(الزوبعة) تفاصيل غير عادية


ضاهر عيطة

في كتابها (الزوبعة) الصادر حديثًا عن دار (كتابوك) للنشر، تحاول المؤلفة علا شيب الدين، ابتكارَ أسلوب خاص في كتابة المذكرات، يختلف عما اعتدناه. فهي حينما تسرد أحداثًا ووقائع، تتحرر من رتابة التسلسل الزماني والمكاني، تاركة مشاعرها وخواطرها وأفكارها، تتمرد على التواريخ والعناوين والأسماء، لتغدو روح الذات الفردية لدى الكاتبة، هي الحامل الفعلي لكل المسرودات؛ إذ تخضعها لحالات وجدانية أملتها عليها الذكريات الخاصة، لحظة ممارسة عملية الكتابة، فمعظم التفاصيل والأحداث والأسماء والأمكنة، تنصهر في ذات الكاتبة، لتصوغ منها مادة  إبداعية لها خصوصيتها وفرادتها، بل يمكن القول إن الكاتبة عُلا تحاول إعادة إنتاج مرحلة تاريخية من عمر سورية، لتغدو  تلك المرحلة تاريخًا شخصيًا، ممتدًا ومستمرًا، عند المؤلفة في اللحظة الآنية المصاحبة للكتابة، وفي اللحظة المستقبلية المرافقة لتواثب الكتابة، فهي ترصد تفاصيل ومشاهد نمت، على الخارطة السورية المحكومة من قبل سلطة البعث، وعادةً ما يتم طمرها في العادي، والاعتياد؛ فراحت تستحضرها، لتخضعها لمختبرها الروحي والفكري، وما تمتلكه من حس فلسفي وتأملي، وإذ بتلك التفاصيل البسيطة والصغيرة التي كانت مطوية في تلافيف النسيان والعادي، تنبثق فجأة لتحتل بؤرة الحدث، وتتحول من تفاصيل صغيرة، إلى أحداث كبرى، تتحكم بمصاير وأعمار معظم السوريين.

تطل علينا الطفلة عُلا، لتسرد عن أيامها ودهشتها وأوجاعها، والتشويه الذي يطال الطفولة في منظمة طلائع البعث! وتكبر عُلا قليلًا، فنراها في المدارس الإعدادية والثانوية، صبيةً مشبعةً بأحلام غذتها مطالعتها للكتب؛ فتحلق عاليًا، مقبلة على الحياة، وهي في أوج عنفوان الصبا، ولكن سرعان ما تتكسر تلك الأحلام في دهاليز المدارس التي لا تبيح الخروج عن المناهج الدراسية، حتى في طرق اللعب ومضامين الأحلام، فجميع الألعاب والأحلام يفترض أن تكون مسكونة بروح القائد، وبتخليد القائد، وترديد الشعارات الصباحية التي تبنتها سياسة القائد، ويغدو أمر تجسس الطلاب على بعضهم مسؤولية وطنية، وموهبة محببة، يكافئ من أبدع فيها.

وهكذا تلتاع الأحلام في قلب الصبية الحالمة، وتتعاظم الهوة والشرخ، بين الكتب والواقع، ولا يكاد الأمر يختلف عنه في الجامعة، حيث يغدو إعمال الفكر، وإنتاج رأي مغاير عن الأراء والأفكار المتفق عليها في المنهاج، أمرًا ممنوعًا، بل إن الحفظ والعلامات، هما من يحددان قيمة ومكانة الطلاب. ولا يختلف الحال مع المعلمة الطموحة، فهي تسعى جاهدة لخلق علاقة مختلفة مع الطلاب، لكن سرعان ما تصطدم بلوائح، تحدد الشروط والمهمات التي يتوجب عليها التقيد بها، عند التعامل مع التلاميذ. ويتضح من هذه التفاصيل وغيرها، كيف تم الاشتغال على قهر الفرد والجمع السوري، حتى إذا ما استيقظ حلم الحرية لديهم، استحقوا عليه الحرق والقتل والذبح، كما حدث مع انطلاق الثورة.

وعلى هذا النحو يستمر شريط الأحداث في كتاب (الزوبعة)، لكن من دون أن تضبطه حدود زمنية، فالأزمنة هنا تتراكم فوق بعضها، وفي ذلك محاولة من المؤلفة، لأن تنبش في تفاصيل التفاصيل التي أنتجت المعاناة الفردية في سن الصبا، والتي كان قد أُسّسَ لها في زمن الطفولة، ويتكرر الأمر في مرحلة الشباب. هي آلام وخيبات متراكمة، ومحاولات تشويه لا تتوقف، فالمدارس والرحلات والمعسكرات التي كانت تمضي إليها، لم تكن إلا مراحل أولية، لتحويلها مستقبلًا، إلى مقارّ عسكرية وأمنية، يصير فيها أجيال المستقبل، إما جنودًا، أو شبيحة، أو معتقلين، وهذا تمامًا ما تجلى على أرض الواقع عقب اندلاع الثورة السورية.

هذا الرواح والمجيء بين الأزمنة والأمكنة، بين المفاهيم والقيم، بين ثورة الحرية، وهمجية القمع والدم، بين الوطن والمهجر؛ أعطى ما كتبته عُلا أبعادًا جمالية وفكرية، وكان بمنزلة شريط سينمائي طويل، كشف النقاب عن تفاصيل عاشها المواطن السوري فترات طويلة، وكأنها حالة طبيعية في مجرى الحياة اليومية، دون التنبه إلى أن تراكم هذه التفاصيل البسيطة والصغيرة هو ما أنتج المأساة التي حلت على الشعب السوري. وعليه يمكن القول: إن عُلا استطاعت تشريح القهر والموت والمأساة السورية ببساطة متناهية.

وما يمنح كتاب (الزوبعة) أهمية كبرى، ناهيك عن كونه مادة إبداعية، هو أنه، استطاع أن يوثق أحداث أعوام طويلة من عمر البعث، ولم تكن هذه الأحداث نابعة من مخيلة المؤلفة، بكل كانت نابعة من أرض الواقع المعاش. وما ميز هذا الكتاب -إضافة إلى ما سبق- هو امتلاك صاحبته ذاكرة هائلة الحجم، فريدة من نوعها، عملت على توظيفها لتغدو مادة توثيقية، تكاد تجيب عن كل الأسئلة المتعلقة بـ: لماذا قامت الثورة السورية؟ فكانت كل حادثة تشتغل عليها، روح ولغة وفلسفة وأحاسيس المؤلفة، تستدعي قيام ثورة على هذا النظام الذي شوه معاني الطفولة والأبوة والتعليم والوطن والحب والإخلاص والأحلام.

كتاب (الزوبعة) هو أقرب ما يكون إلى رواية مذكرات، ليست مجرد مذكرات فردية وحسب، إنما هي مذكرات وطن، تم تهيئته ليصبح مادة مهيأة للذبح كما يُذبح الآن، لكن روح المؤلفة أضفت، على هذا الوطن، بعدًا كونيًا أسطوريًا، حال دون قدرة الأشباح على إخماد ما يشع على روحها من بريقه، وما يشع من روحها عليه.

الجدير بالذكر، أن عُلا شيب الدين كاتبة سورية، خريجة كلية الآداب، قسم الفلسفة، وخريجة كلية التجارة، قسم المحاسبة. صدر لها كتاب (ثورة الحرية السورية)، وتكتب في عدة صحف ومواقع إلكترونية.




المصدر