أنا ما كنتُ جبانًا، ولكني صرتُ
21 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
حمدي المصطفى
[ad_1]
حدث هذا منذ أكثر من ثلاثين سنة، عندما كنت في الصف الخامس، يومها اتفق خمسة وعشرون طالبًا، أنا واحد منهم، على شراء كُرة قَدم للصف، كان ثمن الكرة خمسًا وعشرين ليرة، جمعنا المبلغ واشترينا الكرة، وشاء القدر أن نفقد تلك الكرة، في أول مباراةٍ لنا، كان زميلنا رجب يضرب ضربة ركنية لفريقنا، وبدلًا من أن يرسل الكرة إلى المرمى أرسلها إلى الصف الرابع، عند الأستاذ جاسم، خرج الأستاذ غاضبًا متوعدًا؛ فهربنا، وتوارينا، ولم نجرؤ على طلب الكُرة حتى آخر الدوام، علّه يكون قد هدأ، توجهتُ أنا إليه معتذرًا وسائلًا إياه الكرة، ولكنه قال لي: إنه كشَمَ الكرةَ ورماها في الحاوية. عدت أدراجي خائبًا، وأخبرت صحبي بالقصة؛ فاتهموه بالكذب، وبأنه يحتفظ بالكرة، وانقضى الأمر بالسبّ والشتم، تارة على رجبٍ الذي رمى الكرة، وتارة على جميلٍ الذي أفلت الكرة، وتارات كثيرة على الأستاذ جاسم نفسه. في اليوم التالي همس رجب للرفاق، وقد ادعى أنه رأى ابن الأستاذ جاسم يلعب بالكرة ذاتها في الحي، وأقسم أن الكرة هي ذاتها التي قال الأستاذ إنه كشمها، فغمرَنا أمل كبير بأننا سنستعيد الكرة، ورأينا أن نعيد الطلبَ على الأستاذ علّه يكون قد غيّر موقفه. قال صالح: لا ينبغي لنا أن نُقدم على أي خطوة، قبل أن نتأكد من أن الكرة هي ذاتها، لئلا نكون من النادمين. عقدنا العزم على التأكد من الأمر، فذهبنا ننتظر في حارة بيت الأستاذ جاسم حتى خرج ابن الأستاذ، وأخرج معه الكرةَ، تأملناها جيدًا، وأنعمنا النظر فإذا هي هي، أشار رجب بأن نسرق الكرة من الصبي، كما فعل أبوه بنا من قبل، وليكن ما يكون؛ ولكني عارضت الفكرة، وقلت له كلمة أحفظها: لا يجوز تصحيح الخطأ بالخطأ، وحذرت الصحاب من نتائج هذا الفعل في العاجلة قبل الآجلة؛ فاقتنع الرفاق، وطالبوني بالرأي، فقلت: الرأي أن نأتي البيوت من أبوابها، نطرق الباب، ونطلب الأستاذ، ونعتذر منه مجددًا، ونسأله الكرة. رضي الجميع، ورشحوني لهذه المهمة ذلك بأني أكثرهم جرأة، كما زعموا؛ اتجهت إلى الباب، وطرقته بقوة وثقة، ففتح الأستاذ هو لي الباب، ولما رآني ضيّق عينيه أكثر مما هما ضيقتان، وقطّب حاجبيه حتى بانا متصلين، وقرّب يديه من وجهي، وقال: نعم… كانت كلمة (نعم) حادّة بما يكفي لأشرقَ بريقي، فقلت له، بثباتٍ لا أعرف مصدَره: أستاذ، الكرة التي قلت لنا إنك كشمتها، هي ذي عند ابنك، فأعطنا إياها، لو سمحت. وإنّا لنأسف لما حدث، ونعدك بألا يتكرر. امتقع وجه الرجل فجأة، وقال: قلتَ لي إنك تريد الكرة، يا مصطفى، ها.. حسنًا، سأعطيكم الكرة، ولكن ليس الآن، وإنما غدًا في الصف، اغربوا عن وجهي الآن. رجعنا إلى البيوت، وكأنّ الكرة معنا، وأخذنا نتحدث عن مكان مباراة الغد وزمانها، وعن تفاصيل الفريقين وغير ذلك.. رجعنا وكلنا أملٌ بأن يوم غد سيكون أجمل من اليوم. في اليوم التالي، وقبل دخول الأستاذ جاسم إلى الصف، كنت أسجّلُ أسماء المشاغبين على السبورة، إذ كنت عريفَ الصف وقتئذ، دخل الأستاذ، ولم تكن الكرةُ معه كما كنا ننتظر، وإنما كان يحمل عصًا ما رأى مثلها طالبٌ من قبل قط، قال لي هادرًا: ما هذه الأسماء على اللوح؟ قلت: المشاغبون، وهممتُ بالدخول إلى مقعدي، فأشار إلي أن الزم مكانك، وقال للمسجلة أسماؤهم: تعالوا، فجاؤوا؛ فانهال عليهم ضربًا باليمين، وكلما أخذ أحدٌ منهم حظه من العقاب، عاد إلى مقعده راكعًا، ويداه بين فخذيه من شدة الألم، ولما انتهى منهم، قال لي: أنت، ضع الكرسيّ وسط الصف واخلع حذاءك، واجلس، لم يكن لأي أداة نفي من سبيل إلى فمي، امتثلت أمره، جعلت أحل خيط “خفافتي” ببطء المتأمل عفوًا، فسلخني عصًا على كتفي، وقال: هيّا أسرع، جثيت منقلبًا على الكرسي، كانت تلك أول -وآخرَ- فلقة في حياتي، وبدأ الضرب الشديد على قدميّ، والأستاذ يسأل: أين الكرة؟ أجبني. هل هي عندي؟ وكلمّا قلت نعم، ازداد الضرب واشتد، حتى قلت: لا، يا أستاذ، ليست عندك؛ فأعاد عليَّ السؤال: إذن أين هي؟ قلت: لا أعرف، فقال: بل تعرف، الكرة تمزقت. ها…. ماذا حلّ بها؟ قلت: تمزقت، فقال: وأين هي الآن؟ قلت: لا أعرف؛ فازداد الضرب على قدميّ، وقال: هي في الحاوية.. أين؟ قلت: في الحاوية، قال: طيب، وهل رأيتها بعينك؟ قلت، مختصرًا الطريق: نعم رأيتها بعيني، فقال: قل لرفاقك الآن إنك رأيت الكرة بعينيك هاتين في الحاوية، وهي مكشومة، وأشرْ إلى عينيك عند قولك: “هاتين”، فقلت كما أمرني، ثم استدار إلى الطلاب، وقال: أين الكرة؟ أجيبوا، فقالوا جميعًا: الكرة تمزقت، ورأيناها بأعيننا ملقاة في الحاوية، فقال الأستاذ: جيد، الآن أنتم طلاب جيدون، وأتمنى أن أسمع أن أحدًا منكم قال غير هذا الكلام.
انتهى وقت الدرس، وخرجنا من الصف، وقد تعلم أربعون طالبًا، في أربعين دقيقة، ما مصيرُ من يُطالب بما هو له.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]