كتاب يبقى.. كتب تموت


نجم الدين سمان

لا أعرف كم قرأتُ من الكتب، لكني أعرف أربعةَ كتبٍ أعاوِدُ قراءتها، مرّةً تِلوَ مرّة: ملحمة جلجاميش- حكايات ألف ليلة وليلة- رسالة الغفران- حكاية حيّ بن يقظان، وأتحسّر لأنّ أحدًا لم يصنع فيلمًا سينمائيًا من ملحمة جلجاميش؛ مع كثرة الأفلام عن الحُكّام والزعماء!

 صادف أن شاركتُ في إعادة انطلاقة المسرح الجامعي، في جامعة حلب مطلع الثمانينات؛ فجاءنا مُخرج بشهادةٍ من معهدٍ خاصٍ في إيطاليا، مُقترِحًا الملحمةَ ذاتَها لثاني أعمالنا. وفي منتصف تدريباتنا؛ جاءتني نسخةٌ من مجلة “الرَكح” المغربية وفيها صور لعرضٍ عن ملحمة جلجاميش من إخراج الايطاليّ “أوجينو باربا” فإذا مشهديّاتنا التي نتدرّب عليها منسوخةٌ منه، وكأنَّ حالنا على الدوام، أن نعودَ فنستَنسِخَ بضاعتنا ذاتَها من سوانا!.

أتحسَّر أيضًا، لأنَّ أحدًا لم يَقُل لباولو كويللو:

– اعترف بأن حبكة روايتك (الخيميائي) مأخوذة من حكاية “الحمّال المصري والتاجر البغدادي” مِن غير أن تُشيرَ إلى شهرزادنا حتى.. بملاحظة عابرة!

 ولن أحكي عن “دانتي الليغيري”؛ أو عن “روبنسون كروزو”!

أعرِف فقط.. بأنّ كِتابًا قد يحيا لأجيالٍ وعقود، وبأنّ كُتبًا تموت، بينما هي خارجةٌ لتوّها من المطبعة! وبأنّ ثلاثة كُتّابٍ هُمُ الأكثرُ مبيعًا بين العرب الراهنة: نجيب محفوظ، نزار قباني، محمود درويش، بينما لا تتجاوز كتبُ سواهم حاجزَ “الألف نسخة” إلا قليلًا؛ ثم صاروا يطبعون 500 نسخة فقط؛ وبعضهم مئة نسخة -على آلة الريزو- انتسابًا إلى اتحادات كُتّاب السُلطة، أو.. للإهداءاتِ الشخصية فحسب!

ثم يجتاحنا مصطلح “عصر الرواية” لينعطف الشعراء والقاصّون والمسرحيون وشعراء الزجل والصحفيون إليها، كتابةً ونشرًا. ثم نكتشف بأن الروايات العالمية المترجمة إلى العربية هي الأكثرُ رواجًا بيننا، من رواياتنا؛ وأنّ ما يُقال عن “عصر الرواية”، عند العرب الراهنة، لا يتردَّد صَدَاه سوى بين جُدران النُخبة الثقافية ومجلاتها ومواقعها الإلكترونية!

أعرف أنّ للكتبِ مواسِمَ مُوضَاتٍ كالأزياء، ما إن تنقضي موضتها؛ حتى تراها ببضعِ دُريهماتٍ على الأرصفة، وأن كتبًا تقف وراء ترويجها سُلطاتٌ وحكومات وأحزاب وجماعات، وقد رأيت أكثر من حزبٍ يدفع الى الواجهة شاعرًا من الطبقة الثالثة أو الرابعة بين الشعراء، وحزبًا يُروِّج لكاتب قصةٍ متوسط الموهبة؛ وآخرَ لروائيٍ، سَردُهُ إنشاءٌ وحروفُهُ من النشاء! أمّا سُلطة البعث الانقلابية فجاءتنا بالشواعير والشويعرات وبأنصاف الكَتَبة، من كُلِّ حدبٍ وصوب؛ ثم تكفّل علي عقلة عرسان بترويض الكِبار أو بإقصائهم؛ وبتفريخ الأعضاء في اتحاد الكتاب بأكثر ممّا تفعله المداجِنُ والدواجن!

 أعرف كُتبًا، تُروِّجها دورُ النشر ذاتُها أو اتحاداتها، وكُتبًا تُروِّجها الجوائز ولجان التحكيم ومَن يُمَوِّلُها ويضع شروطها المُعلَنَة وغيرِ المُعلَنَة.

لكني أعرف بأن أحياء الورّاقين في دمشق وحلب وبغداد والقاهرة والقيروان والرباط؛ كما في الأندلس –أيضًا- قد تلاشت، كما تلاشت مكتبات كاملة: حرقًا ونَهبًا وتجارةً وإهداءاتٍ، لِمَن لا يعرِفُ قَدرَهَا، كما كتب عبد الرحمن الكواكبي في صحيفته (الشهباء) عن مُتسَلِّم مكتبة العائلة الذي عَيَّنته الولاية مُشرفًا عليها؛ فأخذ يُهدِي منها كلّما أراد التقرّب من أحد المُتنفِذين في الولاية ومن وجهائها.

 أعرف كُتبًا قد تَمَّ تحريمها وتجريمها وتكفيرها وحرقها في الميادين العامة، وكُتبًا منعتها الرقابات أو صادرتها بعد طباعتها؛ وأنّ الكتاب العربي اليومَ.. إلى انحسار، وأننا نقرأ أقلَّ بكثيرٍ من كلِّ الشعوب التي تقرأ، وقد أدركتني حِرفَةُ الوِرَاقَةِ ذاتَ يومٍ، فأسستُ دارَ نشرٍ عربية – أرمنية مُشتركة في حلب، مع صديقي الشاعر كيفورك تميزيان، ثم بادرنا نحنُ -دُورَ النشر غير الكبيرة- بمشروعِ توزيعٍ مُشتركٍ؛ بمستودع كتبٍ مُشترك؛ وبمُحاسبٍ واحدٍ للجميع؛ وبمشاركةٍ مُوحّدةٍ في معارض الكتاب، تُخفِّفُ نفقاتنا، بينما تضمن استقلالية كلِّ دارٍ بسياساتها في النشر؛ ثم فشلت التجربة كحال كلِّ عملٍ سوريّ جماعيّ في الثقافة؛ كما في السياسة؛ كما في الاقتصاد.. محكومًا بِقَدَرٍ عتيقٍ منذ الآراميين والفينيق؛ ألا نتوحَّدَ حتى في مواجهة الأخطار المشتركة، فأغلقتُ الدار، ولم ننشر خمسة وعشرين كتابًا، حتى لا تتحوّل إلى دُكانٍ؛ وأتحوَّلَ إلى دُكَّنجِيّ!

أمّا اليوم.. وبعد ست سنواتٍ من القصف والتدمير المُمَنهج، ومن الاعتقالات، ومن الحصار، ومن التهجير والتغيير الديموغرافي في بلدي سورية؛ فحالُ الكِتَاب إلى أسوأ حال، ولا ندري بالضبط مصيرَ مكتباتنا المنزليّة التي تركناها وراءنا، سوى أن جاري المؤيد للنظام قد أخبرني بأنهم قد عفّشوا بيتنا في ضواحي دمشق، فنهبوه سوى من الكتب، لكنهم داسوا عليها ذهابًا وإيابًا في مهمة النهب الأسديّ؛ ثم تذكّر جنودُ “الفرقة الأسدية الرابعة” كتبي.. ليت لأنهم سيقرؤونها!؛ فأخبرني جاري كيف حشروها في التنكات وأحرقوها ليتدفؤوا بنارها؛ بينما يقصفون مدينة داريا!

 كما لا نعرف حالَ كُلِّ مكتباتنا العامة التي تعرَّضَ بعضها للقصف وبعضها للنهب وبعضها صار في قبضة (داعش) -كما في مدينة الرقة وفي سواها- وبعضها تحت قبضة إخوة المنهج من أمراء الحرب. وهؤلاء جميعُهم يكرهون حتى كلمة ثقافة، ولديهم استعدادات غريزية لتكفير الناس والكتب معًا.

ما أعرفه.. أنّ وزارة الثقافة في الحكومة الائتلافية المؤقتة؛ لم تُصدِر كِتابًا واحدًا طوال أربع سنوات، ولم تدعم نشر كتاب، كما لم تُصدر مجلة ثقافية أو حتى نشرة دورية؛ وأنّ كِتابنا السوري اليوم في مهبّ الريح، فبين مئة خبر أو قراءةٍ عن كتبٍ صدرت، أجِدُ كِتابًا واحدًا لكاتب سوري، وقد لا أجِد، بينما يلوب الكُتّاب السوريون في تغريبتهم فُرَادَى، حول إمكانية نشر كتبهم، وأغلبهم تحوّل إلى النشر الإلكتروني.. يُحمِّل كتابَهُ بنفسه؛ ثم يروّج له بنفسه على وسائل الاتصال!

سيقول لي أحدٌ: ما بالك تحكي عن موت الكتب بينما مات مليون سوري منذ 6 سنوات؛ ولمّا يزالوا حتى الآن؟!

فماذا بوسعي أن أردَّ، سوى أنّ لي كُتبًا تموت هي الأخرى؛ وكُتبًا لا تموتُ بمَوتِ قُرَّائِها، بل تبقى لتكون شاهدةً على المجزرة الكبرى التي أودت بحياتهم؛ وبأحلامهم في وطنٍ حرٍ لكلّ السوريين.. لا يستبدّ به الطغاة وأشباهُ الطغاة.




المصدر