المرأة في غبار التاريخ
21 حزيران (يونيو - جوان)، 2017
جبر الشوفي
يشكل الوجود المعنوي للمرأة في مجتمع ما، بأبعاده القانونية والسياسية مؤشرًا جوهريًا مهمًا، إلى مستوى الحرية الاجتماعية والسياسية والفكرية التي بلغها هذا المجتمع (الدولة) أو ذاك. وعلى الرغم من أنّ الوضع الدستوري والقانوني يحدد هذا الوجود المادي والمعنوي للمرأة ويصون حقوقها ويتابع مستوى تنفيذها؛ إلا أنّ هذا الوجود المصان قانونًا، كثيرًا ما يضمر في ثناياه تحفظات اجتماعية عالقة من بقايا ثقافات عصور خلت، وهي ما تزال تضعها كعوائق وعقبات حقيقية، في طريق تحولها إلى ثقافة ووعي عام، ما زالت تعبر عن نفسها بأشكال شتى! ولا يقتصر الأمر هنا على مجتمعاتنا الشرقية والمجتمعات ذات الهوية الإسلامية العامة، بل يتجاوزها إلى مجتمعات أخرى، ربما كانت وثنية أو هندوسية أو غير ذلك، لم تزل ترفع ثقافاتها وعاداتها وسلوكها إلى مرتبة العقيدة الدينية، وتضفي عليها طابعًا إيمانيًا، لا يقبل النقاش ولا المساءلة؛ مما يصعّب إمكانية الوصول إلى وضع إنساني، يضمن للمرأة حضورها وحقوقها كأنثى وكإنسانة كاملة، بل يتركها كحالة تحدّ دائم، تتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكل المؤتمرات والتشريعات التي نصت صراحة على مساواة الجنسين في الحقوق والواجبات، بحيث يشكل استمرار الوجود القانوني لجريمة الشرف -مثلًا- تعبيرًا عن هذه الحالة المتردية من الوعي والثقافة المجتمعيين!
في الحقيقة، لا يقتصر هذا الوعي الذكوري تجاه المرأة على أكثرية بين المؤمنين والمتدينين عامة، بل يتجاوزهم إلى كثير من أبناء مجتمعهم الذين يسوّقون أنفسهم كأصحاب فكر حداثي ومتنور والذين ما إن تواجههم قضية تتعلق بالأنثى كجنس، حتى يبرز ما تنطوي عليه نفوسهم من تخلّف ورجعية، ومن ارتهان إلى العقل الغريزي ذاته، أو ربما أكثر تعنتًا وعندًا، ويبرز هذا العند والتعنت بشكله الصريح والواضح -أيضًا- في مسألة رفض زواج المرأة من الآخر المخالف، في الطائفة أو الدين أو القومية، في معظم ثقافات جماعاتنا السورية المتجاورة غير المتقاطعة أو المتفاعلة؛ مما ساهم في تعزيز حالة التشظي الاجتماعي والسياسي، خلال ما يزيد على ست سنوات من عمر الحراك السوري، ودفع أكثر فأكثر بالوعي الغريزي إلى التصدّر على حساب العقلانية والوعي الوطني العام. والأصعب من هذا والأغرب، أن يعدّ أصحاب الوعي البدائي والغريزي أولادَهم ملكًا خاصًا خالصًا لهم، ولا يجوز لا لسلطة ولا لقانون، أن يتدخل في طبيعة العلاقة والقوانين المرعية التي تسري على مثل هذه الأسر، فأولادهم ليسوا أبناء (الدولة) المجتمع، كما في الديمقراطيات الغربية التي تعتبر كل الأطفال أبناء المجتمع؛ وبناء على ذلك، تتكفل السلطات بتعليمهم وتوفير وسائل نموهم الصحية والتأهيلية، منذ أن يتكونوا أجنة في الأرحام تحت رعاية الأسرة، حتى ينضجوا فيحق لكل منهم أن يستقل عن أسرته، باعتباره فردًا بالغًا وكيانًا خاصًا مكتمل الحقوق والواجبات، وتوفر له القوانين والأنظمة الحماية والحصانة التامتين، من أي تعدّ على حريته أو انتقاص من حقوقه، أو حتى سوء معاملة.
يشكل ذاك الوعي التقليدي وهذه العلاقة البطريركية الغريزية، إحدى عقبات التحول، نحو الحداثة والديمقراطية في عالمنا المعاصر؛ إذ لا يمكن للحداثة ولا لنظام الحريات (الليبرالي/ الديمقراطي) أن يغدو ثقافة وسلوكًا، من دون أن ينص في تشريعاته، على حرية الفرد باعتباره كيانًا (ذاتًا) واعية مستقلة، وعلى حاجاته الجسدية والروحية، ولا يمكن ذلك، من دون أن يتحرر المجتمع من هذه الدونية الثقافية، ليعتبر كل انتقاص لها، انتقاصًا لكرامة الإنسان وحريته الفردية التي تبتعد به عن مفهوم الرعية والقطيع، أو حتى مفهوم الفرد القربان للجماعة، فحيث يكون المواطن، هو السيد الحر الكريم، يغدو من حقه أن يرفض أي اشتراط، ما لم يكن قانونًا عامًا، أو واجبًا مقرًا من الدولة (المجتمع)، سواء كان ذكرًا أو أنثى .
من بين كل العقبات والعوائق الواقعية في وجه الحداثة، يبقى وضع المرأة العقبة الأهم والأصعب، وذلك لأنّ العقل الجمعي التقليدي الذي دُفع به إلى كثير من الواجهات والمواجهات الاجتماعية والسياسية، ولا سيّما في حالات النزوح واللجوء والتظاهر والاعتقال والسياسة، ما زال يتحفظ أو يقف موقفًا عدائيًا من المرأة، على الرغم من مواجهتها لكل الظروف التي تحدت مفاهيمه وثقافته وعاداته، وكثيرًا ما وجد -عند المرأة- حلولًا واقعية لوضع معقد وصعب، من دون أن يوازيه اعتراف واقعي بدورها، مع أنه رضي أن تذهب إلى دول اللجوء، لتقوم بلمّ شمله، ومع أنها كثيرًا ما تكفلت بإعالة أسرة كاملة.
وإذا كان منطق الحياة الواقعي والوعي الحداثي الديمقراطي لا يخولنا أن نمنع هذه المظاهر السلوكية المتحفظة المعبرة عن ثقافات بعينها، حينما تأتي كاختيار فردي حر، فإن الوعي الديمقراطي ذاته واشتراطات التحرر والتحديث، المتوافقة مع حقوق الإنسان وحقوق المواطنة المتساوية، تفرض علينا أن نعمل على تحرير إرادة الفرد ليكون حرًا ومستقلًا في كل خياراته التي لا تتعارض مع الخير العام، والمصلحة العامة للمجتمع، من دون أن نرخّص لجماعة معينة أو فكر معين ديني أو دنيوي، أن يفرض وصايته وغيرته المدعاة، على أخلاق المجتمع وثقافته وسلوكه، أو أن يفترض أن اشتراطاته هي المجال الوحيد المتاح والمخول، ليمارس تحفظاته على الحرية الفردية والاجتماعية تحت أي مبرر كان!
ومن المؤسف أنّ الفكر المتمكن من موروثه التقليدي العميق الجذور، والبعيد كل البعد عن الحداثة والوعي الديمقراطي، والذي بات يجمع بين الاستثمار في التقنيات والوسائل الثقافية والإعلامية الحديثة، في الوقت نفسه الذي يكفر فيه منتجيها، ما زال يعمل بكل هذه الوسائل المتاحة، مضيفًا إليها وسائل الترهيب والترغيب المادي والمعنوي، وعمليات غسل الأدمغة وشراء الولاء والطاعة؛ ليفرض شروطه المخالفة لمبدأ الحرية، على المرأة والمجتمع، وليعطي تفويضًا لنفسه، ليغتصب مفهوم الحرية ثقافة وممارسة وسلوكًا، عساه أن يئد مولود الحرية الذي يتبرعم في ربيعنا العربي.
[sociallocker] [/sociallocker]