أزمة معارضات سياسية أم أزمة مجتمعات مزمنة
21 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
حبيب حداد
منذ أن أُجهِضت انتفاضة الشعب السوري السلمية من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة، ولم تكد هذه الانتفاضة التي كان يؤمل أن تكون مشروع ثورة تحررية مجتمعية شاملة، قد تجاوزت بعد عامها الأول، والتساؤلات المشروعة تُطرح سواء من قبل الوطنيين السوريين أو من قبل كل من يعنيهم الشأن السوري، حول الأسباب والعوامل التي أدت إلى إخفاق صيرورة هذه الانتفاضة والوصول بسورية إلى الأوضاع المأسوية الحالية، حيث المصير الوطني في مواجهة أخطر التحديات، خاصة بعد أن أضحت الأزمة السورية في مركز الصراع الذي يشمل كل المنطقة.
عزا البعض ذلك المآل وتلك النتيجة إلى قصور العامل الذاتي، حيث إن هذه الانتفاضة، من وجهة نظره، قد تفجّرت كردة فعل شعبية عفوية ضد واقع القهر والتهميش والاستبداد، لكن لم يتوفر لها حتى اليوم القادة الوطنية الكفؤة الواعية، القيادة مستقلة الإرادة والقرار، التي تمتلك رؤية استراتيجية موحّدة تُعبّر حقًا عن تطلعات الشعب السوري، في وضع نهاية لنظام الاستبداد، وبناء دولة المواطنة الحرة المتساوية. وهذا الأمر، أي قصور العامل الذاتي، وعدم تدارك موجباته طوال السنوات الماضية، هو ما يتفق، بشأن تأثيره التأسيسي السلبي، معظمُ أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية، ولكنه لم يكن السبب الوحيد أو العامل الوحيد وراء المسار الخاطئ الذي دُفعت إليه الانتفاضة، وأدى بالمجتمع إلى هذه الحرب العبثية المُدمّرة بكل أبعادها الطائفية والإقليمية والدولية.
عزا البعض الآخر الأسباب التي أسهمت في وصول سورية إلى هذه المِحنة الوطنية الدامية إلى طبيعة المعارضات السورية التي تشكلت وتوالدت -وما زالت- على امتداد السنوات الست الماضية، وبخاصة منها معارضات الخارج التي ادّعت لنفسها مشروعية احتكار تمثيل الشعب السوري وتجسيد إرادته والنطق باسمه. الواقع الذي لم يعد يُجادل في صحته اثنان أن تلك المعارضات التي كانت في معظمها -إن لم نقل: كلّها- من صناعة وإدارة الأطراف الإقليمية والدولية، قد لعبت دور الأداة التنفيذية المباشرة في حرف انتفاضة الشعب السوري عن مسارها الصحيح، كما لعبت في الوقت نفسه دور الواجهة في عسكرة وأسلمة وتدويل انتفاضة الشعب السوري. وتجلى أخطر فصول ذلك الدور في تغطيتها ودفاعها المحموم والمستمر عن المنظمات الإرهابية التكفيرية، وفي مقدمتها جبهة النصرة وبقية فروع القاعدة الأخرى، والتنظيمات الإسلامية التكفيرية المعادية للمشروع الوطني التحرري الديمقراطي الموحد، المشروع الذي كان تحقيقه على الدوام هدف الشعب السوري الأول، منذ أن أحرز استقلاله الوطني. إن الدور الذي اضطلعت به تلك المعارضات السورية واقع راهن لا يمكن لأحد يملك الحد الأدنى من الوعي العقلاني ومن يقظة الضمير الوطني إلا أن يعترف بخطورة حصاده المر، وما هو أدهى وأمرّ من ذلك كله أن تلك المعارضات، وبدلًا من أن تُعالج واقعها المأزوم بطريقة ناجعة، بالاعتراف بأصل علله والأسباب التأسيسية البنيوية التي قادت إليه، رأيناها طوال السنوات الماضية، مع أنها كانت تعترف بين الحين والآخر بهذا الواقع، تتجاهل تلك الأسباب التأسيسية البنيوية، وتلجأ إلى معالجات سطحية شكلية كالترقيع والتوسيع، يدفعها إلى ذلك بالدرجة الأولى حرصها على استمرار المحافظة على رضى ودعم الجهات الخارجية التي ترتبط بأجنداتها.
أما البعض الآخر فما يزال يعزو كل تلك الأسباب، ويرجع كل أصل البلاء الذي ابتُليت به سورية، إلى نظام الاستبداد والتخلف والفساد، النظام الذي ما يزال يجثم على صدر الشعب، منذ أكثر من أربعة عقود، النظام الذي واجه الحراك المدني السلمي ومطالبه المشروعة، منذ اليوم الأول، بالأسلوب الأمني القمعي الوحشي الذي كان من نتيجته تصفية رموز هذا الحراك بين الاعتقال والاستشهاد والتهجير. والواقع أنه عدا ما لحق ببنية المجتمع السوري الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والأخلاقية طوال هذه الحقبة، من تخريب واستلاب وتراجع وتشويه؛ فقد أدى استمرار هذا النظام الذي كان همّه الأول، من وراء كل الشعارات الوطنية التي أتقن استخدامها، والسياسات التي انتهجها، أن يُعيد إنتاج نفسه، ولو عن طريق التوريث. وكما رأى عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو، فإن تعطّل التطور الطبيعي للمجتمعات في البلدان التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية أو فاشية، يسودها القمع وغياب أبسط الحريات الديمقراطية وحقوق المواطن الأساسية، إن مثل هذا المناخ -إذا ما استمر فترة طويلة- لن يؤدي غالبًا إلا إلى نشوء معارضات قاصرة في رؤيتها وبرامجها وأساليب عملها، لأنها تكون معارضات مبنية على ردات الفعل على سياسات النظام التسلطية التي ينحصر همها الأساس بإسقاط النظام والوصول إلى السلطة دون أن تكون مؤهلة، سواء برؤيتها القاصرة أو بممارساتها العبثية العشوائية وغير الهادفة، للعمل من أجل بناء النظام البديل والمستقبل المنشود الذي يتطلع إليه شعبها.
هناك طبعًا البعض الذي ما يزال يحصر أسباب فشل انتفاضة الشعب السوري التحررية في عامل واحد، ليس إلا، وهو تخلي المجتمع الدولي عن الوقوف إلى جانب الشعب، ونكثه بالعهود التي كان قد قطعها، وتجاوزه للخطوط الحمر التي كان قد وضعها، ذلك كان موقف مختلف أطراف الوضع الدولي التي اعتبرها صديقة للشعب السوري، وطالبها بالتدخل العسكري المباشر في سورية لإسقاط النظام، باعتبار أن البديل جاهز وموحد ومؤهل وقادر على تحقيق مطالب الشعب السوري، في بناء سورية الجديدة، دولة المواطنة الحرة المتساوية التي تأخذ مكانها في مسار الدول الديمقراطية الحديثة في مطلع القرن الواحد والعشرين! نعم لم تنفذ الدول الكبرى الضالعة في الشأن السوري ما طلبه السوريون منها، وتبين لاحقًا أن ما يرسم سياسات هذه الدول في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم هو مصالحها أولًا وأخيرًا، أما ما كان يُكرره الآخرون على المسامع بأن يحدد السوريون توجهاتهم ويصوغوا خططهم وبرامجهم على أساس إدراك سليم لموضوعة تقاطع المصالح، فلم يكن يقنعهم، ولَم يُعيروه أي اهتمام، بل ذهب السوريون في مواقفهم وتصريحاتهم اليومية إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما حكموا على مواقف تلك الدول التي كانوا يعدّونها صديقة لهم، بالتواطؤ ضدهم والتآمر عليهم ووقوفها عمليًا إلى جانب النظام السوري!
إن الوضع الصعب الذي تعيشه سورية اليوم، وتواجه من خلال استمراره كل المخاطر التي تهدد وحدتها السياسية والجغرافية والمجتمعية، إنما يدعو السوريين، على تعدد توجهاتهم السياسية والفكرية وتنوع انتماءاتهم القومية والدينية والثقافية، وقبل ضياع الفرصة، يدعوهم إلى التوافق جميعًا على الاعتراف والإقرار بالأسباب الحقيقية التي أوصلت سورية إلى هذا المأزق المصيري، وأن يوحّدوا رؤيتهم وجهودهم في ضوء ذلك، بإرساء قاعدة الانطلاق التي على أساسها يمكن صياغة برنامج الإنقاذ الوطني الذي يكفل استعادة قرارهم الوطني المستقل، وتحقيق تطلعات الشعب، تلك هي في الخطوة الأولى التي تُعيد المسألة السورية كهوية شعب عمره آلاف السنين، وحقوق مشروعة سلبها الاستبداد وشوهها واغتالها، وأهداف إنسانية وحضارية، إلى موقعها الصحيح.
كي يتمكن السوريون من تحقيق ذلك، لا بد لهم جميعًا من أن يتجاوزوا البرامج والوسائل والأساليب واللغة التي استخدموها طوال السنوات الماضية، وأن يعودوا إلى ذواتهم الفردية والجماعية، ويعترفوا بكل قناعة بأن الأسباب التي ذُكرت أعلاه، كانت بلا ريب في رأس الأسباب التي قادت إلى أوضاعهم الحالية، وأوضاع البلدان العربية الأخرى التي شهدت انتفاضات مماثلة في سياق ما سُمّي بالربيع العربي. لكن تلك الأسباب والعوامل ليست هي العامل الرئيس في فشل خططهم ومشاريعهم النهضوية، لأن تلك الخطط والمشاريع السابقة والبرامج والمهمات التي طرحتها المعارضة، منذ ست سنوات، لم تنطلق من الاعتراف بالحقيقة الموضوعية التي ما زالت مُغيّبة عن واقع الفعل حتى الآن، وهي أزمة مجتمعاتنا المزمنة والشاملة، الأزمة التي جاءت تلك الانتفاضات لتكسر قيود الاستبداد والتخلف والتهميش والتبعية، وتطلق مسارها نحو آفاق التنمية والتقدم والحداثة.
عليهم أن ينطلقوا، في كل برامجهم التحررية، من التشخيص السليم لمعطيات الواقع الراهن، وهي تخلف بنيات المجتمع السوري السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والفكرية المزمنة، ذلك أن هذا المجتمع كان ضحية استهداف، وتعطّل تطوره الطبيعي في شتى المجالات، حيث لم تُتح له مثل هذه الفرصة من الحياة الديمقراطية النسبية، إلا فترة وجيزة بعد الاستقلال، وفي خمسينيات القرن الماضي، فقد كانت سورية في مقدمة البلدان التي أحرزت استقلالها الوطني من بين دول العالم الثالث التي نجدها اليوم قد قطعت أشواطًا واسعة في مضمار التنمية والتقدم وفي مختلف الميادين.
إن أزمة المجتمع السوري المزمنة التي لم تتصرف معها القوى السياسية بوعي، سواء على صعيد الفكر والتنظير، أو على صعيد الممارسة والتدبير، ويرجع أساسها إلى فشل بلداننا حتى الآن في بناء الدولة الديمقراطية، أي الدولة – الأمة، إذ لا يمكن بالتالي لأي مشروع إصلاحي نهضوي أن يجد سبيله إلى التحقق والنجاح إلا إذا توجّه إلى معالجة جذور الخلل العميق في بنية هذه المجتمعات، وطرحنا جانبًا كل المواقف والشعارات الدوغماتية الخلبية، مثل سياسات حرق المراحل، أو الإصلاحات الفوقية التي يمكن أن يقوم بها مستبد عادل أو حزب واحد قائد.
عمليا، كي ننتقل من الحديث عن المنطلقات العامة في مواجهة الأزمة الوجودية التي تعيشها سورية اليوم، والانتقال إلى سورية التي يريدها السوريون، “سورية التي تشبهنا” كما يُعبّر البعض عن ذلك، والتي سنتناولها في مقال لاحق، فإننا نكتفي الآن بالتأكيد على ثلاث دعامات، لا بد من توفرها اليوم قبل الغد؛ من أجل السير الجاد في برنامج الإنقاذ الوطني: وأول تلك الدعامات أن يعود السوريون إلى التمسك بهويتهم الوطنية التي ينبغي أن تعلو وتستوعب كل الروابط والانتماءات الأخرى، وثاني تلك الدعامات أن يكون همّهم الأول، وقبل الحديث عن أي برنامج إداري أو سياسي أو اقتصادي، أن يستعيدوا وحدتهم الوطنية الممزقة، وأن يعملوا على صيانتها وتصليبها، باعتبارها تُمثّل العروة الوثقى لحيوية وقدرة الشعب على التطور والتقدم والإبداع. وثالث تلك الدعامات أن يلتقي السوريون في مؤتمر وطني شامل، يُمثّل كل توجهاتهم السياسية وقواهم المجتمعية، دون أي احتكار أو إقصاء أو تهميش، مؤتمر ينعقد تحت رعاية الأمم المتحدة، يتدارس فيه السوريون الأوضاع الخطيرة والمأسوية التي يمر بها بلدهم بكل أبعادها الدولية والإقليمية؛ ما سيوفر لهم، في ضوء تجارب السنوات الست الماضية، الفرصةَ المناسبة لوضع برنامج الإنقاذ الوطني والتحول الديمقراطي، بالاستناد إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصِّلة.
[sociallocker] [/sociallocker]