لأنه، في الحقيقة، لم يتذوّق منذ سبع سنوات عجاف رغيفًا واحدًا، من الخبز السوري، من التنور السوري، من القمح السوري، من الأرض السورية. مع كل هذا، فكل هذا ليس هو الإشكالية كلّ الإشكالية!

الإشكالية الإشكالية هي أن عبدلاّ:

لا يعرف أين هو الآن

ولا إلى أين يسير

ولا إلامَ سيصير

ولا متى

ولا كيف

*

وعندما تكوّر عبدلّا، ماضيه على حاضره، وحاضره على ماضيه، وخافيه على باديه، على هيئة جنين كبير لم يولد بعد، فكّر:

عندما لا تكون تحت لحافك، ولا على فرشتك، ولا في بيتك، ولا تحت سمائك، ستسمع نباحًا، نباحًا كثيرًا،

وسوف تتوهم أن أحدًا يدق عليك الباب، لكنك لن تستطيع أن تفتح،

ليس لأنك لا تريد أن تفتح، بل لأنك لا تستطيع،

ببساطة ليس معك المفتاح،

لم يعد معك المفتاح،

المفتاح هناك،

في أكثر من هناك،

إن دار المفتاح هناك، يمكن أن ينفتح الباب هنا

لكن، إن دار المفتاح ها هنا، ليس شرطًا أن ينفتح الباب هنا،

ولا هناك!!




المصدر