on
الديكتاتوريات ولعبة الأقليات
أنور البني
الأقليات العرقية والدينية والقومية هي لعبة الديكتاتوريين المفضلة وسلاحهم السري؛ لتثبيت حكمهم واستجلاب الدعم الخارجي، ولإرهاب مجتمعاتهم وقمعها، ولقمع معارضيهم وسحقهم.
فإن كان الديكتاتور من أغلبية المجتمع، فإنه يستخدم الأقليات وحقوقها فزّاعةً لحشد الأغلبية معه، وتحشيدها تحت شعارات مواجهة التطلعات المختلقة للأقليات، ويستخدم ذلك سلاحًا للقضاء على الأصوات المعارضة لحكمه، وتكون تهمة التعاطف أو دعم حقوق الأقليات هي السلاح الأمضى ضدهم، كما حدث -ويحدث- في الجزائر والمغرب مع الأقلية الأمازيغية والطوارق، والسعودية مع الأقلية الشيعية، وإيران مع الأقليات العرقية كالعربية والكردية والتركمان، أو الدينية كالمسيحية والمسلمين السنة والأيزيدية، وروسيا مع المسلمين السنة، لتنسحب هذه المعادلة على كل الديكتاتوريات في أفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وإن كان الديكتاتور من إحدى الأقليات، فإنه يُحاول التلاعب بالأقليات الأخرى وتخويفها بالأغلبية ليحشدها إلى جانبه، ويخترع قصص مظلوميات وتهديدات بالإبادة ليُبرّر سيطرته على المجتمع وقمعه وسحق خصومه، ويستخدم هذه القصص كمبرر وذريعة كقميص عثمان، لشن الحروب على الأغلبية وسحق المعارضين، وسورية والعراق سابقًا والبحرين خير مثال على ذلك.
في الحالات التي لا يكون في المجتمع غير الديمقراطي أغلبية عددية لأحد؛ فإن المجتمع يظل يعاني من حال عدم الاستقرار، تفرضها التجاذبات الإقليمية والدولية والقوى وأوزانها، ويبقى استقراره الصوري مُعرّضًا للاهتزاز والانهيار، في أي لحظة يختلف فيها ميزان القوى أو تشتد الصراعات حوله؛ فيصبح ساحة لهذه القوة، كلبنان واليمن.
دائما يكون موضوع الأقليات مدخلًا للتدخلات الخارجية، وأحد أهم وسائل الضغط والمساومات والابتزازات على الصعيد الإقليمي والدولي، وقد مارس كل الديكتاتوريين لعبةَ الأقليات لجلب الدعم الخارجي حينًا، أو استدرار التعاطف الداخلي لتثبيت حكمهم وقمع شعوبهم، ولخنق الحريات والإعلام وإسكات كل الأصوات المعارضة.
ولعل النظام السوري كان الأبرع في هذه اللعبة الدموية، والأكثر إجرامًا في هذا المجال، فمنذ بداية الثورة السورية عام 2011 بدأ لعبته على لسان الناطقة باسمه بثينة شعبان، حيث بشرت باللعبة الطائفية لحشد طائفتها أولًا والأقليات الأخرى ثانيًا، وإخافة الأغلبية بوصمها بالإرهاب والتطرف، واستمرت اللعبة بعد ذلك إلى التضحية بالمسيحيين في مناطق يبرود ومعلولا وصيدنايا وبلودان، حيث سفكت دماء كثيرة لتمرير هذه اللعبة على العالم، وتواصلت اللعبة إلى دماء أبناء طائفة النظام نفسها، حيث سُفكت دماء لتخويفها بحمص واللاذقية وطرطوس وسهل الغاب، لرصّها وحشدها مع النظام، وكانت اللعبة الأكبر مع الأكراد بدعم وتسليم حزب الاتحاد الديمقراطي المناطق الكردية ليقمع الأكراد لمصلحة النظام، ويؤسس لحرب كردية-كردية وكردية-عربية، ويخيف الجار التركي بهذا التمدد المسلح للأكراد، ويخلق إلهاءً جديدًا أمام دول الجوار والسوريين، ولم تسلم من لعبة الأقليات لا الطائفة الدرزية التي تلاعب بها عبر حدودها مع محافظة درعا، وتخويفها من الإسلاميين القادمين إليها من هناك، أو عبر تفتيتها بواسطة أدواته من الطائفة نفسها في لبنان وداخل السويداء، ولا الطائفة الإسماعيلية من هذه اللعبة، فاستخدم (تنظيم الدولة الإسلامية) “داعش” بمسرحيات الكر والفر والهجوم والانسحاب حول مدينة السلمية لتخويف الإسماعلييين، وحشدهم مع النظام، وهم المعروفون تاريخيًا بمعارضتهم له.
النظام العراقي التابع لإيران على عهد المالكي، استخدم دماء الأيزيدين وشرف نسائهم وقودًا لدعم وتبرير التدخل الإيراني السافر، وتشكيل الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، وطبعًا نظام الملالي الإيراني الذي تلاعب بكل الأقليات الشيعية بالمنطقة يُضحّي بدمائها في سورية واليمن والعراق والبحرين والسعودية والإمارات، من أجل تدعيم ديكتاتوريته داخليًا، وصرف النظر عن المشكلات الهائلة الداخلية للنظام مع حاجات شعبه، وتوسيع حدود هيمنته الخارجية ليحمي نظامه داخليًا.
وكذلك عبد الفتاح السيسي في مصر يحذو حذو النظامين السوري والعراقي لتدعيم محاولة تأسيس ديكتاتورية، بعدما شعر بأن هذه اللعبة تُعطي نتائج إيجابية عند العالم، فبعد عودته من لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السعودية، يُهاجَم باص لطلاب صغار مسيحيين، ويبدأ الحشد والتحشيد واستدرار التعاطف والدعم، وموجة جديدة من القمع والإقصاء وخنق الحريات والتضييق على الناشطين وتعديل بالقوانين لفرض ديكتاتورية قانونية.
مع أن ألاعيب هؤلاء الديكتاتوريين مكشوفة تمامًا للجميع، إلا أنه ما زال هناك من يُروّج لأكاذيب هؤلاء الديكتاتوريين، ومن يصدقها، ومن يعرف الحقيقة ولكن هذه الأكاذيب تخدم مصالحه يتعاطى معها.
ستبقى لعبة الأقليات هي المفضلة لدى الديكتاتوريين، وستبقى دماء الأقليات مهدورة على مذبح السلطة لهؤلاء الديكتاتوريين، ما دام العالم يتعامل مع الضحايا والجرائم من باب نوعية الضحية، ودينها أو طائفتها أو قوميتها، وما دام يتعامل مع المجرم بالمعيار المختل نفسه.
ما لم يعتمد العالم المعيار الأساسي لحقوق الإنسان من حيث لا تمييز بين إنسان وآخر، لا من حيث الدين أو العرق أو القومية أو اللون أو المذهب أو الجنس، حيث إن المجرم هو مجرم مهما كان انتماؤه، ولا يمكن تغيير وصف جريمته أو السماح له بالإفلات من العقاب بسبب انتمائه الديني أو القومي أو الطائفي، وكذلك الضحية لها الحقوق والقيمة نفسها، مهما كان دينها أو قوميتها أو طائفتها أو جنسها، وما لم نتخلص من مسألة تمييز القاتل أو الضحية على أساس دينهم أو عرقهم أو طائفتهم؛ فسنبقى في دوامة الدم والقتل والدمار والتبرير.
الالتزام بالقواعد الأساسية التي تعتمد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان للتعامل مع المجرمين والضحايا وإدانة المجرم مهما كان دينه أو قوميته، ومساندة الضحية مهما كان دينها أو قوميتها، هو الذي يمكن أن يوقف دوامة القتل، ويرسل الرسالة الصحيحة بأنه لا يمكن تبرير القتل والجريمة والإفلات من العقاب تحت أي ذريعة، ففي القانون الدولي الإنساني لا يمكن استخدام تعبير الأقلية والأكثرية، لأن الجميع هم كائن لهم الحقوق نفسها، وعليهم الالتزامات نفسها، أينما كانوا.
المصدر